التصعيد الروسي في أوكرانيا: تقاطع الجيوبوليتيك مع الجيواقتصاد في ظل تراجع الردع الأميركي وصراع المعادن النادرة

التصعيد الروسي في أوكرانيا

التصعيد الروسي في أوكرانيا: 

تقاطع الجيوبوليتيك مع الجيواقتصاد في ظل تراجع الردع الأميركي وصراع المعادن النادرة

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

10\4\ 2025

الحرب تدخل مرحلة جديدة لإعادة تشكيل النظام الدولي

منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى البيت الأبيض والتصعيد الروسي الأخير في أوكرانيا في مارس-أبريل 2025، أصبحت الحرب الروسية على أوكرانيا أكبر من مجرد صراع عسكري، بل محرك رئيسي لإعادة تشكيل النظام الدولي على صعد متعددة، من الجيوبوليتيك إلى الجيواقتصاد، إلى دور الولايات المتحدة في الأمن الدولي. هذا التصعيد يكشف عن تطور جديد في الصراعات العالمية، حيث تداخلت الأبعاد الجيوسياسية مع الأبعاد الاقتصادية، في وقت تراجع فيه الردع الأميركي وبرزت موارد الطاقة والمعادن النادرة كأدوات رئيسية للضغط والمساومة في اللعبة الدولية.

البعد العسكري والتكتيكات الميدانية (مارس-أبريل 2025) – تكتيكات الأرض والنار

شهدت أوكرانيا خلال شهري مارس وأبريل تصعيدًا غير مسبوق في الهجمات الروسية، حيث شنت موسكو أعنف ضرباتها منذ أشهر، مستهدفة المدن الأوكرانية بشكل منهجي، مع تركيز واضح على المناطق السكنية والبنية التحتية المدنية. هذا التصعيد المتسارع أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، ودمر مرافق حيوية، في ظل صمت دولي مقلق.

التصعيد الروسي الأخير جاء بعد شهور من استنزاف الطرفين الروسي والاوكراني، حيث تكثف العمليات العسكرية الروسية في الشمال الشرقي والجنوب الأوكراني، بهدف استعادة الأراضي المفقودة في إقليم كورسك، وتعزيز مكاسبها في أقاليم مثل دونيتسك وخاركيف وزابوريجيا. ويترافق هذا التصعيد، مع معاناة أوكرانيا من نقص في الذخائر، خاصة المدفعية من عيار 155 والدفاعات الجوية، كما أن الضغوط الداخلية تتزايد مع ملامح تراجع الدعم الغربي. يشير ذلك إلى أن المعركة لا تقتصر على الجبهات العسكرية فقط، بل تمتد إلى تعزيز الاستقرار الداخلي، الذي يهدد باستنزاف الموارد البشرية والمادية لأوكرانيا. خصوصا مع تصاعد الشكوك حول ديمومة الدعم الأميركي.

لا يمكن النظر إلى هذه الهجمات كعمليات عسكرية تقليدية فحسب، بل تندرج ضمن استراتيجية روسية تهدف إلى فرض واقع ميداني جديد. استخدام روسيا لصواريخ باليستية ومجنحة وطائرات مسيّرة هجومية يعكس تحولًا في أسلوب الحرب، نحو ضربات مركزة على المدنيين والبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك وسائل الإعلام. وبحسب تصريحات الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي، فقد أطلقت روسيا في الأسبوع الأول من شهر ابريل أكثر من 1,460 قنبلة موجهة، و670 طائرة مسيّرة، وما يزيد عن 30 صاروخًا، ما يدل على تصعيد ممنهج يهدف إلى إنهاك أوكرانيا ماديًا ومعنويًا. في الوقت ذاته، رفعت دول الجوار مثل بولندا حالة التأهب، ونشرت مقاتلاتها وعززت دفاعاتها الجوية، خشية توسع الهجمات الروسية نحو أراضيها، وهو ما يعكس تنامي المخاوف الغربية من توسع رقعة الحرب.

الجيوبوليتيك والتحالفات الدولية: موسكو على خط التوازنات العالمية

التحركات العسكرية الروسية الأخيرة تتقاطع مع إعادة تموضع كبرى في الخارطة الجيوبوليتيكية ومساعيها لإعادة تشكيل النظام العالمي. فعلى المستوى الإقليمي، نجحت موسكو في تعميق علاقاتها وتحالفها الاستراتيجي مع بيلاروسيا، لكنها خسرت الكثير من مكانتها في اسيا الوسطى وفي إطار “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”. اما على المستوى العالمي، تنخرط روسيا في إعادة تفعيل “محور الجنوب العالمي”. موسكو تسعى لتقوية تحالفاتها مع بلدان مجموعة “بريكس+” و”منظمة شنغهاي”، مستغلة النفور المتزايد من السياسات الغربية، وخاصة في دول أفريقيا وآسيا. ومن جهة أخرى، تواصل روسيا استثمار انقسامات السياسة الأوروبية – خاصة بين المعسكر البولندي-البلطيقي المتشدد، والمحور الألماني-الفرنسي الحذر نسبيا، والمحور السلوفاكي المجري الداعم للكرملين – حيث تسعى روسيا إلى استثمار هذا الانقسام لإضعاف وحدة القرار الأوروبي، خصوصًا فيما يتعلق بالعقوبات والدعم العسكري طويل الأمد لأوكرانيا.

كذلك تشكل أوكرانيا، من المنظور الروسي، ليس فقط خاصرة استراتيجية تمنع تمدد الناتو، لكن أيضًا بوابة اقتصادية ومواردية مهمّة. التصعيد الروسي في هذا التوقيت يعكس قراءة استراتيجية لدى الكرملين مفادها أن الردع الغربي يتآكل، وأن اللحظة مواتية لتثبيت مكاسب ميدانية.

الدبلوماسية المتأزمة وتراجع الردع الأمريكي

التصعيد الأخير جاء أيضًا بعد فشل مفاوضات ثلاثية منفصلة، أمريكية – اوكرانية – روسية، في المملكة العربية السعودية من اجل التوصل الى هدنة جزئية او وقف مؤقت لإطلاق نار شامل، بما يفسر جزئيًا استئناف العمليات الروسية بوتيرة أعلى في ربيع 2025.

محاولات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للعب دور الوسيط باءت بالفشل، حيث قدّم مقترحات تتضمن تجميد عضوية أوكرانيا في الناتو وتنازل أوكرانيا عن الأراضي المحتلة وإقامة منطقة منزوعة السلاح، وهو ما رفضته كييف بشدة. هذه المبادرات أظهرت تراجع الرغبة الأميركية في الانخراط الفعّال، وتفضيل واشنطن للحلول البراغماتية على حساب المبادئ الجيوسياسية، خصوصا في ظل التحول الدراماتيكي في موقف البيت الأبيض وتركيزه على الأهداف التجارية والاقتصادية.

تراجُع الردع الأميركي، وغياب الحزم في الرد على الهجمات الروسية، شجّع موسكو على المضي قدمًا في تصعيدها. وقد عبّر الرئيس زيلينسكي عن خيبة أمله من الموقف الأميركي، مشيرًا إلى أن بيانات واشنطن لا ترتقي إلى مستوى التهديد، ولا تُحمِّل روسيا المسؤولية بشكل مباشر.

خطة ترامب لاستسلام أوكرانيا وتجميد الحرب

البعد الجيواقتصادي – صراع الطاقة والمعادن النادرة

  • الإغراءات الروسية للإدارة الأمريكية:

في هذا السياق، تتبلور استراتيجية روسية ناعمة موجهة نحو البيت الأبيض بعد عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة. موسكو تراهن على عقلية ترامب البراغماتية وميله لعقد الصفقات الكبرى، فترفع أمامه ورقة “الإغراءات الجيواقتصادية”، وتعرض فرصًا ضخمة في مجال الاستثمار في موارد الطاقة والمعادن الاستراتيجية لتوسيع تأثيرها على السياسة الأميركية. موسكو تعرض فرصًا استثمارية ضخمة للمستثمرين الأميركيين في قطاعي المحيط الشمالي والمعادن النادرة (مشاريع في الغاز الطبيعي المسال، النيكل، الكوبالت). كما تروج لصفقات محتملة مثل شراء خط “نوردستريم” من قبل شركات أميركية لبيع الغاز الروسي لأوروبا على أنه ملكية أمريكية، بهدف إغراء البيت الأبيض بالمكاسب المادية وزيادة صادراتها من الغاز لإنقاذ شركة “غازبروم”. تكهنات تدور حول احتمال قيام موسكو بتقديم هذه الإغراءات مقابل تخفيف الضغط الغربي، بما يكرس واقع الاحتلال الحالي لمناطق أوكرانية غنية بالموارد.

  • الموارد الروسية في القطب الشمالي:

روسيا، التي تسيطر على السواحل القطبية الشمالية، تقدّم فرصًا استثمارية ضخمة في مجال الطاقة والمعادن الاستراتيجية. مع الاحتياطيات الكبيرة من النيكل والبلاديوم، تعتبر موسكو هذه المنطقة ساحة رئيسية لتأمين احتياجات الطاقة العالمية في المستقبل.

  • المعادن النادرة في الأراضي الأوكرانية المحتلة: سلاح استراتيجي في الصراع

تمتلك كل من روسيا وأوكرانيا موارد هائلة من المعادن النادرة (التنتالوم، التيتانيوم، النيونيوم، الليثيوم، المنغنيز، الغرافيت)، التي تُستخدم في الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا المتقدمة وتتركز في شرق أوكرانيا وجنوبها (المناطق المحتلة أو المستهدفة). أدركت موسكو أهمية هذه الموارد ليس فقط كمصدر تمويل للحرب، بل أيضًا كأداة جيو-اقتصادية لتعديل وضعها. تسيطر روسيا حاليًا على مناطق غنية بالليثيوم والنيكل والعناصر الأرضية النادرة، وتهدف لتطوير البنية التحتية لاستخراجها، وتسعى للاحتلال الكامل لمصادر الليثيوم في إقليم زابوروجيا ومنشآت استخراج التيتانيوم في إقليم دونيتسك. هذا يعطي روسيا ميزتين: حرمان الغرب من موارد استراتيجية للانتقال الطاقوي والصناعات التكنولوجية، وتحقيق عوائد أو عرضها كورقة مساومة.

هذه المعادن النادرة باتت ساحة جديدة للصراع الجيو-اقتصادي، حيث يعتبر الوصول إليها عاملاً حاسمًا في الهيمنة الاقتصادية العالمية، ما قد يفتح فرصًا مغرية أمام الشركات الغربية في حال تغيرت الأوضاع أو تم التوصل لاتفاق. كما تكثف موسكو تعاونها مع شركات صينية ودول في “الجنوب العالمي” لاستغلال هذه الثروات وتسويقها عبر وسطاء في الشرق الأوسط وآسيا.

وتُعدّ أوكرانيا بديلًا محتملاً للغرب لتقليل تبعيته للصين في هذا المجال. من هنا، يمكن تفسير بعض جوانب التردد الأميركي تجاه دعم غير محدود لكييف، إذ تسعى واشنطن لحماية مصالحها الاقتصادية طويلة الأمد دون الانخراط في مواجهة شاملة مع روسيا. في ظل تصاعد الهجمات، يتضح أن روسيا تحاول تغيير موازين القوى لفرض واقع جديد في أي مفاوضات مستقبلية، وتسعى للسيطرة على هذه الموارد لتعزيز قدرتها التفاوضية والضغط على الغرب.

الصفقة الجديدة بين ترامب وبوتين: تداعياتها على أوكرانيا والأمن العالمي

البُعد الصيني – لاعب ظلّ محوري يصنع الفارق

رغم موقفها الحيادي المعلن، تمثل الصين عاملًا محوريًا ي استمرار الحرب. فمن خلال الدعم السياسي والاقتصادي غير المباشر، تقدم لروسيا شريان حياة اقتصادي في ظل العقوبات الغربية (عبر قنوات مالية كبنوك هونغ كونغ والعملات الرقمية، وشراء الطاقة بأسعار تفضيلية، وتوريد مكونات صناعية عسكرية).

كما تنظر الصين للحرب كأداة لاستنزاف الغرب وتفكيك النظام أحادي القطبية، بينما تحافظ على حيادها الاستراتيجي لتجنب الانخراط المباشر، لكن دون ترك روسيا تسقط في عزلة تامة. فكلما طالت الحرب، زادت فرص بكين في توسيع نفوذها العالمي (من جنوب شرق آسيا إلى أفريقيا). وقد تسعى لترتيب تفاهم استراتيجي مع ترامب (تايوان مقابل أوروبا الشرقية)، وتعزيز نفوذها في الجنوب العالمي عبر “بريكس+”.

البعد النفسي والإعلامي – حرب على الوعي والمعنويات

استهداف رمزي مثل قصف مسقط رأس زيلينسكي، وهجمات على الإعلام الأوكراني (قنوات “فريدوم”، “UATV”، “دوم”) يعكس سياسة متعمدة لكسر المعنويات الداخلية، وتحييد السردية الأوكرانية. استهداف وسائل الإعلام لم يكن عشوائيًا، بل جزء من حرب المعلومات، يهدف لإضعاف قدرة أوكرانيا على إيصال روايتها داخليًا وخارجيًا. على الرغم من ذلك، تواصل هذه القنوات البث من مواقع احتياطية، مؤكدة التزامها بالتصدي للدعاية الروسية.

كما أن القصف الممنهج على المستشفيات والمدارس، واستهداف المدن الكبيرة، يمثل محاولة لدفع السكان نحو النزوح الجماعي وإضعاف اللحمة المجتمعية، وتقويض الدعم الشعبي لقيادة الرئيس زيلينسكي. تسعى روسيا لخلق بيئة من الخوف والفوضى يمكن استغلالها سياسيًا أو عسكريًا، بالتوازي مع الضغط الاقتصادي والاجتماعي.

مستقبل الحرب – سيناريوهات محتملة

في ضوء المعطيات الراهنة، يمكن تصور عدة سيناريوهات:

  1. حرب استنزاف طويلة: استمرار العمليات بوتيرة تصاعد متقطع دون تقدم حاسم، مما ينهك الطرفين. قد تستمر روسيا في محاولات تعزيز سيطرتها على الدونباس والجنوب، بينما تعتمد أوكرانيا على دعم غربي متضائل مع زيادة اعتمادها على صناعاتها العسكرية المتطورة (خاصة الطائرات المسيرة) واستعادة بعض قدراتها الصناعية القديمة (التي فقدتها بعد اتفاقية بودابست 1994).
  2. صفقة كبرى محتملة بضغط من الرئيس ترامب: سعيه لإنهاء “الحرب المكلفة” باتفاق يعترف ضمنيًا بالمكاسب الروسية مقابل انسحاب جزئي وتطبيع اقتصادي، يلقى دعمًا من بعض النخب الأميركية الانعزالية، لكن أوكرانيا ترفض التنازل عن الأراضي وروسيا تماطل لكسب المزيد من الوقت لاحتلال أكبر قدر من الأراضي الأوكرانية.
  3. دعم أوروبّي واسع لأوكرانيا: تواصل أوروبا تكثيف دعمها العسكري لأوكرانيا، وتزيد من توجيه الموارد المخصصة للتسلح والمساعدات العسكرية، خاصة بعد إقرار استراتيجية دعم واسعة لأوكرانيا. أوروبا التي ترى في روسيا تهديدًا استراتيجيًا حقيقيًا، اعتمدت استراتيجية إعادة تسلح بقيمة 800 مليار دولار لتعزيز استعداداتها الدفاعية. قد يؤدي ذلك إلى تشكيل تحالفات جديدة داخل حلف الناتو، يترأسها الاتحاد الأوروبي لتوفير المزيد من الدعم لأوكرانيا، مما قد يفرض ضغوطًا إضافية على روسيا ويحول الصراع إلى حرب استنزاف متواصلة تعزز من تنامي النفوذ الأوروبي في الساحة الدولية.
  4. تصعيد مفاجئ: هجوم مفاجئ من أي طرف قد يجر الناتو لانخراط أوسع.

أ. هجوم أوكراني كبير في المنطقة الجنوبية: الهجوم في المحور الواصل الى شبه جزيرة القرم من قبل أوكرانيا سيكون خطوة استراتيجيّة هامة تهدف لاستعادة الراضي المحتلة وتقليص النفوذ الروسي في البحر الأسود. الرد الروسي سيكون عنيفًا وقد يؤدي إلى تصعيد واسع يشمل استخدام سلاح نووي تكتيكي، مما قد يستدعي تدخلًا أوسع من الناتو لحماية دول الجوار وتفعيل بند الدفاع المشترك.

ب. عملية روسية نوعية ضد كييف: قد تنفذ القوات الروسية عملية عسكرية كبيرة ضد العاصمة كييف أو مدينة أوكرانية كبرى بهدف ضرب القدرات العسكرية الأوكرانية. وحاليا هناك توقعات استخباراتية بتجهيز روسيا لمثل هذا الهجوم من الأراضي البيلاروسية، ويمكن أيضا بمشاركة منها، في الخريف القادم. هذا التصعيد قد يزيد من تدخل الناتو ويعزز الدعم العسكري لأوكرانيا، مما قد يتسبب في تدهور العلاقات الدولية ويؤدي إلى ضغوطات أكبر ضد روسيا.

ج. تعزيز استعدادات الناتو: في حالة التصعيد، سيزيد الناتو من وجوده العسكري في دول الجوار الأوكراني، مثل بولندا وبلدان البلطيق، بالرغم من سياسات الرئيس ترامب التي تسعى الى سحب قواته من شرق اوروبا. قد يتطور التدخل إلى دعم مباشر لأوكرانيا في العمليات البرية والجوية.

دروس للرئيس ترامب: اتفاق السلام الأوكراني المتخبط في أوكرانيا

التأثير الجيوسياسي والاقتصادي العميق لأي تصعيد عسكري محتمل:

إن أي تصعيد مفاجئ وكبير في الصراع، سواء كان هجومًا أوكرانيًا واسعًا نحو القرم أو عملية روسية كبرى ضد كييف أو مدن رئيسية أخرى، سيُحدث موجات صادمة تمتد عبر النظام الدولي بأكمله، مع تأثيرات جيوسياسية واقتصادية عميقة ومتشابكة. إذ قد يؤدي هذا التصعيد إلى اضطراب حاد في أسواق الطاقة والمعادن النادرة. ففيما يتعلق بالطاقة، سيؤدي إلى ارتفاع فوري وحاد في أسعار النفط والغاز العالمية نتيجة لتزايد علاوة المخاطر والخوف من تعطل الإمدادات، خاصة عبر البحر الأسود، أو فرض عقوبات جديدة أكثر صرامة على قطاع الطاقة الروسي، مما سيزيد الضغط على أوروبا لتسريع التخلص من أي اعتماد متبقٍ على روسيا، وقد تصبح أسواق الغاز الطبيعي المسال أكثر تقلبًا وشحًا، كما قد تضطر الحكومات لتفعيل خطط طوارئ تشمل السحب من الاحتياطيات الاستراتيجية. وبالمثل، ستتعرض سلاسل إمداد المعادن النادرة الحيوية، مثل الليثيوم والتيتانيوم والنيكل والبلاديوم والنيون وغيرها، التي تمر عبر المنطقة أو تأتي منها لاضطرابات كبيرة، مما سيؤدي إلى تقلبات سعرية حادة ونقص محتمل في هذه المواد الأساسية للصناعات التكنولوجية والدفاعية والتحول في مجال الطاقة النظيفة، وهو ما سيدفع الغرب لتسريع جهوده المحمومة لتأمين مصادر بديلة وتنويع سلاسل الإمداد بعيدًا عن المحور الروسي-الصيني.

وعلى الصعيد الاقتصادي ايضا، ستكون هناك تحركات كبرى وتداعيات عالمية، إذ ستتجدد الضغوط التضخمية العالمية نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمواد الخام وتعطل سلاسل الإمداد، وسيزداد خطر الانزلاق نحو ركود اقتصادي عالمي بسبب حالة عدم اليقين والصدمات المتتالية. وستتسارع وتيرة إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية والاتجاه نحو “الصداقة الصناعية” (Friend-shoring) والتكتلات الإقليمية، مما يعزز اتجاهات التراجع عن العولمة. إضافة إلى ذلك، سيتأثر الأمن الغذائي العالمي بشكل خطير نتيجة التعطل المحتمل لصادرات الحبوب والأسمدة من منطقة البحر الأسود، وقد تشهد الأسواق المالية تقلبات حادة وهروبًا نحو الملاذات الآمنة، مما يضع ضغوطًا إضافية على النظام المالي العالمي. باختصار، فإن أي تصعيد كبير في الحرب لن يكون مجرد حدث عسكري إقليمي، بل سيكون له تبعات نظامية عالمية، تعيد تشكيل التحالفات، وتضرب أسواق السلع الأساسية، وتسرع من التحولات الاقتصادية الكبرى، وتزيد من حالة عدم الاستقرار والمخاطر الجيوسياسية على نطاق واسع.

إضافة إلى ذلك، من المرجح أن يؤدي التصعيد الكبير إلى تعزيز وتصلب التحالفات الغربية، حيث يُتوقع رد فعل غربي أكثر حزمًا ووحدة، مما يعزز التماسك داخل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وستزداد الإرادة السياسية لرفع الإنفاق الدفاعي بشكل كبير وتسريع تنفيذ مشاريع التسلح المشتركة وتعميق التعاون الاستخباراتي والعملياتي. كما قد يتم فرض حزم عقوبات أشد قسوة وشمولية على روسيا، قد تشمل قطاعات لم تُستهدف من قبل وعقوبات ثانوية على الأطراف التي تتعامل معها، مما يؤدي إلى عزلة أكبر لموسكو، وسيتجدد الالتزام بدعم أوكرانيا عسكريًا وماليًا، وربما يتم تجاوز بعض الخطوط الحمراء السابقة فيما يتعلق بنوعية الأسلحة المقدمة.

وسيؤدي هذا التصعيد أيضًا إلى تحولات وتوترات كبيرة في العلاقات الدولية، حيث سيزداد الاستقطاب الدولي بشكل حاد بين المعسكر الغربي والمحور الروسي-الصيني والدول المتحالفة معهما، وستتعرض الدول التي تحاول الحفاظ على الحياد، مثل الهند وبعض دول الجنوب العالمي، لضغوط أكبر لتحديد موقفها. وقد تواجه المؤسسات الدولية، وخاصة مجلس الأمن في الأمم المتحدة، شللاً أكبر في التعامل مع الحرب، مما يفقدها مصداقيتها بشكل تام، بعد أن فقدت الكثير من هذه المصداقية بسبب عجزها الكامل في وقف الحرب الروسية على أوكرانيا أو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية. وبشكل عام، سيرتفع منسوب التوتر والمخاطر العالمية، مع زيادة احتمالات سوء التقدير والمواجهة المباشرة بين روسيا وحلف الناتو، وقد يحفز ذلك سباقات تسلح إقليمية في مناطق أخرى.

ما المعروف عن خطة السلام لأوكرانيا وكيف يمكن أن تتطور الأحداث

الموقف الغربي وتحدياته في ظل التصعيد الأخير

هل ينجح الغرب في احتواء التصعيد الروسي الأخير أو على الأقل إدارة تداعياته؟ هذا سؤال معقد يكشف عن تحديات عميقة تواجه العواصم الغربية. فعلى الرغم من أن دول الناتو والاتحاد الأوروبي تواصل التأكيد على التزامها بدعم أوكرانيا وإرسال المساعدات العسكرية والإنسانية، إلا أن الفجوة بين الالتزامات المعلنة والتطبيق الفعلي على الأرض تظل قائمة ومؤثرة. وتيرة وصول المساعدات الحيوية، وبطء عمليات اتخاذ القرارات المتعلقة بتوريد أنواع معينة من الأسلحة (مثل أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، أو الصواريخ بعيدة المدى، أو الطائرات المقاتلة)، بالإضافة إلى قيود القدرات الإنتاجية الصناعية العسكرية في الغرب نفسه لبعض الذخائر الأساسية، كل ذلك يضعف من الأثر الفوري والمستدام للدعم ويمنح روسيا فرصًا للاستمرار في ضغطها.

يتجلى التردد بشكل خاص في واشنطن، حيث يحتدم الجدل السياسي الداخلي. تأثير التيارات الانعزالية أو التي تتبنى شعار “أمريكا أولاً” داخل الحزب الجمهوري، المرتبطة بمواقف الرئيس دونالد ترامب، أصبح ملموسًا، مع تزايد التساؤلات حول التكلفة الباهظة للدعم المفتوح وجدواه الاستراتيجية طويلة الأمد للمصالح الأمريكية. هذا التردد لا يقتصر على الخطاب، بل يترجم إلى عقبات تشريعية، وتأخير في الموافقة على حزم المساعدات، وربما فرض قيود على استخدام الأسلحة المتقدمة، مما يُشير بقلق إلى أن الدعم الأمريكي قد يتحول بالفعل من التزام استراتيجي ثابت إلى ورقة مساومة أو أداة تفاوضية تُستخدم ربما للضغط على كييف للقبول بتسوية ما، أو كورقة في حسابات سياسية داخلية أمريكية.

بحث-التحولات في الأمن الأوروبي-تحديات واستراتيجيات في ظل تراجع الدعم الأمريكي

في المقابل، وبينما تظهر أوروبا وعيًا متزايدًا بالتهديد الروسي المباشر (مما يظهر في خطط إعادة التسلح الطموحة مثل استراتيجية الـ 800 مليار دولار وجهود دول كفرنسا وبولندا ودول البلطيق لأخذ زمام المبادرة)، فإنها لا تزال تعاني من انقسامات داخلية تمنعها من تشكيل جبهة موحدة تمامًا قادرة على سد أي فراغ قد يتركه التراجع في الموقف الأمريكي. المخاوف الاقتصادية، واختلاف تقييم المخاطر، والمواقف السياسية لبعض الحكومات (مثل المجر وسلوفاكيا) تُعقّد بلورة استجابة أوروبية مستقلة وقوية بشكل كامل.

في جوهر الأمر، يجد الغرب نفسه في مأزق استراتيجي: الحاجة الماسة لتجنب أي تصعيد قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة كارثية مع روسيا (خاصة بالنظر إلى التهديدات النووية)، وفي نفس الوقت، ضرورة منع انهيار أوكرانيا تحت وطأة الهجمات الروسية، الأمر الذي سيكون له تداعيات جيوسياسية وخيمة على الأمن الأوروبي ومصداقية الغرب. روسيا تدرك هذا المأزق وتستغله بفعالية عبر استمرار التصعيد المحسوب.

لذلك، فإن مستقبل الموقف الغربي وقدرته على “الاحتواء” سيعتمد بشكل حاسم على إيجاد موازنة دقيقة وشديدة الصعوبة بين هذين الهدفين المتعارضين ظاهريًا. يتطلب ذلك ليس فقط إرادة سياسية موحدة، بل أيضًا تسريع وتيرة الإنتاج العسكري، وتجاوز الانقسامات الداخلية، ووضع استراتيجية طويلة الأمد تضمن صمود أوكرانيا مع الحفاظ على ردع فعال وموثوق ضد أي عدوان روسي إضافي.

استنتاجات وخلاصات

في المحصلة، يمثل التصعيد الروسي في الحرب على أوكرانيا مفترق طرق للنظام العالمي. المعركة لا تُحسم في الخنادق فقط، بل في أسواق الطاقة والمعادن، ودهاليز التحالفات الدولية، ومراكز القرار في موسكو وكييف وبكين وواشنطن. إذا ما تواصل التراجع في الردع الأميركي، فإن روسيا لن تكون فقط لاعبًا ميدانيًا، بل طرفًا فاعلًا في صياغة توازنات ما بعد الهيمنة الغربية. أما الغرب، فإن قدرته على الحسم لا تتعلق بالسلاح فقط، بل بإرادة سياسية ما تزال حتى اللحظة مترددة ومجزأة.

ما يحدث في أوكرانيا لم يعد مجرد صراع تقليدي، بل تحوّل إلى ساحة اختبار شاملة لترتيبات النظام الدولي، حيث تتقاطع أدوات الحرب الصلبة والناعمة، وتتحول الموارد الطبيعية إلى أوراق ضغط، بينما تتراجع الخطوط الحمراء. ومع تزايد وطأة الهجمات، تبدو أوكرانيا عالقة بين شراسة آلة الحرب الروسية وارتباك الحلفاء، في حرب استنزاف قد تطول ما لم تُستعاد معادلة الردع وتوازن المصالح.

كذلك تكشف الهجمات الروسية الأخيرة عن انتقال الصراع من كونه نزاعًا عسكريًا بحتًا إلى ساحة تتقاطع فيها اعتبارات الأمن القومي مع مصالح اقتصادية كبرى، على رأسها المعادن النادرة. في المقابل، يظهر التراجع الأميركي مع وصول الرئيس ترامب الى البيت الأبيض أن واشنطن أصبحت غير ذات ثقة في التزاماتها الدولية، وتُغلّب المصالح الاقتصادية على المبادئ الجيوسياسية. في ظل هذا التداخل المعقد، فإن مستقبل الحرب لن يُحسم في ميادين القتال وحدها، بل أيضًا على طاولات التفاوض الدولية، وفي أسواق المعادن، ومصانع التكنولوجيا المتقدمة.

في النهاية، تُعد الأشهر المقبلة حاسمة في تشكيل ملامح النظام العالمي المقبل، حيث سينتقل العالم من مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى مرحلة جديدة يتداخل فيها الجيوبوليتيك مع الجيواقتصاد بشكل أكثر تعقيدًا وواقعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *