د. سعيد سلّام
13/6/2022
نشرت صحيفة “اندبندت” البريطانية تقرير حول تسليح الجيش الأوكراني يستند الى “تقرير” عن الاستخبارات البريطانية اطلعت عليه الصحيفة.
يتحدث التقرير عن الفوارق الكبيرة بين إمكانيات سلاح المدفعية الروسية والأوكرانية وافتقار الجيش الأوكراني لمدفعية بعيدة المدى مما يسمح للقوات الروسية بامتلاك أفضلية كبيرة في معارك المدفعية، وعن الحالة المعنوية المنخفضة للجنود الأوكرانيين، بالإضافة الى العدد الكبير من الأسرى لدى الجيش الروسي (بناء على إعلانات الجانب الروسي في شهر حزيران / يونيو) مقارنة مع الاسرى لدى الجانب الأوكراني (بناء على اعلان قديم للجانب الأوكراني في شهر نيسان / أبريل).
وبناء عليه يرسم التقرير صورة قاتمة لمجريات الحرب الروسية في أوكرانيا وعلى خطوط الجبهة.
بداية يجب التنويه أن صحيفة “اندبندنت” مملوكة لرجل الأعمال الروسي ليبيديف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ضابط سابق في المخابرات الروسية الخارجية، والصحيفة “نافذة” لتسريبات جهاز المخابرات الروسية، لذا عادة المقالات التي تظهر مع الإشارة إلى هذه الصحيفة لا تعتبر دقيقة جدا ويجب التعامل معها بحذر!
المعلومات التي ذكرتها الصحيفة في تقريرها ليست سرية او جديدة، وهي معلومات معروفة للمتابعين للوضع العسكري والمواجهات على الجبهات المختلفة في الحرب الروسية على أوكرانيا، بالإضافة إلى وجود معلومات غير صحيحة حول حصار القوات الأوكرانية في منطقة سيفيرودونيتسك و ليسيتشانسك.
يشير المسؤولون العسكريون والحكوميون الأوكرانيون بشكل متزايد إلى أن القوات المسلحة الأوكرانية عالقة في “حرب مدفعية” على الخطوط الأمامية الحرجة، وهي في وضع غير موات فيما يتعلق بتوفير أنظمة المدفعية.
حيث ان القوات الروسية متفوقة بشكل كبير في تعداد المدفعية، حيث لديهم فعليا ما بين 10 إلى 15 قطعة مدفعية لكل وحدة من نفس المدفعية من الجانب الأوكراني (بعض التقارير تشير الى 30 قطعة)، وليس هذا فحسب المهم، بل المهم هو الفارق الكبير في تعداد الذخيرة المتوفرة والتي يتم استخدامها من قبل الطرفين المتحاربين، حيث اشارت التقارير سابقا الى فارق 20 الى 50 قذيفة يتم اطلاقها من قبل الجيش الروسي مقابل كل قذيفة يطلقها الجانب الاوكراني. لذا تعمل الحكومة الأوكرانية على تصعيد إلحاح طلباتها للحصول على أنظمة أسلحة مدفعية (هاوتزر وراجمات متعددة الصواريخ) أكثر تقدمًا من تلك المتوافرة لدى الجانب الروسي.
هذه الفروقات الكبيرة في إمكانيات التسليح أعطت القوات الروسية تفوقا ملحوظا في استخدام تكتيك “الأرض المحروقة” في حربها لاقتحام المناطق المفتوحة والبلدات والمدن الأوكرانية.
في نفس الوقت، وعلى الرغم من الوضع الصعب مع الأسلحة والتفوق العددي، تواصل القوات المسلحة الأوكرانية إلحاق خسائر قتالية بشكل منهجي بالقوات الروسية.
حيث اختارت القيادة العسكرية الأوكرانية، كما ذكرنا سابقا، “استراتيجية الدفاع المرن – المناور او المتحرك“، وهو شكل من اشكال العمل الدفاعي، والغرض منه كسب الوقت وإلحاق خسائر بقوات العدو مع احتمال الانسحاب من جزء من الأراضي؛ كقاعدة عامة، يتم اللجوء إلى هذه الاستراتيجية في حال وجود تفوق كبير للعدو في القوات ومع نقص الموارد لتنظيم الدفاع الموضعي التقليدي؛ و يختلف عن الانسحاب غير الجاهز وغير المتحكم فيه من خلال الدراسة المسبقة للسيناريوهات المحتملة لتطور الموقف والإعداد المناسب للمناورات والهجمات المضادة والمواقع الاحتياطية وفصل القوات المستقطبة واستخدام المزايا التي توفرها طبيعة التضاريس من أجل إلحاق أكبر ضرر بالعدو باللجوء الى “تكتيك القتل بألف جرح”، وهو طريقة مؤلمة كانت تستخدم سابقا بشكل خاص لعقوبة الإعدام عن طريق قطع شظايا صغيرة من جسد الضحية لفترة طويلة من الزمن، تكتيك مجرب لشن حرب عصابات ضد جيش نظامي أو عدو يفوقك قوة و تعدادا.
حيث استطاعت القوات الأوكرانية في الشهر الأول من الحرب إيقاف تقدم القوات الروسية من الشمال نحو العاصمة كييف عبر الاستهداف المكثف لطرق الامداد اللوجستي للأعداد الكبيرة من القوات الروسية مستغلة التخطيط السيء من قبل القيادة العسكرية الروسية، و العمليات التخريبية التي كان يقوم بها المواطنون البيلاروس في تخريب طرق الامداد التي يستخدمها الروس (البرية والسكك الحديدية) من بيلاروسيا عبر تفجيرها، و استغلال طول طرق الامداد من شرق اوكرانيا من إقليمي تشيرنيغوف وسومي لاستهدافها أيضا، بهذه الطريقة تم قطع طرق إيصال الوقود و الغذاء للقوات الروسية مما أضعف إمكانية تقدمها و أوقف العديد من الياتها و جعلها لقمة سائغة للقوات الأوكرانية المسلحة بمضادات دبابات و دروع حديثة مثل الجافلين و نلاو ومنظومات ستوغنا الأوكرانية، بالإضافة الى استهداف مواقع تجمع القوات الروسية بالمدفعية مما أدى الى إيقاع خسائر كبيرة جدا في العتاد والافراد، و الاستخدام المبدع للطائرات بدون طيار (بيرقدار-2 و غيرها).
مع الوقت قامت القوات الأوكرانية بعملية التفاف خلف القوات الروسية في محاولة لحصارها بشكل كامل وايقاعها في مصيدة كبيرة مما استدعى اخراج القوات الروسية من شمال أوكرانيا تحت شعار “النوايا الحسنة” بعد المفاوضات التي جرت في اسطنبول نهاية شهر اذار/مارس، والإعلان عن تغيير أهدافها الاستراتيجية في حربها في أوكرانيا الى السيطرة على إقليم الدونباس والجنوب الاوكراني بما فيه اوديسا وإيجاد طريق بري يصل روسيا مع إقليم ترانستيستيريا الانفصالي الخاضع لسيطرتها في جمهورية مولدوفا.
لذا على الرغم من الوضع المستمر الصعب مع الأسلحة وقوات العدو المتفوقة، تواصل القوات المسلحة الأوكرانية إلحاق خسائر بالقوات الروسية على العديد من الجبهات (خاركوف – دونباس – خيرسون).
مع تغير موازين الحرب و ايمان الجيش الاوكراني بإمكانية التصدي للجيش الروسي تغيرت نظرة حلفاء أوكرانيا لأهداف الحرب من مساعدة الجيش الأوكراني على المقاومة والصمود الى “تحقيق هزيمة استراتيجية لروسيا في أوكرانيا”، و بدء الإعلان عن الدعم الغربي النوعي، بدءا من تعويض السلاح السوفييتي القديم (مدفعية – دبابات – ذخائر) من دول أوروبا الشرقية، انتقالا الى اعلان ارسال سلاح غربي حديث يتفوق على السوفييتي القديم بالتكنولوجيا و دقة الاصابة، على الرغم من قلته في تلك الفترة (نحو 90 مدفع هاوتزر امريكي M777 يملك مدى 40 كم، و 12 مدفع هاوتزر سيزار فرنسي، تم زيادتها لاحقا الى 72، يملك مدى 40 كم، و 20 مدفع متحرك دانا – 2 تشيكي قذائف متنوعة، يبلغ مداها 18 كم للقذيفة العادية و 20-25 كم للقذائف المطورة)، استطاعت القوات الاوكرانية بعد انسحاب القوات الروسية من الشمال الاوكراني (كييف – تشيرنيغوف – سومي) نقل الكثير من قواتها الى إقليم خاركوف، واستطاعت تحرير مساحات كبيرة من الإقليم باستخدام “تكتيك الف جرح” واستهداف طرق الامداد من إقليم بيلغورود الروسي و عدم استطاعة الجانب الروسي حل مشاكله اللوجستية في تلك المرحلة من الحرب، و الاستهداف العنيف المتكرر بأسلحة مختلفة (طائرات بدون طيار – مدفعية – طيران) للتجمع العسكري الذي تم اقامته في منطقة ايزيوم وإصابة رئيس الأركان الروسي بشظايا في قدمه في احدى الهجمات، الامر الذي أدى الى تغيير القائد العام للـ ” العملية الخاصة”، مما سبب مشاكل إضافية في الإدارة والبطء في تغيير التكتيك العملياتي و الفشل في التنسيق بين الأنواع المختلفة من الأسلحة الروسية (المدفعية – المشاة – الطيران).
هذه العوامل أدت الى توقف العملية الهجومية التي كانت تخطط القوات الروسية لشنها نحو إقليم “دونباس” انطلاقا من ايزيوم، وبعد ارسال الكثير من المعدات ووصول القوات من شمال أوكرانيا، والتي تم إعادة تجميعها، بدأت القوات الروسية بعمليتها الهجومية لكن ببطء شديد، لم تستطع القوات الروسية احتلال مناطق واسعة في منطقة الدونباس، حيث لم تستطع احتلال مدينتي سلافيانسك وكراموتورسك في إقليم دونيتسك، والتقدم لحصار القوات الأوكرانية في المناطق المتبقية من إقليم لوغانسك (سيفيرودونيتسك وليستشانسك).
في إقليم لوغانسك، استطاعت القوات الأوكرانية ابطاء تقدم القوات الروسية على الرغم من تفوقها في العدد والعتاد، ومنعتها من تحقيق هدفها المعلن بالسيطرة على الإقليم بحدوده الإدارية، على الرغم أن القوات الروسية مع القوات الانفصالية لـ”جمهورية لوغانسك الشعبية ” كانت تسيطر على 70% من مساحة الإقليم قبل بدء الحرب الروسية بتاريخ 24/2/2022، و على 93% قبل بدء العملية الجديدة في بداية شهر نيسان/ابريل. وما زالت حتى اللحظة المعارك تدور في مدينة سيفيرودونيتسك – التي لم يسيطر عليها الجيش الروسي خلال أكثر من أسبوعين من المعارك، مع أن المدينة صغيره ويبلغ عدد سكانها نحو 100 ألف مواطن أوكراني (بقي منهم حسب السلطات الأوكرانية نحو 10 – 13 الف في المدينة)، و من الناحية العسكرية لا تشكل للجانب الأوكراني أهمية استراتيجية، لكنها تشكل للجانب الروسي أهمية سياسية و عسكرية، حيث ان احتلالها سيسمح لهم بالانتقال للسيطرة على المدينة الأخيرة في الإقليم، مدينة ليسيتشانسك، و اعلان نصر استراتيجي وسياسي كبير.
لكن الجانب الأوكراني استطاع تحويل معركة سيفيرودونيتسك الى معركة شوارع، وهو الجانب الذي يتفوق به الطرف الأوكراني على الروسي ويقوم بتحييد التفوق المدفعي الروسي، وعرقل مخططات الجيش الروسي باحتلال المدينة بسرعة وبدون خسائر، مما يشكل نصرا تكتيكيا للجانب الأوكراني.
بعد الصعوبات التي لاقتها القوات الروسية في السيطرة على المدينة عادت الى استخدام “تكتيك الأرض المحروقة” و قصف المدينة بشكل عنيف و منهجي وتدميرها بشكل شبه كامل (90% من الأبنية تم تدميرها)، مما فرض على القوات الأوكرانية الانسحاب من وسط المدنية الى أطرافها وتمركزهم حاليا في المنطقة الصناعية (منطقة مصنع آزوت للصناعات الكيميائية) التي يوجد بها أنفاق و تحصينات لا تقل عن مصنع آزوف ستال في ماريوبل، مما يجعل من المتوقع استمرار المعركة للسيطرة الشاملة على المدينة لوقت طويل و تحول المعركة الى ماريوبل 2 في حال استطاعت القوات الأوكرانية الحفاظ على طرق الامداد اللوجستي، في انتظار وصول المساعدات العسكرية التي تطالب بها بالكميات المطلوبة لتشكيل قوات هجومية وبدء الهجوم المضاد الشامل.
من ناحية أخرى فان احتلال مدينة ليستشانسك سيكون أصعب من احتلال مدينة سيفيرودونيتسك، بسبب الطبيعة الجغرافية للمنطقة، حيث ان نهر سيفيرسكي دونيتس يفصل مدينة سيفيرودونيستك عن مدينة ليسيتشانسك مما يشكل عائقا جغرافيا طبيعيا امام القوات الروسية، بالإضافة الى أن مدينة ليسيتشانسك تقع على مرتفع مما يجعل عملية قصفها بالمدفعية العادية (التي تتفوق بها روسيا) غير ذي جدوى، بالإضافة الى ان القوات الروسية ستكون مكشوفة بالكامل امام القوات الأوكرانية المتحصنة في المدينة، وتصبح فريسة سهلة لمدفعيتها.
في إقليم خيرسون استغلت القوات الأوكرانية سحب روسيا لقواتها باتجاه جبهة سيفيرودونيتسك، في إقليم لوغانسك لمحاولة احتلاله بشكل كامل في حدوده الإدارية، للقيام بعمليات هجومية استطاعت من خلالها تحرير عديد من المناطق المتاخمة لإقليمي نيكولايف و دنيبروبيتروفسك، و السيطرة على الجهة الشرقية لنهر انغوليتس و بناء “موطئ قدم” يتم توسيعه على مستوى الشاطئ بشكل يومي ليكون منطلقا للهجوم المضاد الشامل مستقبلا، بالإضافة الى ذلك فقد استطاعت القوات الأوكرانية الاقتراب بشكل ملحوظ الى مدينة خيرسون بعد تحريرها لبلدة بلاغوداتني، التي تبعد عن مدينة خيرسون 20 كم.