الحاخام يهودا الكلعي وجذور الصهيونية الدينية
د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
10/9/2023
استطاع الحاخام الصهيوني يهودا الكلعي (يهوذا الكالاي) أن ينمي في أوساط الجماعات اليهودية، حلماً دينياً فردياً بالذهاب إلى القدس والأرض المقدسة، وعملت أفكاره الصهيونية على تحويل هذا الحلم الفردي إلى مشروع سياسي استعماري، وثيق الارتباط بالمشروع الاستعماري الأوروبي في الوطن العربي.
وكان الكلعي يستقطب الجماعات اليهودية بالقول إن الهدف الصهيوني هو احتلال القدس وجعلها عاصمة للدولة اليهودية.
في عام 1834 أصدر الحاخام يهودا الكلعي كتابه ”اسمعي يا إسرائيل” ودعا فيه إلى الهجرة إلى فلسطين التي اسماها أرض الميعاد دون انتظار المسيح المخلص، حسب ما تقول المعتقدات الدينية لليهود، و أنشأ القلعي عام 1871 جمعية للاستعمار في القدس داعيا أغنياء اليهود إلى دعمها.
و الكلعي كان أول الداعين إلى إحياء اللغة العبرية، وإقامة المستعمرات اليهودية في فلسطين، وكان برنامجه هو “الخلاص الذاتي” لتحقيق العودة الجماعية إلي فلسطين وأن النشاط الاستعماري علـى مستـوى البشـر سـوف يمهـد السبيـل إلـى مجيء المسيح المنتظر.
ولد يهودا الكلعي في ساراييفو- البوسنة سنة 1798، وأصبح في عمر مبكر حاخام الطائفة اليهودية فيها. نشر في سنة 1839 كتاباً في تعليم قواعد اللغة العبرية، ثم أتبعه بكتاب ثان سنة 1840، سماه “شلوم يروشالايم” (“سلاما يا أورشليم”) حث فيه اليهود على دفع عُشر مدخولهم لمساعدة يهود القدس، ونشر منذ سنة 1843 سلسلة من الكتيبات والمقالات ركز فيها على أهمية الطلب من شعوب العالم كي تسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم، كما طالب اليهود بدفع العُشر من أجل العودة.
تقدم الكلعي باقتراح عملي يقضي بتأسيس جمعية لإنشاء خطوط حديديه والطلب من السلطان العثماني في مقابل ذلك إعطاء اليهود أرضاً لهم في فلسطين لقاء إيجار سنوي، كما قام برحلتين إلى أوروبا الغربية، وإلى فلسطين، لإقناع اليهود وغير اليهود بضرورة تجمع اليهود في أرض إسرائيل كي يعيشوا كما يعيش الشعب الواحد. وفي أثناء وجوده في بريطانيا، في مطلع الخمسينات من القرن التاسع عشر، أسس جمعية للاستيطان في فلسطين، لكنها كانت قصيرة العمر، وكذلك كان مصير الجمعية الاستيطانية التي أسسها في فلسطين لدى زيارته الأولى سنة 1871.
توفى الكلعي في القدس سنة 1878 عن ثمانين عاماً، وكان قد سكن فيها نهائياً طوال الأعوام الأربعة الأخيرة من عمره.
و على يد الكلعي انطلقت الصهيونية الدينية من فكرة أساسية، تتمثل في معارضة الفكرة التي كان يؤمن بها عامة اليهود، والداعية إلي الاعتماد على ”المسيح المنتظر” كي يقودهم صوب فلسطين، من أجل إقامة ”مملكة إسرائيل”.
وقد رأت الصهيونية الدينية أن هذا الاعتقاد الذي ساد بين اليهود قرابة ستين جيلا، وأدى بهم إلي الابتعاد عن اتخاذ أي عمل سياسي يعيدهم إلى ”أرض الميعاد”، قد شجع وضع اليهود نفسهم على انتشاره.
وهكذا وقفت الصهيونية الدينية ضد ذلك الرأي الذي ساد بين اليهود على مدى ثمانية عشر قرنا، واستندت إلى تلك الفترة التي ثار فيها اليهود مرارا وتكرارا بين عامي (539 ق. م – 135 م)، معتبرة أن سياسة التهدئة المسالمة ربما كانت مفضلة في الظروف المعاكسة لليهود، وأن سياسة البعث والتنشيط يمكن ألا تكون مستحسنة لدى الرب.
وقد استغلت الصهيونية الدينية مقولتين أساسيتين يؤمن بهما عامة اليهود، وجعلتهما دعامة فكرية لمفاهيمها وهما: الشعب المختار وأرض الميعاد.
وقد أضفى الكلعي في تفسيره للتوراة طابعا من القداسة على ”أرض فلسطين”، فاعتبر أنها ”مركز العالم“، وأن ”أورشليم” هي مركز ”أرض إسرائيل”، وأن هذه الأرض هي المكان المناسب والوحيد لتأدية الوصايا الدينية المنصوص عليها في التوراة، وفيها يصل الإنسان وكذلك الحيوان إلي قمة كماله.
وقد اعتبر أن الاستيطان في ”أرض إسرائيل” واجب ديني، بل إنه اعتبر أن استيطان ”أرض إسرائيل” يوازي كل فرائض التوراة.
وتم تفسير هذه الفريضة – فيما بعد – كواجب مزدوج يلزم اليهود كمجموعة، كما يلزم كل فرد يهودي بالهجرة إلى ”أرض إسرائيل” والعيش فيها تمهيدا لمجيء المسيح المخلص. وتم لاحقا – بناء على هذه الاجتهادات – توسيع هذا الالتزام وإدخاله إلي حيز الأحوال الشخصية، بحيث أصبح مثلا رفض أحد الزوجين الذهاب إلى ”أرض إسرائيل” والعيش فيها مبررا كافيا، حسب الشريعة، للزوج لطلب الطلاق. ومثل هذه الاجتهادات كانت من الأسباب التي دفعت بعض اليهود من حين إلى آخر للهجرة إلى فلسطين والعيش فيها.
وقد انطلقت البداية الحقيقة للصهيونية الدينية في العصر الحديث من أفكار الحاخام يهودا الكلعي (1798-1878) ، الذي دعا إلي خلاص اليهود بالعودة إلى التلمود، وأساطير ”القبالاه” واقترح في كراسته: ”اسمعي يا إسرائيل” (شمعي يسرائيل) التي نشرها عام 1834 ، العودة إلي فلسطين تحت قيادة زعامة بشرية، دون أي انتظار للمسيح المخلص، كما دعا إلي إقامة مستعمرات يهودية في فلسطين كي تكون مقدمة لظهوره.
وبناء على حسابات كان قد أجراها اعتمادا على ”القبالاه”، توقع القلعي أن يظهر المسيح عام 1840. ولما لم يحدث ما توقع فقد غير رأيه، وأعلن أن الخلاص لا يمكن أن يأتي فجأة ومرة واحدة. وإنما ينبغي العمل بجد في سبيله، وأن هذا الخلاص الذاتي لشراء الأراضي، وهي الأفكار نفسها التي تبناها فيما بعد.
وقد فسر في كتابه ”الخلاص الثالث” الخلاص الجديد على أساس الاستيطان في فلسطين، بقصد تعمير الأرض ”الخراب” وإحياء اللغة العبرية.
ولم يكتف الحاخام الكلعي بالدعوة نظريا إلى آرائه، بوساطة الكتب والكراريس التي كان ينشرها من حين لآخر، بل حاول تطبيق آرائه عمليا، فقام بوضع كتب لتدريس اللغة العبرية، والتوصية باستعمالها، وقام بزيارات عدة إلى دول أوروبية للترويج لأفكاره بين اليهود، كما حاول القيام بنشاط استيطاني في فلسطين، لكنه لم يوفق، وهاجر عام 1874 إلى فلسطين حيث توفي فيها.
وقد استطاع الكلعي التأثير في أحد زملائه، وهو الحاخام البولندي، تسفي هيرش كاليشر (1795 – 1874) حاخام الطائفة اليهودية في مدينة تورين بألمانيا، الذي دعا لمثل ما دعا إليه الكلعي. وقد تصدى كاليشر بضرارة لحركة الإصلاح الديني اليهودية، واعتبر في كتابه «البحث عن صهيون» (دريشت تسيون)، الذي أصدره عام 1862، أن عذاب اليهود وشقاءهم هما امتحان لإيمانهم، وأن بداية حلول الخلاص تكمن في التطوع للذهاب إلى فلسطين بقصد الاستيطان وشراء الأراضي، لأن استيطان البلاد المقدسة هو من أهم وصايا التوراة.
ولم يكن تمرد الحاخامين الكلعي وكاليشر على فكرة انتظار المسيح عملا سهلا، إذ إن غالبية الحاخامات ورجال الدين اليهود كانوا حتى ذلك الوقت، يعتبرون هذه الدعوة نوعا من الهرطقة، وزاد من صعوبة موقف كاليشر بالذات أنه نشر اجتهاداته في مجتمع يهودي متدين، كان يشك في أية دعوة لإقامة دولة يهودية. لذا لجأ في كتابه «البحث عن صهيون» إلى الاقتباس المكثف من التلمود، وكتابات كبار الحاخامات الذين سبقوه، والتي تؤيد وجهة نظره. ومهما يكن الأمر فإن آراء هذين الحاخامين بالرغم من أنها لم تحظ بالتأييد الكامل من قبل أغلب حاخامات العصر، فإنها شكلت في النهاية المقدمة المطلوبة لبروز تيار الصهيونية الدينية داخل التجمعات اليهودية.
وقد أعطت أفكار هذين الحاخامين ثمارها بعد حين، فبدا تأثيرها واضحا في المؤتمر الصهيوني الأول، حين شارك مجموعة من المتدينين بأفكار الحاخامين في أعمال المؤتمر، وكان على رأس هؤلاء الحاخام الروسي شموئيل موهيليفر (1824-1898)، الذي كان من المتعمقين ”بالقبالاه” والحسيدية وأحد زعماء حركة ”أحباء صهيون”، ومن المتأثرين بأفكار كاليشر.
وتنفيذا لهذه الأفكار هاجر في نهاية الأمر مع جماعة من أتباعه إلى فلسطين وأسهم في تأسيس مستوطنة “رحوفوت” هناك، وكان من أوائل المتدينين الذين تعاونوا مع العلمانيين وعملوا على دمج الأرثودكسية الدينية، بالقومية اليهودية الحديثة.
وقد استطاع موهيليفر إقناع روتشيلد، بالإسهام في تمويل ومساعدة الاستيطان اليهودي في فلسطين. وحينما واجه المستوطنون اليهود لأول مرة مشكلة “سنة التبوير” (شنات هشميطاه)، وهي السنة السبتية السابعة، كان موهيليفر من ضمن الحاخامات الذين أفتوا بوجوب زراعة الأرض في السنة السبتية بعد بيعها «للأغيار» بيعا صوريا.
وقد ركز الحاخام كل جهوده على التوفيق بين العلمانية والمتدينين بناء على القول الوارد على لسان أحد العلماء في التوراة: «إن الله يفضل أن يعيش أبناؤه في أرضهم، حتى ولو لم ينفذوا تعاليم التوراة، على أن يعيشوا في المنفى وينفذوا تعاليمها». وبرزت جهوده واضحة في الإعداد للمؤتمر الأول مع هرتسل، وقد بعث برسالة إلي المؤتمر بشر فيها باقتراب قدوم المسيح المخلص الذي سوف يجمع شمل “شعب إسرائيل” في فلسطين.
وكان من المؤمنين بتلك الأفكار الحاخام مردخاي الياشبيرج كبير منظري “أحباء صهيون”، والحاخام عزرائيل هيلد سهايمر، حاخام مدينة برلين الذي ساعد على نشر الدعوة بين الفئات المتدينة من يهود ألمانيا، والحاخام نفتالي برلين والد الحاخام مائير برلين “بر – إيلان” (سميت على اسمه الجامعة الدينية القائمة في بئر سبع)، أحد مؤسسي حركة “مزراحي”، وأسهمت هذه الاجتهادات والآراء في بزوغ منظمة “المزراحي” المتدينة على يدي الحاخام يتسحاق راينس.
وقد قفزت الصهيونية الدينية، قفزة كبيرة إلي الأمام بأفكار الرابي أفراهام إسحق كوك، فتبلورت بفضل أفكاره ولأول مرة، فلسفة شاملة للصهيونية الدينية، وعمل هو بنفسه على نشر هذه الأفكار وترجمتها إلي واقع عملي، عبر تأسيسه عام 1924 مدرسة “مركاز هراف” الدينية، التي تعتبر أول مدرسة صهيونية دينية في إسرائيل، والتي تخرج الآلاف من دعاة الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم زعماء حركة “جوش أيمونيم”.
ويمثل الحاخام أفراهام كوك في كتاباته وأفكاره تلك الصهيونية الدينية التي تعمل على جمع شمل مختلف الاتجاهات في الدين والسياسة.
وقد استطاعت آراؤه استيعاب كل وجهات النظر، والبرامج السياسية، وفلسفات الأحزاب الدينية، حتى تلك الاتجاهات المناوئة للدين، وقد استمد منظوره هذا من تبحره في عقيدة «القبالاه» التي سخرها لخدمة الأهداف الصهيونية.
وانسجاما مع هذه النظرة الانفتاحية على غير المتدينين، كرس كوك حياته للتوفيق بين الصهيونيين واللادينيين، وكان على يقين من أن جيل المستوطنين الصهاينة في فلسطين، هو الجيل الذي ينتمي إلى عصر «المسيح المخلص» وأن الرواد، بالرغم من لا دينية قسم كبير منهم، إنما ينفذون تعاليم الدين باستيطانهم في فلسطين.
وقد حاول كوك الوصول إلى صيغة دينية يمكن أن تجمع بين الدينيين واللادينيين، كما حاول أن يصبغ الصهيونية بالشرعية الدينية التي كانت تفتقر إليها في نظر الأرثودكس على الأقل. ودعا إلى التحالف مع العلمانيين لأنه كان على ثقة بأن الجميع سيذعنون في النهاية لأمر الدين اليهودي، وأصدر عدة فتاوى دينية كان القصد منها تسهيل الحياة على المستوطنين اللادينيين. فأفتى سنة 1909 بأنه يمكن زراعة الأرض في “سنة التبوير” (شنات هشميطاه)، على أن تباع الأرض بشكل صوري “للأغيار”، كما أنه أفتى بجواز لعب كرة القدم يوم السبت، على أن تباع التذاكر يوم الجمعة!!