الحرب الباردة الجديدة وغياب الأيديولوجيات لمصلحة التطرف

خريطة العالم

الحرب الباردة الجديدة وغياب الأيديولوجيات لمصلحة التطرف

د. خالد العزّي

22\10\2024

متاهة العالم الحالي حيث بتنا نعيش حربًا باردة جديدة تختلف عن سابقاتها، لجهة الصراع والتنافس والمطالب، فالعالم يعيش الآن حالة من الفوضى الاقتصادية والثقافية والأهم الأيديولوجية، حالة صراع مختلفة عن كل الحروب السابقة التي عاشتها البشرية، لكون الصراع الحالي تسيطر عليه الشخصنة والليبرالية المتوحشة والفساد والعصابات، وغياب الدول والمؤسسات والأفكار التي يمكن ان يتوافق عليها الناس ويُختَلف عليها.

يمكن وصف الحالة بانها مرحلة  من الحرب الباردة التي باتت تخاض مباشرة من قبل الأطراف والاذرع،  وليست ذاتها الحرب الباردة التي دخل العالم غمارها، والتي  دامت منذ العام 1945، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث سيطر الانقسام على العالم، وبات الكون يعيش مرحلة جديدة أطلق عليها الحرب الباردة،  والتي دامت حتى العام 1990، حينما  انهارت المنظومة الاشتراكية، وانتهت الصراعات الايديولوجية والفكرية التي شكلت حلقات نقاشات متنقلة لدى كافة المجموعات البشرية؛ حيث كانت الأفكار هي مصدر الصراعات والانقسامات العالمية، وبالرغم من الصراعات الفكرية والاقتصادية وانقسام العالم الى معسكرين اشتراكي وغربي.

الاشتراكي الذي يؤمن بالإنسانية وتوزيع الثروات وعدم استغلال البشر لبعضهم البعض، وبناء حياة اجتماعية متساوية بين المواطنين دون استغلال او جشع الاقوياء لمناصب السلطة.

أما الغربي يؤمن بالليبرالية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتعايش في دول المواطنة والديمقراطية، حيث بتنا نعيش امام ديمقراطية منقوصة والذي يعبر عنها “ونستون تشرشل” بأن أسوأ الادارات للانظمة هي الديمقراطية لكن لا يوجد لها بديل.

الانقسامات الأيديولوجية السابقة:

سيطر على العالم معسكر شرقي يؤمن بالأفكار الاشتراكية والإنسانية، والتي غزت العالم، بحيث باتت مرحلة السبعينيات من القرن الماضي مرحلة المد الفكري لهذه الأفكار الانسانية الثورية التي انتشرت بسرعة في العالم وجرى التمترس خلفها، و بات المراقبون يرون بأن الانتصار الحتمي هو لهذا المعسكر، لكن للأسف في العام 1990 حصلت الفاجعة بانهيار المعسكر الاشتراكي، وتفوق المعسكر الليبرالي. حيث باتت القطبية الاحادية المطلقة، وصار العالم يتجه نحوها، مما ساهم بسيطرة نظرية العولمة والانفتاح الاقتصادي والتكنولوجي والثقافي، والذي ساعد على ازالة الحواجز الطبيعية، فانتصر الدولار الأمريكي وانتصرت لغة هوليود وأصبحت التكنولوجيا هي الأيديولوجية المسيطرة على الأجيال الحالية.

في مرحلة الحرب الباردة كانت الحروب تدار بالوكالة بين القطبين الرئسيين في العالم “الامريكي والسوفييتي”؛ وكانت الصراعات محورية، تنشأ بين الدول والمناطق لا مركزية، بحيث  كانت هذه الدول تستطيع السيطرة وضبط الامور، فكانت الصراعات تشتعل وفقًا لمبدأ النفوذ والسيطرة، فكان الطرف الذي يخسر في منطقة يستطيع ان يربح في مكان اخر او  في قارة أخرى، على قاعدة التوازن والسيطرة؛ وكانت الحروب بالوكالة تستعر، وقد عاصرنا عددًا منها في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، وهناك العديد من الأمثلة كان أبرزها تقسيم الكوريتين على الخط ثمانية وثلاثين وكذلك حرب فيتنام وأفغانستان وحروب الشرق الاوسط ومناطق أخرى.

الليبرالية المتوحشة تسيطر على العالم الحديث:

مع انتهاء الحرب الباردة، وانكشاف الجليد امام العالم الآخر من حرب باردة، قُسمت المجتمعات والدول والأفراد الى قسمين، وقد دخلنا فجأة في إدارة واحدة، تخللتها مفاهيم جديدة لليبرالية المتوحشة التي سيطر عليها أفراد وباتوا يعبثون بالامن العالمي كما يحلو لهم.

لقد استمر نفوذ الولايات المتحدة مسيطرًا بقدراتها العسكرية واللوجستية والطرق الاقتصادية في إدارة العالم والتعامل مع الدول الصغيرة والكبيرة مما دفع الدول الكبرى والاقليمية للاعتراض على طبيعة النظام الدولي الجديد الذي كانوا ومازالوا اعضاءه، لكنهم صاروا يطالبون بحجز أماكن خاصة بهم في تركيبة العالم الجديد، وخاصة بظل نمو الدور الصيني الذي بات دورًا تنافسيًا ولاعبًا كبيرًا على الساحة الدولية، وبات يشكل منافسًا عنيدًا للولايات  للمتحدة الامريكية  في مطلع الألفية الجديدة،  إضافة الى دول اخرى لا تقل أهمية عن الصين بحجمها وقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية مثل “البرازيل ،الهند ، روسيا وجنوب افريقيا”.

لكن مشكلة هذه الدول التي تحاول ان تُفَعّل دورها على الصعيد العالمي، ولم تمارس اي شكل جديد من النظام العالمي الجديد الذي ترى نفسها فاعلًا فيه، بل هي اقتبست الدور الليبرالي الغربي، وباتت تنتهج الديمقراطية الغربية، كما حال روسيا التي لم تقدم أي نموذج جديد للعالم المتعدد يقنع الاخرين؛ ولا الصين رسمت دورها الجديد وارتدت ثوبها الخاص، بل لبست بزتها الغربية من خلال النهج الاقتصادي الليبرالي والديمقراطية الغربية، وإن يكن الحزب الشيوعي لم يزل يسيطر على مقاليد السلطة من خلال التنافس مع الغرب.

غياب النهج الجديد للدول الصاعدة:

لكن عند بدء الكلام مثل صعود نجم الصين ودول أخرى، خاصة مجموعة “البريكس” و “الاتحاد الأوروبي” بات الحديث أكثر جدية عن دخول العالم في حرب عالمية باردة ثانية؛ لكن اختلفت اشكال المواجهة فيها، حيث باتت الدول الكبرى تخوض الحروب بنفسها دفاعا عن مصالحها الاقتصادية والإبقاء على دورها الريادي، كما حدث بين روسيا والغرب في الحرب الأوكرانية، والصين والهند في حرب الحدود، بالإضافة الى المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران وتايوان وكوريا الشمالية.

العالم أصبح يعيش حربًا باردة ثانية حقيقية من خلال الصراعات والمواجهات واستخدام كل الوسائل للضغط وتحقيق المطالب باستخدام موارد الطاقة الطبيعية والتهديد بالطاقة النووية، والأمن الغذائي واقفال معابر المياه الدولية، والدخول في حروب تدميرية ممنهجة تعتمد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وسلاح العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي والمالي وإبعاد الشركات عن الخدمات؛ كما في حال اصدار القوانين الملزمة او القرارات الاممية المتعلقة بالحصار الاقتصادي والعسكري والقانون الدولي ومحكمة الجنايات.

الصراعات الباهظة والحرب الباردة الجديدة: 

هكذا بات الصراع الجيوسياسي يفرض نفسه على الكرة الأرضية، من خلال محاولات متعددة لإقامة أحلاف ومعسكرات جديدة لمواجهة المعسكر الغربي، اي “الناتو”، الذي لايزال متماسكًا حتى الان، ويشكل تهديدًا لجميع المحاولات، لكن لا تزال المحاولات غير واضحة المعالم، بالرغم من المحاولات الدؤوبة التي تقوم بها موسكو لبناء حلف شرقي من دول “شرق آسيوية” يمكن ان تتواجد بقوة على الأرض فور الجلوس على طاولة المناقشات والتفاوض لرسم وصياغة خريطة جيوسياسية جديدة للعالم لكل حسب دوره ومكانه وتحالفاته.

لكن لابد من الوقوف امام هذا الصراع المستجد حاليًا في العالم، حيث بات التطرف والعصابات والشخصيات والمجموعات المتوحشة هي من تسيطر على العالم دون هوية قادمة للصراع. إن تغييب الايديولوجية لهذا الصراع هو أخطر ما تعيشه البشرية، وقد باتت الهوية الوطنية هي العنوان الرئيسي لشكل النظام العالمي الجديد.

عنوان الحرب الثانية التطرف والمصالح الخاصة:

إن الصراعات المفتوحة في الشرق الأوسط، والحروب في امريكا  اللاتينية مع تجار المخدرات والحروب والانقلابات العسكرية في افريقيا والصراع الدامي في اوكرانيا بين الغرب وروسيا لا يمكن فهمه الا في حدود الرغبة بحب السيطرة الخاصة، كما  بات التطرف هو عنوان المرحلة القادمة، فهذا التطرف الذي شهدناه في اوروبا الغربية والشرقية وروسيا  والانقلابات العسكرية في افريقيا والصراع في امريكا اللاتينية، هذا الصراع الذي برز في  الانتخابات الامريكية الاخيرة  بين الرئيس السابق دونالد ترامب وجو بايدن بات واضحًا مدى تحويل الصراع الحزبي الى صراع بين المتطرفين. ولكن الاخطر في ازمة الهوية هو الانتخابات الاوروبية الأخيرة، في المفوضية الأوروبية، حيث ظهرت شعارات اليمين الأوروبي الواضحة نحو إصلاح أخطاء اليسار القديمة في استقبال الأجانب، مما  يعني  انه رفع شعارًا  خطيرًا  يؤكد على التطرف من خلال الهوية القومية لكل دولة في تنظيف البلد من اللاجئين الأجانب، وهذا التطرف شاهدناه في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث بات شعار روسيا  المتطرف لا وجود لأوكرانيا او تدميرها، وبحال اعتراض الآخرين فالتأكيد على الهوية المتطرفة بأنه لا مكان لهذا العالم دون روسيا التي باتت معزولة ومحاصرة.

من هنا نرى بان غياب الايديولوجيات فتح الباب على مصراعيه امام التطرف لإثبات الهوية الوطنية التي لا تساعد في حلحلة الأزمات الاقتصادية لأي بلد، انما تزيد من عزلته بعدما باتت العولمة الاقتصادية وفتح الحواجز الجغرافية بين الناس مطلبًا شعبيًا. لقد باتت المصالح الخاصة والعصابات والفساد والرأسمال الاحتكاري والجشع هو سيد الموقف الذي بات يتصدر قيادة هذه الحرب العبثية الباردة والدامية والمكلفة للجميع.

لكن الجدير بالذكر بأن هذه المرحلة من الحروب تختلف كليًا في طروحاتها ومفاهيمها عن الحروب السابقة والتي تتبلور في حرب اوكرانيا وحروب الشرق الأوسط الاخيرة. هذه الحروب قد وضعت العالم كله في متاهات الصراعات الجديدة التي لم يألفها العالم، والقائمة على تأكيد الهوية القومية والمصالح الخاصة للمتحاربين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *