الضربة الإسرائيلية على السيادة القطرية
تجليات العدوان، وانكشاف ازدواجية المعايير، وتحديات الردع الإقليمي
وديع أبوهاني
10\9\2025
في تطور بالغ الخطورة، أقدمت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على تنفيذ ضربة صاروخية داخل الأراضي القطرية، مستهدفة مقر إقامة وفد حركة حماس الذي يتواجد في الدوحة بضيافة رسمية، وبعلم كافة الأطراف الدولية. هذا الاعتداء لا يُعد مجرد انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، بل يمثل تصعيدًا نوعيًا في نمط العدوان الإسرائيلي، الذي بات يستهدف القيادات السياسية للمقاومة الفلسطينية خارج الأراضي المحتلة، في محاولة لتوسيع ما يُسمى بـ”نطاق الردع الإسرائيلي” ليشمل المجال الإقليمي بأسره.
اللافت في هذا السياق هو الغياب شبه الكامل لأي رد فعل حازم من قبل المنظومة الخليجية، رغم أن الاستهداف طال دولة ذات سيادة، ويُعد سابقة خطيرة في استباحة المجال السياسي والأمني لدول المنطقة. هذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا في إطار ازدواجية المعايير التي باتت تحكم المواقف الرسمية، حيث يُدان الفعل المقاوم ويُبرر العدوان، ويُصوّر الدفاع عن الأرض والمقدسات كإرهاب، بينما يُغض الطرف عن انتهاك السيادة الوطنية لدولة خليجية.
وللمقارنة، حين أقدمت إيران قبل أشهر على استهداف قاعدة “العديد” الأمريكية الواقعة على الأراضي القطرية، اندلعت موجة من الإدانات الإقليمية والدولية، لم يكن جوهرها الدفاع عن السيادة القطرية، بل جاءت كرد فعل سياسي على الموقف الإيراني المناصر للمقاومة في غزة ولبنان. وعلى الرغم من محدودية الأضرار المادية، اعتُبرت تلك الضربة تهديدًا مباشرًا لأمن الخليج، خاصة من قبل الإمارات والبحرين، في حين غابت تمامًا الإشارة إلى واقع انتهاك السيادة القطرية ذاته، المتمثل في وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.
لقد كانت تلك الضربة الإيرانية، في جوهرها، رسالة تحذيرية موجهة إلى الولايات المتحدة، المنخرطة بشكل سافر في دعم العدوان الإسرائيلي على أكثر من جبهة، لا سيما في غزة ولبنان، وكذلك في سوريا واليمن والعراق. ومع ذلك، فإن ردود الفعل الرسمية تجاه تلك الضربة كشفت عن خلل بنيوي في فهم مفهوم السيادة، وعن ازدواجية صارخة في المعايير، حيث يُدان الفعل المقاوم ويُغض الطرف عن الانتهاك الفعلي للسيادة الوطنية.
وقبل يومين، وعلى إثر العملية الفدائية في القدس، سارع بعض الإعلام الخليجي، المتماهي مع الخطاب الصهيوني، إلى تصنيفها كعمل إرهابي، متجاهلًا السياق السياسي والإنساني الذي دفع إليها. فقد جاءت العملية ردًا مباشرًا على الانتهاكات المتواصلة في المسجد الأقصى، ومخيمات الضفة الغربية، وانتصارًا لغزة التي تواجه منذ نحو عامين عدوانًا إسرائيليًا همجيًا، اتسم بالتدمير الممنهج، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، في مشهد تجاوز كل تصور إنساني.
هذا العدوان لم يقتصر على البنية التحتية أو المواقع العسكرية، بل طال كافة مناحي الحياة في غزة، من المستشفيات والمدارس إلى شبكات المياه والكهرباء، في محاولة لفرض واقع من الإذلال الجماعي والإبادة البطيئة، وسط صمت دولي وتواطؤ إعلامي يُعيد تعريف الجريمة وفقًا لمصالح القوى المهيمنة.
أما اليوم، فإن استهداف قيادات حركة حماس داخل قطر، دون أي مبرر قانوني أو ذريعة أمنية، يُعد تصعيدًا خطيرًا، ورسالة تهديد موجهة ليس فقط للمقاومة، بل لكل دولة تحتضن موقفًا سياسيًا مستقلًا أو داعمًا للقضية الفلسطينية. هذا العدوان يكشف بوضوح أن إسرائيل لم تعد تكتفي بضرب غزة أو جنوب لبنان، بل باتت توسّع نطاق عملياتها ليشمل دولًا ذات سيادة، في ظل صمت دولي مريب وتواطؤ أمريكي واضح، سواء بالتنسيق أو بالموافقة الضمنية.
ويبقى السؤال الملح: لماذا لم تبادر وسائل الإعلام، والمجتمع الدولي، ودول خليجية مثل الإمارات وغيرها، إلى اتخاذ مواقف واضحة وحازمة تجاه العدوان الإسرائيلي الأخير، رغم أن الاستهداف لم يقتصر على حركة المقاومة، بل طال بشكل مباشر المنظومة السياسية والأمنية لدول الخليج نفسها؟ إن هذا الصمت لا يُفسَّر إلا باعتباره تواطؤًا ضمنيًا أو قصورًا استراتيجيًا في إدراك حجم التهديد الذي بات يطال السيادة الإقليمية، ويعيد رسم خرائط النفوذ دون اعتبار لحدود أو تفاهمات قائمة.
ومن الواضح لكل متابع، أن الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف الأراضي القطرية لم يكن ليتم دون علم مسبق أو تنسيق ضمني مع الجيش الأمريكي والبيت الأبيض، سواء عبر الإخطار أو الموافقة غير المعلنة. هذا التواطؤ الصامت يعكس حجم التشابك بين المشروع الإسرائيلي التوسعي والدعم الغربي الذي يوفّر له الغطاء السياسي والعسكري.
اليوم، لم يعد خافيًا على أحد أن مشروع “إسرائيل الكبرى” تجاوز كل الخطوط الحمراء، وبات يشكل تهديدًا مباشرًا للسيادة الوطنية لدول الإقليم. وإذا لم يُردع هذا التغوّل، فإن دول الخليج والشرق الأوسط ستجد نفسها عاجلاً أو آجلاً أمام واقع جديد تُستباح فيه حدودها، وتُقوّض فيه منظوماتها الأمنية والسياسية.
فما نشهده من استهداف ممنهج للبنان، واليمن، وفلسطين، والعراق، وما جرى سابقًا لإيران، وما حدث مؤخرًا لقطر، ليس سوى حلقات متصلة في سلسلة عدوانية لا تعترف بالسيادة ولا بالاستقرار. وإن لم يُكبح جماح نتنياهو وجيشه، فإن تركيا وغيرها من دول الإقليم لن تكون بمنأى عن محاولات الاستهداف الإسرائيلي، بأشكال مباشرة أو غير مباشرة، في قادم الأيام.
فهل يفيق العالم على هول الخطر الإسرائيلي الذي يهدد الاستقرار والسلام العالمي، ويضرب بعرض الحائط القانون والمواثيق الدولية؟
إن ازدواجية المعايير في التعاطي مع هذه الأحداث لم تعد تخفى على المواطن العربي، الذي بات يدرك أن المشروع الإسرائيلي لا يعترف بالحدود، ولا يحترم المواثيق الدولية، ويضرب بعرض الحائط كل قواعد القانون الدولي. فالهجوم على قطر لم يكن ليتم دون علم مسبق من واشنطن، ما يعكس حجم التواطؤ مع مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يهدد الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء.
لقد آن الأوان لأن تعي دول المنطقة أن السكوت عن التغول الإسرائيلي لن يحفظ السيادة، بل سيعرضها لمزيد من الانتهاك. فالمشروع الإسرائيلي لا يعترف إلا بمنطق القوة، ويستهدف كل من يعارضه سياسيًا أو أخلاقيًا، سواء كان ذلك في فلسطين أو لبنان أو اليمن أو العراق، وها هو اليوم يصل إلى قطر، وربما غدًا إلى تركيا وغيرها.
إن توصيف السلوك الإسرائيلي بأنه “مارق” أو “إرهاب دولة” لم يعد كافيًا. المطلوب اليوم هو تحرك سياسي وأمني جماعي، يضع حدًا لهذا التغول، ويعيد الاعتبار للسيادة الوطنية، ويوقف مشروع الهيمنة الأمريكية–الإسرائيلية الذي يعربد في المنطقة بلا رادع.