المشهد العملياتي في أوكرانيا وتداعياته الاستراتيجية الإقليمية والدولية

اهم التطورات في اوكرانيا

المشهد العملياتي في أوكرانيا وتداعياته الاستراتيجية الإقليمية والدولية

إعداد مركز “فيجن” للدراسات الاستراتيجية

كييف، أوكرانيا – 29 يونيو 2025

يمر المشهد العملياتي في أوكرانيا بفترة تحولات عميقة، تعكس ديناميكيات الحرب الدائرة وتداعياتها المتعددة الأبعاد على المستويين الإقليمي والدولي. يكشف تحليل الأحداث الأخيرة عن استمرار التصعيد الروسي، وتصاعد القدرات الدفاعية والهجومية الأوكرانية، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه موسكو، وتعمق النقاش حول الأطر الأمنية الأوروبية المستقبلية.

التطورات العسكرية الرئيسية

تلقّت أوكرانيا صباح هذا اليوم نبأً مؤلمًا بمقتل الطيار ماكسيم أوستيمينكو، وهو طيار للطائرة المقاتلة من طراز إف-16 ويحمل رتبة طيار من الدرجة الأولى، وذلك خلال هجوم جوي ليلي وقع في 29 يونيو. أكد الرئيس فولوديمير زيلينسكي توجيهاته بإجراء تحقيق شامل في جميع ملابسات وفاة أوستيمينكو، الذي يُشاد به كبطل حقيقي لتفانيه في الدفاع عن المدنيين، حيث قام بتحويل طائرته بعيدًا عن منطقة مأهولة بالسكان قبل سقوطها. يُضاف إلى سجله البطولي تدميره سبعة أهداف جوية خلال هذه الليلة تحديدًا. إن هذه الخسارة المأساوية للقوات الأوكرانية تسلط الضوء مجددًا على التضحيات الجسيمة التي يقدمها الطيارون الأوكرانيون في مواجهة التفوق العددي للقوات الروسية.

الهجوم الجوي الروسي الأوسع: تصدٍ أوكراني محكم وفعالية استثنائية للدفاعات الجوية

شهدت ليلة 29 يونيو هجومًا روسيًا جويًا واسع النطاق وغير مسبوق من حيث الحجم، حيث تم إطلاق 537 أداة هجومية جوية، بما في ذلك 477 طائرة مسيرة و 57 صاروخًا، تنوعت بين صواريخ كروز وباليستية. يوضح هذا الحجم الكبير الكثافة المتزايدة للضربات الروسية التي تستهدف البنية التحتية الأوكرانية. وشملت ترسانة الهجوم: 477 طائرة بدون طيار هجومية، غالبيتها من طراز “شاهد” إيرانية الصنع؛ 4 صواريخ من طراز Kh-47M2 “كينجال”، وهي صواريخ فرط صوتية تُعد تحديًا كبيرًا لأنظمة الدفاع الجوي المعيارية؛ 7 صواريخ باليستية من طراز “إسكندر-M/KN-23؛ 41 صاروخ كروز من طراز Kh-101/Iskander-K، وهي صواريخ مجنحة بعيدة المدى؛ 5 صواريخ كروز من طراز “كاليبر”، تُطلق عادة من منصات بحرية وغواصات؛ وصواريخ موجهة مضادة للطائرات من طراز S-300، التي تُستخدم النسخة المعدلة منها من قبل القوات الروسية كصواريخ أرض-أرض لضرب أهداف برية.

في المقابل، أثبتت الدفاعات الجوية الأوكرانية كفاءة ملحوظة في التصدي لهذه الموجات الهجومية، حيث تمكنت من إسقاط 249 هدفًا جويًا من الهجوم الليلي الأخير. تضمنت الإسقاطات: 211 طائرة بدون طيار هجومية من أصل 477؛ صاروخ واحد من طراز إسكندر-M/KN-23؛ 33 صاروخ كروز من طراز Kh-101/Iskander-K؛ و4 صواريخ كروز من طراز “كاليبر”.

تكشف البيانات عن فعالية لافتة للدفاعات الجوية الأوكرانية في التصدي للهجوم الروسي الأخير. من أصل 537 أداة هجومية جوية أطلقتها روسيا، تمكنت القوات الأوكرانية من إسقاط 249 هدفًا جويًا. بالإضافة إلى ذلك، فُقدت 225 طائرة مسيرة أخرى في الموقع، مما قد يعني أنها لم تصل إلى أهدافها أو سقطت لأسباب أخرى. بذلك، فإن إجمالي عدد طائرات “شاهد” التي تم تحييدها (سواء بإسقاطها أو فقدانها) يصل إلى 436 طائرة من أصل 477 طائرة “شاهد” تم إطلاقها، وهو ما يعادل نسبة تحييد تبلغ حوالي 91.4%. كما تم إسقاط ما يقارب 66.67% من الصواريخ الروسية التي تم إطلاقها (38 صاروخًا من أصل 57). وبشكل إجمالي، تم تحييد 474 هدفًا جويًا (249 هدفًا مسقطًا بالإضافة إلى 225 طائرة مسيرة مفقودة في الموقع) من أصل 537 أداة هجومية جوية تم إطلاقها، وهو ما يعادل نسبة تحييد إجمالية تبلغ حوالي 88.27% من إجمالي الأهداف.

تُبرز هذه الإحصائيات الكفاءة العالية لأنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية في التعامل مع التهديدات الجوية، خاصة تلك التي تشكلها الطائرات المسيرة والصواريخ، مما يقلل بشكل كبير من قدرة الهجمات الروسية على تحقيق أهدافها.

في سياق أوسع، كشف الرئيس زيلينسكي أن روسيا أطلقت خلال الأيام السبعة الماضية أعدادًا هائلة من الذخائر الجوية، بلغت 114 صاروخًا بالستيًا، ونحو 1100 صاروخ كروز مجنح، وأكثر من 1270 طائرة بدون طيار. تشير هذه الأرقام إلى استراتيجية روسية لاستنزاف موارد الدفاع الجوي الأوكراني وتهدف على الأرجح إلى ضرب الطيران الأوكراني، خاصة الطائرات المستلمة من الحلفاء، وكذلك منشآت إنتاج الأسلحة الأوكرانية بعيدة المدى مثل صواريخ نبتون وسابسان.

نتائج القصف الروسي وأثره على المدن الأوكرانية

تسببت الهجمات الروسية الليلة الماضية في أضرار مادية وبشرية في عدة مدن أوكرانية، حيث تم استهداف البنية التحتية المدنية والحيوية بشكل مباشر.

في سميلا (إقليم تشيركاسي)، تعرضت القرية لهجوم بالصواريخ والطائرات بدون طيار، مما أدى إلى إصابة ستة مدنيين، وتضررت ثلاثة مبانٍ سكنية مكونة من تسعة طوابف، ولحقت أضرار جسيمة بالكلية المحلية التابعة للجامعة الوطنية لتكنولوجيا الأغذية. وفي خاركوف، أصابت طائرة بدون طيار سطح مبنى شاهق الارتفاع، وتجري حاليًا عمليات التحقق من نتائج القصف وحجم الأضرار. في إيفانو فرانكيفسك، سُجلت أضرار في المباني السكنية الخاصة، بالإضافة إلى تضرر كنيسة ومنزل، ودخول امرأة واحدة المستشفى لتلقي العلاج. أما ميكولايف، فقد تعرضت المدينة لهجوم بصواريخ باليستية وعدة مجموعات من مسيرات “شاهد”، استهدف منشأة للبنية التحتية الحيوية، مما أدى إلى اندلاع حريق كبير. في لفيف، استُهدفت البنية التحتية الحيوية في المدينة بصواريخ كروز وطائرات مسيرة، مما يبرز اتساع نطاق الهجمات الروسية ليشمل المناطق الغربية من أوكرانيا. كما شنت القوات الروسية غارات على زابوريجيا وكريمينتشوغ (إقليم بولتافا)، مما تسبب في إلحاق أضرار بالمؤسسات التجارية. وأخيرًا، تضررت البنية التحتية المدنية ودمرت بشكل واسع في منطقة سومي.

الرد الأوكراني: عمليات هجومية على الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم المحتلة

في إطار الرد على العدوان، نفذت القوات الأوكرانية عمليات هجومية داخل الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم المحتلة، بهدف تعطيل القدرات اللوجستية والعسكرية الروسية.

تضمنت هذه العمليات هجمات منسقة على المطارات والترسانات العسكرية، حيث تم استهداف مطارين للطيران الاستراتيجي داخل الأراضي الروسية، بالإضافة إلى منشأة في شبه جزيرة القرم المحتلة، مما أدى إلى حرائق واسعة وتدمير طائرات. كما تم استهداف ترسانة تابعة لإدارة الصواريخ والمدفعية بوزارة الدفاع الروسية في منطقة بريانسك، مما أسفر عن انفجارات ضخمة في مستودعات الذخيرة. وتشير التقارير إلى أضرار بالقاذفات الاستراتيجية والأسلحة عالية القيمة، حيث هاجمت أكثر من 200 طائرة مسيرة أوكرانية أهدافًا في روسيا، مما ألحق أضرارًا بالمطارات العسكرية والقاذفات الاستراتيجية (Tu-95MS و Tu-160) التي تُستخدم بشكل رئيسي لشن هجمات صاروخية على أوكرانيا. كما تم ضرب مستودعات تحتوي على قنابل FAB-KAB الثقيلة وصواريخ كروز (Kh-555 و Kh-101). نجحت العمليات الأوكرانية أيضًا في تدمير أنظمة الدفاع الجوي والمروحيات، حيث تم تدمير نظام صواريخ بانتسير-S1 المضاد للطائرات وثلاث مروحيات روسية (Mi-8، Mi-26، و Mi-28) في مطار كيروفسك بشبه جزيرة القرم المحتلة. وتشير التقارير إلى إمكانية استخدام صاروخ نبتون معدّل طويل المدى، برأس حربي يزن 150 كجم، في الهجوم على مطار إنجلز، مما قد يكون قد تسبب في انفجار مستودع ضخم للقنابل والصواريخ الجوية. يتمتع صاروخ نبتون بمدى مؤكد يتراوح بين 500-600 كم، ويُعتقد أن مداه التشغيلي يمكن أن يصل إلى 1000 كم، مما يجعله قادرًا على ضرب أهداف استراتيجية عميقة داخل الأراضي الروسية. وتُعرف تكتيكات مديرية المخابرات الرئيسية وجهاز الأمن الأوكراني في القرم بنجاحها في مهاجمة أهداف روسية حيوية في شبه جزيرة القرم المحتلة، مستهدفة أنظمة الدفاع الجوي والسفن البحرية والمروحيات. تشير التقارير إلى تضرر 13 محطة رادار روسية، وتُعرف كلتا الوكالتين بابتكارهما في استخدام المركبات السطحية بدون طيار كـ “حاملات طائرات” للطائرات المسيرة وربما للصواريخ، مما يوسع من قدرات الهجوم البحري الأوكراني.

تحليل القتال الجوي والوضع الميداني العام

يُقدم العديد من المحللين العسكريين تحليلًا معمقًا للوضع الجوي والبري الراهن، مشيرين إلى أن خسائر روسيا الجوية خلال شهر يونيو تماثل أو تتجاوز تلك التي تكبدتها في مارس 2022. هذا التطور يؤكد غياب أي تفوق جوي حاسم لأي من الطرفين في الصراع. وفي سياق متصل، يَلفت المحللون الانتباه إلى تزايد إنتاج روسيا من الطائرات المسيرة، بما في ذلك النسخ المتطورة المزودة بمحركات نفاثة. لذا، يشددون على الضرورة المُلحة لأوكرانيا وحلفائها لتعزيز إنتاج الإجراءات المضادة الفعالة لمواجهة هذا التهديد المتنامي.

على الصعيد الميداني يصف المحللون القتال بالعنيف والمكثف بشكل خاص في محور بوكروفسك. في هذا المحور حشدت روسيا قوة ضخمة تقدر بحوالي 110 ألف جندي وتتعدد محاور هجماتهم:

حول مدينة بوكروفسك يشكل الروس شبه تطويق للمدينة من الشرق لكنهم لا ينجحون في الدخول اليها نظرًا للخسائر الفادحة التي يتكبدونها. بين بوكروفسك وكوستيانتينيفكا يحاول الروس توسيع رأس حربة قواتهم في مؤشر على مساعيهم لتعزيز مواقعهم الهجومية. جنوب غرب بوكروفسك (باتجاه نوفوبافليفكا) بعد سيطرتهم على كوراخوفا تتقدم القوات الروسية شرقًا نحو اقليم دنيبروبيتروفسك مما يشير إلى محاولات لتوسيع نطاق عملياتهم الهجومية.

إضافة إلى ذلك يذكر أن القتال قد اشتد في محور زابوريجيا مع استمرار الصعوبة الكبيرة التي تواجهها القوات الروسية على جبهة خيرسون بسبب العائق الطبيعي الذي يشكله نهر دنيبر.

التطورات السياسية والاقتصادية

في ظل التوترات المتصاعدة في أوروبا، يبرز النقاش حول مفهوم “المظلة النووية” الأوروبية كعنصر حاسم في استراتيجية الردع. تقليديًا، اعتمدت الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل كبير على الردع النووي الأمريكي لضمان أمنها. ومع ذلك، تشهد الفترة الأخيرة دعوات متزايدة داخل أوروبا لتعزيز قدرات الردع النووي الذاتية أو إنشاء “مظلة نووية أوروبية” مستقلة، خاصة في ظل التحديات الأمنية المتزايدة. تتضمن هذه المناقشات عدة جوانب رئيسية: تعزيز الدور الفرنسي والبريطاني، حيث تمتلك كل من فرنسا والمملكة المتحدة ترسانات نووية مستقلة، ويقترح البعض أن تلعب هذه الترسانات دورًا أكبر في توفير الردع لبقية الدول الأوروبية. ومع ذلك، تثير هذه الفكرة تحديات كبيرة تتعلق بالسيطرة وصنع القرار، حيث إن الدول غير النووية قد لا تشعر بالاطمئنان الكافي لاعتمادها على قرار دولة نووية واحدة. كما تبرز قضية مشاركة الأسلحة النووية، حيث يرى البعض أن نموذج “مشاركة الأسلحة النووية” ضمن حلف الناتو، والذي تستضيف فيه بعض الدول الأوروبية أسلحة نووية أمريكية ويشارك طياروها في تدريبات استخدامها، يمكن توسيعه أو تعديله ليشمل سيناريوهات أوروبية أكثر استقلالية. إلا أن إنشاء مظلة نووية أوروبية مستقلة يواجه تحديات سياسية وقانونية كبيرة، بما في ذلك معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي تمنع الدول غير النووية من امتلاك أو تطوير أسلحة نووية. كما أن هناك انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي حول جدوى وشرعية مثل هذه الخطوة.

لكن تبقى أهمية الردع النووي عنصرًا أساسيًا لضمان الاستقرار الاستراتيجي في المنطقة، خاصة في مواجهة أي تهديدات نووية محتملة. النقاش الحالي يعكس قلقًا متزايدًا بشأن موثوقية الردع الحالي وضرورة تعزيزه في سياق جيوسياسي متغير.

من ناحية أخرى، على الصعيد الاقتصادي، تواجه شركة غازبروم الروسية أزمة غير مسبوقة تتمثل في وجود 60 مليار متر مكعب من الغاز غير المباع. يعزى هذا الفائض الهائل بشكل رئيسي إلى فقدان الشركة للسوق الأوروبية بشكل كبير، إضافة إلى فشل إبرام عقود جديدة واسعة النطاق مع الصين، مما يمثل تحديًا كبيرًا لإنتاج الشركة وإيراداتها. يُقدر هذا الفائض بما يعادل تقريبًا الإنتاج السنوي للغاز في دبي أو ثلاثة أضعاف الاستهلاك السنوي لبولندا، مما يشير إلى حجم الأزمة الهيكلية التي تواجه قطاع الطاقة الروسي.

اما سياسيًا، فيزداد الضغط الدولي على روسيا، حيث يطالب أعضاء ديمقراطيون بارزون في مجلس الشيوخ الأمريكي، بقيادة السيناتور رون وايدن، وزير الخزانة سكوت بيسنت، بتطبيق صارم للعقوبات المفروضة على روسيا. كما يطالبون بتوضيح كيفية ضمان استفادة أوكرانيا من اتفاقيات المعادن الحيوية والاستثمارات التي تهدف إلى تحسين أمنها بعد الحرب، مع التأكد من عدم تمكين الكيانات أو الأفراد الذين دعموا العدوان الروسي من الاستفادة من هذه الاتفاقيات.

تعزيز الدفاع الجوي الأوكراني وموقف أوكرانيا من ضرب البنية التحتية للطاقة

في خطوة استراتيجية لتعزيز القدرات الدفاعية، أشار محللون عسكريون إلى موافقة مجلس الوزراء الأوكراني في 13 يونيو على تدابير تنظيمية لتوسيع قدرات الدفاع الجوي من خلال تشكيل مجموعات داخل المجتمعات الإقليمية. تسمح هذه المبادرة للمواطنين غير الخاضعين للتعبئة بالمشاركة في الدفاع عن مناطقهم، بدعم من وزارة الدفاع في توفير المعدات والمزايا المالية. ويشمل ذلك استخدام الطائرات المسيرة الأوكرانية الصنع وحتى الطائرات الخاصة، مما يدل على نهج شامل لتعزيز الدفاع.

وفيما يتعلق بضرب البنية التحتية للطاقة، أكد الرئيس زيلينسكي موافقة أوكرانيا على وقف متبادل للضربات على البنية التحتية للطاقة، مع إعداد أوكرانيا قائمة بالأهداف التي يجب على روسيا عدم ضربها، لتقديمها في المحادثات التي كانت مقررة في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، تشير التوقعات إلى أن القوات الأوكرانية ستستمر في استهداف مصافي النفط الروسية بغض النظر عن الاتفاقيات الرسمية، مما يسلط الضوء على التعقيدات والتحديات في تنفيذ مثل هذه الاتفاقيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *