اليوم التالي لنهاية العدوان على قطاع غزة: الوقائع والتحديات
د. علاء ابو عامر
أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، مختص في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية
28/4/2024
“الحرب هي السياسة لكن بأدوات عنيفة”، عبارة المفكر البروسي “كارل فون كلوزفيتز”، لا تتغيّر طبيعة الحرب أبدًا، فهي تُخاض لتحقيق أهدافٍ سياسيّةٍ. وعليه وفق هذه المقولة فإن استراتيجية أي حرب، ومدى نجاحها وتحقيق النصر فيها يعتمد على الأهداف السياسية التي وضعها كلٌّ من طرفي الحرب بحسب رؤيته، أو بالأحرى استراتيجيته المأمول الوصول إليها.
فما هي أهداف العدوان الصهيوني- أميركي؟
وفق المعلن، يتفق الحليفان على تدمير حركة حماس سياسيًا وعسكريًا، وخلق واقعٍ سياسيٍ جديدٍ في قطاع غزّة. والمعلن رسميًا أيضًا، عبر تصريحات وزراءٍ وقياداتٍ عسكريةٍ صهيونيةٍ (إسرائيلية) أهدافٌ أهمّ سعوا إلى تحقيقها، بل ما زالوا يشجعون عليها، ورد ذكرها في لائحة دعوى دولة جنوب افريقيا أمام محكمة العدل الدولية، هي تدمير قطاع غزّة تدميرًا شبه كاملٍ، وإبادة الآلاف من سكانه، وتهجير الباقي قسرًا عن بلادهم.
سيحاول الطرفان تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه عسكريًا بالابتزاز السياسي والمالي والإنساني للسكان المدنيين
الملاحظ وفق عديد التقارير الأميركية والإسرائيلية والمحايدة؛ أنّ الولايات المتّحدة وحليفتها اللقيطة دولة إسرائيل لم تنجحا في تحقيق الهدفين المعلنين المشتركين، وهما تدمير (حماس) سياسيًا وعسكريًا، والآخر الأهمّ، تهجير السكان، وذلك لأسبابٍ عدّةٍ، أهمّها تمسك الغزيين بأرضهم ووطنهم وإصرارهم على عدم مغادرتها، والثانية المقاومة الفلسطينية الضارية، مترادفةً مع دبلوماسيةٍ فلسطينيةٍ ودوليةٍ نشطة، بالإضافة إلى الموقف المصري الثابت بشأن عدم الموافقة على تهجيرهم إلى سيناء المصرية، مما اسقط في يد الصهاينة هدفهم الاستراتيجي “إخلاء القطاع من سكانه وضمه في ما بعد إلى دولة الكيان الغاصب، وإنهاء القضية الفلسطينية مرّة وللأبد”، كما فعل في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي القدس والجولان.
مصادر قوة إسرائيل وارتكابها إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني
أقصى التوقعات الأميركية تتحدث عن تدمير دولة الصهاينة؛ بعد مرور ستة أشهرٍ، 20% من قدرات المقاومة الفلسطينية فقط، أفرادًا ومعداتٍ وأنفاقًا، كما نجحت، بدعمٍ أميركي، في تدمير قطاع غزّة ببناه التحتية وأحيائه بنسبةٍ تجاوزت في بعض الأحيان 90%.
عجز الكيان عن تحقيق أهدافه المعلنة؛ يمثل انتكاسةً سياسيةً له، جعل حلفاءه في الغرب والعالم، بما في ذلك شريكته في العدوان الولايات المتّحدة، تطرح حلًا سياسيًا إنقاذيًا لليوم التالي للحرب، يقضي بتسلم السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله إدارة قطاع غزّة، بعد أن “أُصلحت” قيادتها استجابةً للضغوط الأميركية، وعُينت أخرى جديدة بمقاييس أميركيةٍ غربيةٍ، استعدادًا لفتح باب التسوية السياسية، التي يجب أن تقود إلى تطبيق حلّ الدولتين، الذي يخشى أن يكون إعادةً لبيع وهمٍ جديدٍ يخرج دولة الصهاينة من مأزقها الحالي، ويعيد تأهيلها للتطبيع مع العرب، إلّا أنّ تحقيق هذه التسوية إذا صدقت النوايا الأميركية تحديدًا، يعتبر هزيمةً لدولة الصهاينة سياسيًا، إذ تعتبر الأخيرة تطبيق هذا الحلّ بداية نهاية دولتها، وانفجار مجتمعها داخليًا، وفتيلًا يشعل الحرب الأهلية، التي تزايدت مؤشراتها في الشهور الماضية، نتيجة خلافاتٍ تشريعيةٍ ودينيةٍ وحياتيةٍ وتصورٍ عام لمستقبل هذه الدولة المصطنعة.
فلسطينيًا، وبما أن الشعب الفلسطيني يخضع للاحتلال يبقى هدفه العام الأسمى تحرير الأرض، وإقامة دولةٍ حرّةٍ سيدةٍ وعاصمتها القدس. كذلك؛ هدفت حركة حماس، ومعها حركات المقاومة الفلسطينية، من عملية “طوفان الأقصى“، إلى حماية المسجد الأقصى، ووقف الاعتداءات عليه، وإفشال التقسيم الزماني والمكاني، وإطلاق سراح الأسرى، وفك الحصار عن قطاع غزّة، وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية دوليًا وعربيًا وإسلاميًا، وتحقيق الهدف المرحلي المتمثل بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ ذات سيادةٍ وعاصمتها القدس الشرقية، مقدمةً لتحرير كلّ فلسطين.
أقصى التوقعات الأميركية تتحدث عن تدمير دولة الصهاينة؛ بعد مرور ستة أشهرٍ، 20% من قدرات المقاومة الفلسطينية فقط
فهل حُققت أيٌّ من هذه الأهداف؟
من السابق لأوانه الإجابة بنعم أو لا، فالحرب لم تضع أوزارها بعد، والمفاوضات ما زالت مستمرةً، وهناك إصرارٌ فلسطينيٌ على تحقيقها. السؤال الاستشرافي المطروح اليوم: ما هي التحديات التي انتجتها الحرب العدوانية حتّى الآن؟
فلسطينياً: تتمثّل التحديات أولًا في إيواء السكان و إعادة الإعمار، ربما هذا التحدي الأصعب، فهذه المهمة لن تتم من دون شروطٍ وابتزازٍ سياسيٍ صهيونيٍ أميركيٍ، إذ سيحاول الطرفان تحقيق ما عجزوا عن تحقيقه عسكريًا بالابتزاز السياسي والمالي والإنساني للسكان المدنيين، بهدف إسقاط حكم حماس وسيطرتها على القطاع، مع تحريضٍ كبيرٍ على قيادتها السياسية والعسكرية لتأليب الرأي العام الغزي عليها، وإحداث ثورةٍ عارمةٍ من السكان الثكلى والجرحى والمشردين بلا مأوى، وقد بدأ التحريض منذ مدّةٍ حتّى قبل نهاية العدوان، من خلال أبواقٍ صهيونيةٍ وعربيةٍ وفلسطينيةٍ، تريد استغلال العدوان ونتائجه لقطف ثمارٍ لم تزرعها، ولم تشارك في ريها أصلاً.
إسرائيلياً: ستعمل دولة الصهاينة على منع توحيد الضفّة الغربية وقطاع غزّة تحت سلطةٍ واحدةٍ، بكلّ ما تملك من أدوات ضغطٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ وأمنيةٍ، خشية أن يكون ذلك مقدمةً لتطبيق حلّ الدولتين من المجتمع الدولي، وسط رغبةٍ أميركية (بحسب المعلن) في تحقيق ذلك، حمايةً لأمن إسرائيل، وتأمينًا لمستقبلها واستمرارها، فهي ستجعل حياة الغزيين جحيمًا مطلقًا عبر التمسك بالأشراف على المعابر الحدودية، حتّى تتحكم في مأكل القطاع ومشربه ووارداته من المواد الأساسية، أي مضاعفة الحصار أكثر مما كان قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هناك تحدياتٌ أخرى ستواجه دولة الصهاينة، منها ترميم مجتمعها، الذي سيعاني طويلًا آثار الحرب اقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا ونفسيًا، وترميم صورتها الخارجية لدى شعوب أوروبا وأميركا والعالم.
بعيدًا عن رؤية طرفي الصراع لنهايته، تشير التصريحات السياسية إلى أنّ الحدّ الأدنى القادم هو الاعتراف الدولي بدولة فلسطين؛ حتّى الآن أعربت خمس دولٍ أوروبيةٍ عن ذلك، رغم إحباط الأمريكيين عضوية فلسطين الدائمة في الأمم المتّحدة.
هذه الحرب تمثل نقطة تحوّلٍ كبرى في الصراع؛ ما قبلها ليس كما بعدها، إسرائيل اليوم ليست تلك التي كانت قبل ستة أشهرٍ
كذلك؛ من المؤمل تحقيق إنجازاتٍ فلسطينيةٍ مرحليةٍ، عن طريق تسويةٍ سياسيةٍ، ما زالت العوائق في طريقها كثيرةً، لغياب الإرادة الأميركية الحازمة، فالولايات المتّحدة ما زالت تقف عند حدود مبدأ كيسنجر “أن أميركا تقبل ما تقبل به إسرائيل”، وصهاينة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، قد يختلفان مع إسرائيل تكتيكيًا، لكنهما يتفقان استراتيجيًا معها، ويصطفان خلفها.
لذلك قبل الحديث عما بعد العدوان، علينا طرح السؤال التالي، هل هناك تخطيطٌ فلسطينيٌ له، منذ اليوم؟ قد تكون هناك خططٌ للسلطة في رام الله، وأخرى لدى سلطة حماس في غزّة، لكن ذلك ليس حلاً بل الحلّ يقضي بتوحيد القوى الفلسطينية المختلفة الصفوف تحت قيادةٍ فلسطينيةٍ موحدةٍ، حتّى لا تضيع إنجازات هذه الحرب فلسطينيًا من الناحيتين السياسية والشعبية، والدعم العالمي، إذ الخشية أن تتبخر كلّ الإنجازات مع الوقت إذ لم تستفد القوى الفلسطينية المختلفة من اللحظة الراهنة، وبهذا تقدم القوى الفلسطينية خدمةً استراتيجيةً للعدوان الصهيوني الأميركي بوعيٍ أو من غير وعي، نتيجة توزع الولاءات، ومحاولة الاستئثار بالسلطة على حساب الوحدة الوطنية، وبذلك تلحق النخب الفلسطينية النافذة هزيمةً كبرى بالمشروع الوطني والتحرري الفلسطيني، بدل السعي لتحويل الكارثة والبطولة إلى نصرٍ مؤزرٍ.
يحدد السلوك السياسي الفلسطيني معالم اليوم التالي؟ هذا السلوك وطبيعته سيكون حاسمًا في بناء المستقبل، إن فشلت النخب الفلسطينية، خصوصًا الفصائل السياسية، في بناء رؤيةٍ مشتركةٍ فهي من دون غيرها من تتحمل النتائج.
في الختام، مهما كانت النتائج القادمة، فإن المؤكد أن هذه الحرب تمثل نقطة تحوّلٍ كبرى في الصراع؛ ما قبلها ليس كما بعدها، إسرائيل اليوم ليست تلك التي كانت قبل ستة أشهرٍ، تغيرت نظرة العالم لها يهوديًا وأوروبيًا وأميركيًا وعربيًا، فهي أقلّ قيمةً وأضعف قوةً، داخليًا وخارجيًا، وفلسطين رغم كلّ الجراح والدمار ستخرج أقوى، وأكثر تصميمًا على التحرر والاستقلال.
اليوم التالي، أو ما بعد انتهاء العدوان في بعده الآني، ما زال غامضًا، تحدده عوامل فلسطينيةٍ وإسرائيليةٍ وأميركيةٍ وعربيةٍ وأمميةٍ عدّة، مجموع هذه المواقف، وما سينتج عن الصفقة المحتملة هو ما سيجيب على الأسئلة المطروحة.
نظام الذكاء الاصطناعي “لافندر”: كيف تقتل إسرائيل الفلسطينيين في غزة
-
تم النشر بالتنسيق مع الكاتب