ترامب، فانس، زيلينسكي – حادثة البيت الأبيض … الاسباب والمآلات

ترامب، فانس، وزيلينسكي

ترامب، فانس، زيلينسكي

حادثة البيت الأبيض … الاسباب والمآلات

عبد الرحمن عقل – كاتب ومحلل سياسي

5\3\2025

لا شك أن ما حصل في البيت الأبيض بعد زيارة الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي ولقائه مع كل من الرئيس الامريكي دونالد ترامب ونائبه ج. د. فانس أدهش العالم! لم يتوقع أحد هذه المشاهد! لم يتوقع أحد ان تتحول السياسة الدبلوماسية الرصينة الى مشادة كلامية حادة بين الطرفين، انتهت بطلب الرئيس الامريكي الرئيس الأوكراني أن يغادر البيت الأبيض!

المقدمات

الحقيقة أن ترامب وفريقه الاعلامي ومنذ بدأ الانتخابات كان دائما يؤكد على انه الرجل الذي سيصنع السلام في واحدة من اعقد القضايا العسكرية في هذا القرن، وقد كان الكثيرون يسألون عن سبب ثقته في أنه سيجلب السلام لكافة الأطراف؟ ليكون الجواب دائما انه يعرف بوتين ويعلم كيف يتحدث معه. من هذه النقطة تحديدا ننطلق، ففيها إقرار مسبق من ترامب، بأمر بديهي للجميع، أن الحرب بدأها بوتين ووحده ينهيها! فالحرب الروسية – الأوكرانية هي غزو روسي للأراضي الأوكرانية، بالتالي الطريقة الوحيدة لإيقاف الحرب هي ايقاف هذا الغزو! مما يعني بالضرورة أن إيقاف الحرب يعني تفاهم بطريقة او بأخرى مع بوتين! خطة ترامب سابقاً كانت انه ومن خلال معرفته السابقة لبوتين سيجد طريقة يغريه فيها ببعض المكاسب ويتفاوض معه على حل وسط! لكن ما لم يكن يعلمه ترامب هو انه على الرغم من ان بوتين بالفعل شخص براغماتي يمكن التفاوض معه، الّا أن قضية أوكرانيا بالنسبة له هي جوهرة التاج الروسي، وانه قد قرر بالفعل ان أوكرانيا بالكامل هي أرض روسية، وهذا سيجلب المجد لاسمه كإمبراطور! هذه رؤية بوتين الذي كررها في الصالات المغلقة مع سياسي اوروبا وكررها في مقابلة تاكر كارلسون! ببساطة! لا يوجد أوكرانيا عند بوتين! بمعنى أخر الطريقة الوحيدة التي ينتهي فيها الغزو الروسي لأوكرانيا هي استسلام أوكرانيا!

هل هذا يعني ان بوتين طلب من ترامب تسليم أوكرانيا بالكامل؟ لا ليس بالضرورة! بوتين يدرك انه اليوم غير قادر على احتلال أوكرانيا، لذا فإن الهدف التفاوضي هو تثبيت حكم روسيا على كافة الاقاليم المحتلة من جهة، بل وربما إرغام أوكرانيا على تسليم حتى المناطق التي تحت الحكم الاوكراني من الاقاليم الأربعة مقابل وقف إطلاق النار بدون أي ضمانات! بمعنى أخر استسلام أوكرانيا، على الأقل في هذه المرحلة من الحرب، ريثما يعيد بوتين رص صفوفه ليتابع ما بدأه في عام 2014 و 2022!

من الطبيعي إذًا لأوكرانيا الرفض لسببين، الأول أن وقف إطلاق النار أمر مختلف تماما عن تسليم الاراضي الأوكرانية لروسيا! من الممكن التفاوض على وقف إطلاق النار، لكن التنازل عن الأراضي الأوكرانية أمر مرفوض بالنسبة للشعب وللحكومة الأوكرانية. وحتى لو فرضنا جدلًا أن الإرهاق الذي أصاب الطرفين الروسي والاوكراني قد يكون سبب للضغط على أوكرانيا لتسليم أراضيها، السؤال الرئيس هو ما الضمانات انه بعد إعادة روسيا رص صفوفها لن تعود لغزو كييف العاصمة مرة أخرى؟

هل يمثل احتفاظ روسيا بالأراضي الأوكرانية “مفتاحاً” لإنهاء الحرب؟

من الواضح أن ترامب فشل تماما في أن يضغط على بوتين بإيجاد أي ضمانات! حتى موضوع الجنود الأوربيين، الذي سبق وان صرح ترامب بموافقة بوتين عليه لا يبدو ان بوتين قبل به! مما يعني ان العرض الروسي على الطاولة هو أن وقف إطلاق النار من الطرف الروسي شرطه استسلام أوكرانيا بشكل كامل وبدون اي ضمانات لها ولا حتى تعويضات عما فعلته روسيا في أوكرانيا!

إن هذه الاتفاقية الموجودة على الطاولة هي أسوء حتى من اتفاقية اسطنبول التي عرضتها روسيا، لأنها لا تكتفي بخسارة أوكرانيا لأراضيها وقوتها، بل تضيف عليها أيضا أن المناطق الأوكرانية الحرة ستصبح رهينة تماما عند أمريكا، حسب الاتفاق الذي يريد ترامب من زيلينسكي توقيعه حول خيرات الاراضي والموانئ الأوكرانية!

بالتالي السؤال المطروح هو: إن كان ترامب قادم باتفاق الاستسلام لروسيا فما الجديد الذي جلبه ترامب للطاولة؟ ولماذا على الأوكرانيين مكافئته بمنحه المليارات الأوكرانية من الثروات الباطنية؟

حادثة البيت الأبيض

مما سبق وبشكل واضح، لقد فشل ترامب أن يضغط على الروس بأن يقدموا أي تنازل لكنه، أي ترامب، أولا يحتاج روسيا كحليف، وثانيا أمامه عرض من بوتين للاستفادة من الثروات الباطنية في روسيا بما فيها على ما يبدو الأراضي الأوكرانية المحتلة في “الدونباس” (التي تضم إقليمي دونيتسك ولوغانسك) وغيرها، وهذه نقطة مفصلية! إذ أن ترامب الآن أصبح مستفيدا ليس فقط من وقف إطلاق النار! بل من استسلام أوكرانيا، لأنه طالما ان “الدونباس” محتلة بشكل غير قانوني لا يمكن لترامب ولا غيره الاستثمار بها حسب القانون الدولي، وهو يريد اسقاط كافة العقوبات عن روسيا ليتعامل معها اقتصاديا، بما فيها حتى العقوبات على الاقاليم المحتلة!

لذلك دخل ترامب وفانس الى البيت الأبيض ليس لإقناع زيلينسكي بالتوقيع، بل لتهديده وابتزازه، وهو ما بات واضحا من خلال اللغة التي تم استخدامها. ترامب أراد إظهار نفسه كمفاوض بارع، وبما أنه فشل تماما بتحريك الطرف الأول فقد قرر ان يغير استراتيجيته الى ابتزاز الطرف الثاني بشكل كامل حتى يستسلم ويرضخ ويوقع اتفاقية استسلام! النقطة الاساسية هي ابتزاز أوكرانيا بالدعم الأمريكي، وأن أوكرانيا يجب ان تكون شاكرة لأمريكا، لكن النقطة التي تجاهلها تماما ترامب أن الدعم الأمريكي المقدم لأوكرانيا لم يكن يوماً مجانيا بل هو جزء من “اتفاقية بودابست” عام 1994، والتي وقعتها أمريكا وروسيا وبريطانيا وأوكرانيا حول ضمان أمن أوكرانيا إن تعرضت لأي هجوم مقابل أن تسلم أوكرانيا سلاحها النووي وصواريخها بعيدة المدى! من نافلة القول ان أوكرانيا بالأساس لو لم تسلم هذا السلاح لما احتاجت الدعم الامريكي أصلًا ولا كانت روسيا ستغزو القرم و”الدونباس” عام 2014 ولا العاصمة كييف وباقيي الأراضي الأوكرانية عام 2022!

خطة ترامب لاستسلام أوكرانيا وتجميد الحرب

والغريب والمتناقض، أن ترامب كان يحاول تجنب الكلام عن أي ضمانات لأوكرانيا، مع ان أوكرانيا إنكوت بنار عدم تفصيل الضمانات في “اتفاقية بودابست”، نفسها التي تجاهلها بالأساس بوتين، والآن يتجاهلها ترامب في رسالة متناقضة للأوكرانيين تعدهم باتفاقية يمكنهم الوثوق فيها من طرفين بالأساس لم يلتزموا بالاتفاقية القديمة ويتجاهلونها وكأنها لم تكن!

لذلك رفض الرئيس زيلينسكي ان يتحدث عن أي اتفاق بدون ضمانات، كي لا تتكرر نفس كارثة عام 1994. ولذلك تم ابتزازه ويستمر ابتزازه من ترامب الذي يرى أن السيناريو الوحيد للسلام هو استسلام أوكرانيا، وسوف يضغط على أوكرانيا “التي كانت السبب في محاكمته السابقة وحصوله على محاولة العزل في دورة رئاسته الأولى” لكي تستسلم، كي يظهر هو بمظهر البطل كما وعد جمهوره وليحصل على نتائج الاستثمار مع بوتين.

ما النتائج المحتملة لما حصل؟

حالياً تحاول أوكرانيا اعادة فتح خط مع الولايات المتحدة، لكن دون الرضوخ للابتزاز السياسي. وهي عملية في غاية التعقيد. بنفس الوقت الذي تعمل الدبلوماسية الاوربية على تقريب وجهات النظر من ناحية، ومحاولة تأمين أوكرانيا، التي تحارب أكبر دولة بالعالم والتي تحتاج كل الدعم لذلك، من ناحية اخرى!

إن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم تملك أقوى الأوراق، وهي اقوى من الطرفين! لكن ما لا يدركه ترامب أن استمرار هذه السياسة سيضعف موقف الولايات المتحدة لان نقطة قوة أمريكا هي بالدعم لأوكرانيا! ايقاف الدعم يعني انهيار مؤقت للقوات الأوكرانية لكن في حال تعويض جزء كبير من المساعدات من الطرف الأوربي فإن جميع أطراف الحرب سيعتادون على غياب الدور الأمريكي، مما يهمش أمريكا بشكل أو بآخر في هذه الحرب، وربما في صراعات اخرى!

الأهم من ذلك، أن ما حصل كان كابوس لدول البلطيق وبولندا وباقي دول أوروبا! أي منهم كان من الممكن، ولا يزال يمكن أن يكون، مكان أوكرانيا، وهم يرون بأعينهم سنين من الاتفاقيات العسكرية مع امريكا التي جرّت أوروبا الى الشرق الأوسط ومناطق اخرى لدعم أمريكا، خوفا من لحظة ان يتهدد أوروبا خطر حقيقي، ظنا من الأوربيين أن الولايات المتحدة شريك يعتمد عليه! رسالة ترامب واضحة! الولايات المتحدة ليست شريك يُعتمد عليه، بل ممكن حتى أن تتحول الى عدو!

ماذا يترتب على هذا الأمر لأوروبا؟ على أوروبا ان تبحث عن حلول بديلة حقيقية لحماية أمنها! زيادة الدعم العسكري وزيادة العناصر المقاتلة! وبما أن اغلب دول اوروبا لا تملك خزان عسكري من القوات، تبدو أهمية كل من بولندا وأوكرانيا بما أنهما من أكبر الخزانات البشرية للقوات العسكرية في أوروبا، خاصة بعد الخبرة العسكرية لأوكرانيا في الحرب الأخيرة! بالتالي على أوروبا أن تتمسك أكثر بأمن أوكرانيا والتسريع بضمها وحمايتها لتكون حائط الصد الأول ضد الهجمات الروسية المحتملة في اي لحظة، وهذا بالضبط ما تراه الحكومات الحالية لبريطانيا وفرنسا وألمانيا.

هل هذا يعني أن دور الولايات المتحدة قد يتهمش؟ ليس بالضرورة! أعتقد أننا أمام عدة سيناريوهات، أحدها أن يقوم الكونغرس الامريكي بالضغط بشكل أو بآخر على ترامب مع الدولة العميقة لإرسال ولو بعض الدعم للبقاء كلاعب في هذا الميدان! لكن الاحتمال الآخر أنّ محور ترامب – ماسك، الذي يعمل الآن على تغيير بنية النظام الامريكي بشكل كامل، قد يتجاهل كل هذه التحذيرات ويصطف، كما أنذر، بشكل كامل مع روسيا، بل وربما يهدد أوكرانيا بالعقوبات.

المآلات بالنسبة لأوكرانيا ليست جيدة على الإطلاق، لكن بارقة الأمل هي أن الشعب الأوكراني لطالما أثبت أنه مبدع مع الحلول البديلة، وكما استطاعت أوكرانيا طرد معظم الاسطول الروسي من البحر الأسود دون أن تمتلك باخرة عسكرية واحدة مقاتلة عن طريق حرب “الدرونات” المسيرة، فان المهندسين الأوكرانيين قد يجدون حلول بديلة لـ “ستار لينك” وغيرها من التقنيات، خاصة في ظل التعاون الأوروبي. لكن لن تكون هذه الرحلة سهلة، خاصة مع الإرهاق الكبير على الجبهة. لكن يبدو أن ترامب وضع الأوكرانيين امام خيارين لا ثالث لهما، على الأقل الآن، إما الاستسلام الكامل أو الصمود (!) حتى ظهور قوة في الولايات المتحدة قادرة على إقناع ترامب أن يُظهر بعض القوة والضغط على بوتين. وفي حال لم يتغير العرض الأمريكي اعتقد أن الأوكرانيين سيحاولون الصمود ما استطاعوا إليه سبيلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *