دول بلا وعي وطني.. أزمة التنوع… وتفكيك الهوية…!!

دول بلا وعي وطني.. أزمة التنوع... وتفكيك الهوية...!!

دول بلا وعي وطني.. أزمة التنوع… وتفكيك الهوية…!!

تقرير: عبد القادر جاز

تم النشر في مجلة مسارات – السودان – بتاريخ  5\9\2025

تعد قضية إدارة التنوع واحدة من الإشكالات الجوهرية التي ساهمت بقدر كبير في تعميق الأزمات السياسية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.

على الرغم من التنوع العرقي والثقافي والديني الغني الذي تتمتع به هذه المناطق، إلا أن غياب الوعي الكافي بأهمية هذا التنوع، وانعدام الاستراتيجيات الفاعلة لإدارته حوله من مصدر قوة، إلى عامل ضعف وانقسام.

لقد أدى هذا القصور إلى خلق معضلات بنيوية مزمنة لا زالت تلقي بظلالها الثقيلة على استقرار هذه الدول حتى اليوم.

السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا فشلت معظم دول الشرق الأوسط والقرن الإفريقي منذ لحظة الاستقلال وحتى اللحظة في بناء نموذج وطني جامع يحقق التوازن بين مكونات المجتمع المختلفة؟ وما هو الدور الذي لعبته سياسة “فرق تسد” التي ورثتها الأنظمة من الاستعمار، أو مارستها بوعي لاحقاً، في إرباك الوعي الجماعي، وخلق حالة من الانشغال الدائم بصراعات هامشية تعيق التقدم نحو بناء الدولة الوطنية الجامعة؟

ثمة تساؤلات ملحة لا يمكن تجاهلها في هذا السياق: إلى أي مدى ساهم تجاهل معالجة آثار الاستعمار في تصاعد النزاعات العرقية والطائفية؟ كيف أدى ذلك إلى ترسيخ انعدام الثقة في مؤسسات الدولة، وتنامي الولاءات والهويات الفرعية والانفصالية على حساب الهوية الوطنية الجامعة؟ هل بالإمكان اليوم تجاوز هذه الحالة في ظل استمرار البنى السياسية والاجتماعية الهشة، دون مراجعة شاملة لجذور الأزمة وأسس بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة؟

فشل بناء الدولة الوطنية:

يرى د. سعيد سلام، مدير مركز “فيجن” للدراسات الاستراتيجية – أوكرانيا، أن أحد أبرز أسباب الأزمات في هذه الدول يتمثل في عجزها عن بناء دولة مواطنة بعد الاستقلال. فالحدود المصطنعة رسمها الاستعمار بلا مراعاة للواقع الثقافي والاجتماعي، فتم تقسيم قبائل بين دول، ودمج جماعات متباينة في كيانات سياسية جديدة دون عقد اجتماعي.

ويشير إلى أن سياسة “فرق تسد” خلّفت تمييزًا ممنهجًا، وتحولت الولاءات لاحقًا إلى هويات فرعية أقوى من الوطنية. ومع غياب الحكم الرشيد، واحتكار السلطة والثروة، تعمّقت حالة الاغتراب السياسي والمجتمعي في كثير من البلدان.

إعادة تشكيل الدولة.. هل هو ممكن؟

يؤكد د. سلام أن تجاوز هذا الواقع ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة سياسية ورؤية جديدة تعترف بالتنوع وتحترمه ضمن إطار دستوري ومؤسساتي عادل. ويشير إلى ضرورة مراجعة شاملة لجذور الأزمة، وبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية، ومصالحة وطنية تعيد الثقة في الدولة. ويلعب الإعلام والتعليم دورًا حاسمًا في تعزيز ثقافة التعايش.

الخرائط الاستعمارية.. جذور الانقسام:

ترى الباحثة المصرية في الشؤون الإفريقية، شيماء حسن، أن مؤتمر برلين 1884م كان نقطة الانطلاق لتقسيم إفريقيا بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية، دون اعتبار للتنوع المحلي. وأنتجت تلك الخرائط أزمات مستمرة، مثل نزاع الفشقة بين السودان وإثيوبيا، وأوغادين بين الصومال وإثيوبيا.

وتؤكد أن التوزيع الإثني العشوائي تسبب في تفكك جماعات مثل الطوارق بين خمس دول، وأفرز هياكل حكم غير قادرة على استيعاب شعوبها. وتضيف أن حركات التحرر، رغم طرد الاستعمار، فشلت في إدارة ما بعد الاستقلال، وسادت أنظمة قمعية وتهميش ثقافي، فظهرت حركات انفصالية، وتكررت الانقلابات.

السودان.. نموذج لانهيار الهوية الوطنية:

أشارت شيماء إلى أن السودان يمثل مثالًا واضحًا لفشل بناء الدولة الجامعة، حيث أدّى احتكار السلطة من قبل نخب ضيقة إلى نشوء جماعات مسلحة، وانفصال الجنوب عام 2011م. وفي دارفور، أسهم دعم النظام السابق لميليشيا “الدعم السريع” بقيادة حميدتي في تفاقم النزاع، ما يهدد بتقسيم جديد للبلاد.

وتحذّر من أن السيناريو السوداني قابل للتكرار في دول أخرى ما لم تُبنى دول ترتكز على المواطنة، لا على منطق الغلبة.

إدارة التنوع.. فرصة ضائعة أم مشروع للإنقاذ؟

يرى الدكتور عبد العزيز يعقوب، أستاذ الاقتصاد بجامعة القضارف، أن إدارة التنوع ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء مجتمعات مستقرة. ويؤكد أن الفشل في ذلك هو أحد أبرز نتائج الإرث الاستعماري، خاصة بعد اتفاقيات حدود مثل اتفاقية 1902م بين السودان، إثيوبيا، وإيطاليا، والتي أدت إلى تفتيت قبائل بأكملها.

ويُقسّم يعقوب آثار هذه السياسات إلى:

اجتماعية: تمزق الهوية، هجرات، وتفكك الأسر.

اقتصادية: تهميش الحدود، تراجع التجارة، وصراعات على الموارد.

سياسية: نزاعات حدودية مستمرة، تدخلات أجنبية، وغياب الشرعية الوطنية.

ويأسف على أن منظمة الوحدة الإفريقية أقرّت هذه الحدود المصطنعة بدلاً من تصحيحها، ما أبقى جذور النزاعات قائمة.

الهوية.. بين الغياب والتشويه:

يشير يعقوب إلى أن التحرر الحقيقي يبدأ من استعادة الذات الإفريقية، بتطوير لغاتها وثقافاتها الأصلية. ويقول: “أفريقيا اليوم تتحدث بالإنجليزية والفرنسية والعربية، لكنها تفقد لغاتها الأصلية، وتكاد لا تحتفظ من هويتها سوى سواد البشرة”. ويدعو إلى تنمية المناطق الحدودية، وتحقيق التكامل الإقليمي عوضًا عن تركها ساحة مفتوحة للنزاعات.

وطن على مقاس ديكتاتور

هشاشة الدولة وتغوّل الفواعل غير الحكومية:

ترى الباحثة د. سميرة إبراهيم أن هشاشة الدولة هي السمة الأبرز في دول الساحل والقرن الإفريقي، حيث لا تسيطر الأنظمة على كامل أراضيها، وتتفشى أنشطة الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة. وتقول إن البنى السلطوية تستند إلى هياكل تقليدية تُفرغ الممارسة الديمقراطية من مضمونها، والانتخابات غالبًا مجرد شرعنة للحكم.

وتشير إلى أن الفساد السياسي وغياب العدالة في توزيع الموارد يزيد من تفاقم الأزمات، خاصة في مالي والنيجر، ضمن ما يُعرف بـ “قوس الأزمات”.

التنافس الدولي يعمّق هشاشة القرن الإفريقي:

تؤكد د.سميرة أن موقع القرن الإفريقي الجيوسياسي جعله هدفًا لصراع القوى الكبرى. ومع تعدد القواعد العسكرية والتدخلات، لم تجنِ الشعوب سوى مزيد من التوتر والانهيار المؤسسي، كما في الصومال. وتحذر من تحول النزاعات الحدودية إلى تهديدات دولية نتيجة التدويل، وغياب الدولة القوية القادرة على حماية المصالح الوطنية.

الإرث الاستعماري.. قيد قانوني وسياسي:

تشير د. سميرة إلى أن القوانين والمؤسسات التي ورثتها الدول الإفريقية عن الاستعمار تعيق التحول الديمقراطي، لكونها صُممت لترسيخ الهيمنة لا لتحقيق العدالة. ففي نيجيريا مثلًا، وُضع دستور يضمن الحقوق، لكنه أبقى قوانين استعمارية تُعمّق الانقسام.

وتنتقد ما أسمته بـ”النضال التحريري الثاني” في التسعينات، الذي لم يُحدث تحوّلات حقيقية في الديمقراطية. وبحسب تقارير “فريدوم هاوس”، لا تزال معظم دول إفريقيا تصنّف بأنها “غير حرة” أو “حرة جزئيًا”.

خلاصة: نحو دولة المواطنة

أجمع المتحدثون على أن أزمة الدولة في إفريقيا ليست مجرد فشل إداري، بل أزمة وعي وهوية ناتجة عن موروث استعماري، وسياسات محلية قاصرة. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار للتنوع، لا كعبء، بل كمصدر غنى، وبناء دول تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية، بعيدًا عن هيمنة المكونات أو الأيديولوجيات. عندها فقط يمكن أن تستعيد إفريقيا صوتها وقرارها، وتخرج من أسر التبعية والانقسام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *