فلسطين رأس الحربة في الدفاع عن الأمة: صمود أسطوري يواجه إبادة ممنهجة ومخططات تهجير خبيثة

فلسطين رأس الحربة في الدفاع عن الأمة:

صمود أسطوري يواجه إبادة ممنهجة ومخططات تهجير خبيثة

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

17\4\2025

إن اللحظة التاريخية التي تمر بها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لا سيما في قطاع غزة الصامد، تمثل بلا شك أخطر منعطف في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني الممتد لعقود طويلة ضد المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي. ما نشهده اليوم ليس مجرد فصل جديد من فصول العدوان العسكري، بل هو حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي شاملة وممنهجة، تُرتكب أبشع فصولها وجرائمها على مرأى ومسمع من العالم أجمع، تحت غطاء كثيف من الدعم الغربي اللامحدود، وفي ظل صمت دولي وعربي وإسلامي رسمي مريب ومخزٍ، لا يرقى إطلاقاً لمستوى الجريمة التاريخية المستمرة. إن هذا الصمت المطبق، وهذا التقاعس المخجل عن اتخاذ مواقف عملية وحاسمة لوقف شلال الدم المتدفق وممارسة التجويع والحصار كسلاح حرب، هو بمثابة الضوء الأخضر الذي يمنح الكيان الصهيوني المجرم الجرأة لمواصلة جرائمه وتنفيذ مخططاته التصفوية دون رادع.

إن الهدف الحقيقي والواضح، الذي لم يعد خافياً على أحد، لهذا الكيان الغاصب، المدعوم بشكل مطلق عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً من الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين، هو تطبيق مخططات ترحيل وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية. فالكيان الصهيوني، الذي يعيش أزمة وجودية عميقة ومتفاقمة، ويشعر بالخطر من مجرد صمود الفلسطيني على أرضه، يتصرف بمنطق استعماري عنصري يعتبر أن مجرد بقاءه وثباته في وطنه يشكل خطراً وجودياً مباشراً على كيانه المصطنع. وهذا المنطق هو ما يفسر بدقة الاستهداف الممنهج والمتعمد لتدمير كل مقومات الحياة في غزة: المستشفيات والمراكز الطبية والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمخابز والبنية التحتية، وصولاً إلى القتل الجماعي لعشرات الآلاف من الأطفال الأبرياء والنساء والشيوخ، وتحويل قطاع غزة المحاصر أصلاً، إلى مكان غير قابل للحياة بالمعنى الحرفي للكلمة. إنهم يريدون بكل وحشية وضع الشعب الفلسطيني أمام خيارين لا ثالث لهما، كلاهما مرعب: إما الموت البطيء تحت القصف والحصار والتجويع والأمراض، أو الرحيل القسري والهجرة عن الأرض التي ارتوت بدماء الأجداد والآباء. هذه الجرائم المستمرة، التي تتجاوز كل ما عرفته البشرية من فظائع، ستبقى وصمة عار أبدية تلطخ جبين الإنسانية جمعاء، وتفضح زيف ادعاءات ما يسمى بالمجتمع الدولي وقيمه المزدوجة.

ولكن، ورغم هول الجريمة وحجم التآمر، فإن الشعب الفلسطيني الأبيّ قد قال كلمته الحاسمة بوضوح مدوٍ سمعه القاصي والداني: سنبقى هنا، ثابتين في أرضنا، متجذرين في وطننا، مهما عظمت التضحيات وبلغت الآلام. إن الصمود الأسطوري الذي يسطره أهلنا في قطاع غزة، والذين يشكل اللاجئون المهجرون قسراً عام 1948 غالبيتهم العظمى، هو أبلغ رد عملي واستراتيجي على هذه المخططات الخبيثة. إنه تجسيد حي لإرادة الحياة والتشبث بالحق في وجه آلة الموت والدمار.

لهذا، نقولها عالية لقتلة الأطفال والنساء ومجرمي الحرب الصهاينة، ونقولها للإدارة الأمريكية المتواطئة حتى النخاع في هذه الجرائم: إذا كان لأحد أن يرحل عن هذه الأرض المقدسة، فهم المستوطنون الغزاة الذين جاؤوا من أصقاع الأرض ليمارسوا الإرهاب والعنصرية والتطهير العرقي. أما الفلسطينيون، أهل فلسطين الأصلاء، فلن يغادروا أرضهم إلا عائدين شامخين إلى بيوتهم وقراهم ومدنهم التي هُجّروا منها عنوة في أبشع جريمة عرفها العصر الحديث، جريمة النكبة المستمرة.

ولا يمكن فصل ما يجري في فلسطين عن السياق الإقليمي والدولي الأوسع. فالمخططات الأمريكية لا تقتصر على توفير الغطاء والدعم اللامحدود لكيان الاحتلال والإرهاب الصهيوني في عدوانه الوحشي، بل هي جزء لا يتجزأ من مشروع أوسع يستهدف إعادة ترتيب المنطقة بأسرها، وفرض الهيمنة الكاملة عليها، وتأمين مصالح واشنطن وحليفها الاستراتيجي، وإعادة رسم خرائط النفوذ بما يخدم هذا المشروع. وهذا ما يفسر بوضوح الاعتداءات المتكررة والمستمرة على سيادة الدول العربية مثل لبنان وسوريا واليمن والعراق، بهدف كسر إرادة المقاومة وعزل الشعب الفلسطيني وحرمانه من عمقه الاستراتيجي. هدفهم المشترك، الأمريكي والصهيوني، هو نزع سلاح المقاومة بكل أشكالها، ليس فقط في فلسطين بل في كل المنطقة، وإخضاع الشعب العربي للاستسلام الكامل لشروط كيان الاحتلال وإملاءاته.

إن المحاولات البائسة للرئيس الأمريكي وإدارته لطرح فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة كـ “حل إنساني” مزعوم، ليست فقط جريمة حرب مكتملة الأركان وانتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، بل هي أيضاً محاولة يائسة ومفضوحة لحرف الأنظار العالمية عن الفشل العسكري والسياسي والأخلاقي الذريع الذي مُني به الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه المعلنة في غزة، وعن حالة الذعر والخسائر الفادحة التي تكبدها جيشه ومستوطنوه بفعل الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة، وعلى رأسها ملحمة “طوفان الأقصى” التي هزت أركان هذا الكيان. إنها أيضاً محاولة خسيسة لطمأنة مستوطني الكيان المذعورين الذين يفكرون بالهجرة المعاكسة، بأن أرض فلسطين ستُفرغ لهم في نهاية المطاف. لكن الشعب الفلسطيني يؤكد لهم ولكل العالم، بإرادته التي لا تلين وصموده الذي لا ينكسر، انه سيرمي هذه الألاعيب والمخططات الاستعمارية إلى مزبلة التاريخ التي تستحقها.

وفي خضم هذه المعركة المصيرية، أبدت المقاومة الفلسطينية الباسلة، بكافة فصائلها، مسؤولية عالية ومرونة لافتة في سعيها لوقف نزيف الدم والمجازر المروعة، والتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار يضمن انسحاب قوات الاحتلال ويسمح بإغاثة الشعب وإعادة إعمار ما دمره العدوان، بما في ذلك عبر صفقات تبادل مشرفة للأسرى. لكن مجرم الحرب بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة والفاشية، يواصلون سياسة المراوغة والخداع والمماطلة والتراجع المتعمد عن أي تفاهمات أو اتفاقات، لأن هدفهم الحقيقي ليس تحقيق الأمن المزعوم، بل استمرار الحرب أطول فترة ممكنة لتحقيق أهدافهم السياسية والشخصية، واستعادة أسراهم إن أمكن، ومن ثم مواصلة حرب الإبادة الشاملة بهدف تحقيق مخطط التهجير النهائي. وهنا، تجدد المقاومة التأكيد القاطع على تمسكها بثوابتها الوطنية الراسخة: لن يتم إطلاق سراح أي أسير صهيوني ما لم يتم تنفيذ كل مراحل أي اتفاق محتمل بشكل كامل وغير منقوص، وفي مقدمة ذلك الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار، والانسحاب الشامل لقوات الاحتلال من كامل قطاع غزة، وضمان حرية الحركة وعودة النازحين وإدخال المساعدات دون قيود، والبدء الفوري بإعادة الإعمار.

حول حرب الابادة في غزة-الاهداف و المآلات

لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية، ليس فقط بصمودها الميداني، بل أيضاً بالمشهد الحضاري والأخلاقي الرفيع الذي قدمته للعالم في عمليات تسليم الأسرى، أنها تقاتل من موقع القوة والمبدأ والالتزام الأخلاقي، وأن العدو الذي تبجح بقدرته على تحقيق النصر المطلق والقضاء على المقاومة واستعادة أسراه بالقوة، قد مُني بفشل استراتيجي ذريع على كافة المستويات، وبات يتخبط في أزماته الداخلية والخارجية.

إن هذا العدو الصهيوني، بطبيعته العدوانية والتوسعية، لا يفهم إلا لغة القوة والمواجهة والمقاومة الشاملة. وإن أي حديث عن تسليم سلاح المقاومة هو وهم وخدمة مجانية للاحتلال، ويعني ببساطة تمكين كيان الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي من استكمال حرب الإبادة وتنفيذ مخططات التهجير دون مقاومة. وهذا ما تؤكده تجارب كل الشعوب الحرة التي ناضلت وتناضل من أجل حريتها وكرامتها واستقلالها الوطني. المقاومة هي السبيل الوحيد للدفاع عن وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه وأرضه.

لذا، فإن المسؤولية التاريخية اليوم تقع على عاتق الأمة العربية والإسلامية جمعاء، وعلى أحرار العالم وقواه التقدمية والمحبة للعدل والسلام. لم يعد مقبولاً ولا كافياً مجرد الإدانة والاستنكار. بات مطلوباً وبشكل عاجل إعلان النفير العام، والتحرك الجاد والمنظم والنوعي على كافة المستويات: الشعبية والرسمية، السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية. يجب تكثيف الخروج إلى الشوارع والميادين، وممارسة كل أشكال الضغط لكسر جدار الصمت والتواطؤ، وفرض وقف فوري للعدوان، ومحاسبة مجرمي الحرب الصهاينة وداعميهم. يجب على الجميع، في عالمنا العربي والإسلامي وفي كل مكان، أن يدركوا يقيناً أن الشعب الفلسطيني، الذي يقف اليوم في خط الدفاع الأول، بصموده الأسطوري وبلحمه الحي ودماء أطفاله ونسائه، إنما يدافع عن كرامة الأمة العربية والإسلامية بأسرها، وعن أمنها ومستقبلها، لأن مخططات العدو الصهيوني وأطماعه التوسعية لا تقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل تستهدف المنطقة بأكملها وخيراتها ومقدراتها.

وفي الختام، يؤكد الشعب الفلسطيني العظيم، شعب الشهداء والجرحى والأسرى، شعب التضحيات الجسام، للأصدقاء والأعداء، انه لن يركع ولن يستسلم أبداً. سيواصل صموده الأسطوري على أرضه، وسيمضي قدماً في مقاومته الباسلة بكافة أشكالها، حتى انتزاع كامل حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير، والتحرير الكامل لأرضه من النهر إلى البحر، وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الأبدية. وإن مخططات العدو الصهيوني ومشاريعه الاستعمارية، مهما بلغت درجة وحشيتها وهمجيتها، ومهما حظيت بدعم من قوى الشر والعدوان في العالم وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، فإن مصيرها المحتوم هو الفشل الذريع والهزيمة النكراء أمام صخرة الصمود الفلسطيني وإرادته التي لا تقهر، والتي تستمد قوتها من عدالة قضيته ومن إيمانه الراسخ بحتمية النصر والتحرير.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *