في ذكرى الرحيل … أبو علي مصطفى باقٍ فينا وبيننا أبداً
أبو علي حسن
30/8/2023
عندما نتحدث عن الشهيد أبو علي مصطفى، فنحن نتحدث عن فلسطين، عن الثورة، عن المقاومة … عن فارس امتطى جواده منذ كان طفلا … يبحث عن وطن أضاعه التقصير العربي وسلبته العصابات الصهيونية … أدرك مبكراً معنى الوطن … ومعنى الحرية … فأقسم ألا يترك معترك النضال كي يستعيد وطناً كان يطرب لأغانيه ومواويله فتحول إلى فكرة تملك روحاً، تتسلل بين رفاقه وتجمعات شعبه … فكرة مطلقة في غايتها، فكرة وجودية، هوياتية، تحررية، فكرة إنسانيه تبحث عن الحرية والانعتاق، وتجسد الحياة لا الموت.
كان فكرة، لا يحمل الفكرة، فقد كان فكرةٍ بكليتهِ، وبتكوينه، وكفاحيته وممارساته، وانتسابه إلى طبقه الفلاحين والفقراء … كان فكرة بنزاهته وكبريائه، وشممه وتواضعه ونمط حياته البسيطة، بجديته، كان مفارقاً لتلك النرجسية التي أصابت بعضاً من قيادات الصدفة … فابتعد عن زوم الكاميرا وحب الظهور والإعلام.
أبو علي مصطفى كان … لكنه اليوم حيُ فينا و بين رفاقه وبين أصدقائه وشعبه والقوى الوطنية التي عاصرته.
ها هو فارس بين كتائب أبو علي مصطفى، يتحرك بين مقاتليه، وصوته يجلجل في وديان وهضاب وتضاريس فلسطين، وها هو صوته يدفع الاحتلال إلى رفع جهوزيته الأمنية. فذكرى هدر دمه يوم قلقٍ واستنفارٍ للاحتلال…
أبو علي مصطفى لم يزل يجالس رفاقه في اجتماعاتهم، ويدعوهم الى وحدة الحزب وتصليب بنيته التنظيمية والكفاحية. ويقول لهم كل سياسي مقاتل، وكل مقاتل سياسي. ويدعوهم إلى التمسك بالبدايات. بدايات كفاحنا الضاري ضد الكيان. لم يزل يتحدث مع رفاقه بأن قدرنا أننا قد خلقنا لنقاوم لا لنساوم، وأن المقاومة وحدها من يحقق المستحيل. وحدها القادرة على تحقيق الخلاص الناجز من براثن الاحتلال وطرده من الجغرافيا الفلسطينية. ويحذر بأن التسوية معه ليست إلا اعترافاً بشرعية الغزو واللصوصية لأرض توارثها الأجداد منذ آلاف السنين.
ويعلو صوته بين رفاقه لا تصالح …!! ولو منحوك الذهب، لا تصالح على دمي … هل يصير دمي بين عينيك ماء … أتنسى يا رفيقي ردائي الملطخ بالدماء فلا تصالح على الدم … بدم. ولا تصالح ولو قيل رأس برأس، أكل الرؤوس سواء … أقلب رحبعام زئيفي… كقلبي المثقل بهموم شعبنا وأرضنا…؟
أيها الرفاق لن أودعكم فروحي لا تغادركم، وأنا ما زلت أحفظ الميثاق الوطني مادةً … مادةً … وسأبقى أحمل بندقيتي بيد وميثاقي بيد … والميثاق لم يزل حياً فينا ولم يتحول إلى (كادوك) إلا لفظاً لإرضاء أنبياء التسوية.
إن كل عبث في مواد الميثاق هو بداية جديدة لصناعة النكبة الجديدة على أيدينا.
ويستطرد أبو علي مصطفى في حديثه بين جموع رفاقه، أن فلسطين ليس خيارا، إنما هي انتماء وهوية وحياة … فهي خلودنا إلى الأبد.
أنا ابن عرابة، ابن جنين، عبقرية الزمان والمكان … أنا ابن المسيرة الطويلة في الكفاح المضني. يوم أن كانت فلسطين في تكويني النفسي والمعنوي ووعيي الجنيني، يوم أن كانت مشاعري تهتز لغنوة “من سجن عكا طلعت جنازة”.
أنا الشاب الذي توحدت روحه، وروح فلسطين، فلا ماتت روحي، ولا ماتت روح فلسطين، روحي هي روح عكا وحيفا ويافا واللد والرملة والجليل وقدس الأقداس، فهل لروحي أن تموت …؟!
أيها الرفاق … تعالوا نخرج من أزمة الانقسام، كي نشدد النضال ونوحّد المقاومة … تعالوا نحدد التخوم والمسافات بين الرؤى والمواقف والممارسات، تعالوا ندك الأوتاد على المساحات السياسية المتفق عليها، كي نسيجها ونحميها من تطفل التكتيك المساوم … إن هذه المساحة السياسية، هي المساحة الأكبر في الوعي الفلسطيني، وهي مساحة المقاومة … وهي ذات المساحة التي سيَّجها شهداء فلسطين الأوائل بدمائهم من عز الدين القسام إلى عبد القادر الحسيني إلى شاعرنا الكبير عبد الرحيم محمود …
تلك هي المساحة التي توحدنا، وتلك هي عقدة الخلاف بين نهجين لا يلتقيان … فلا تنسوا أيها الرفاق والأصدقاء تلك الأوتاد التي زرعناها حول هذه المساحة من الوعي الفلسطيني. وتلك المساحة هي الوفاء “للعهد والقسم” الذي لم نزل نردده، وردده شهداؤنا العظام.
أتدرون يا رفاق ماذا تعني فلسطين لكم … إنها وجودكم، وهويتكم الوطنية، إنها خلودكم الأبدي، فلا الشتات وطن، ولا المخيمات خلود، فما صنعه بنا الشتات وعرب التطبيع والهزائم، لا أقل مما صنعه بنا الكيان الغاصب حين قذفنا إلى الشتات. فهناك من يتربص بهويتنا، وهناك من يعمل على قتل الهوية، وهناك من يريد أن يمحو في الشتات حتى رموز الهوية والعودة، كي يقطع علينا طريق العودة والكفاح.
من تجربتي أيها الرفاق … إن المقاومة هي التي تمدنا وتعمق هويتنا وتواصلها وطنياً وعربياً وعالمياً … خصائصنا، واستثنائيتنا وفرادتنا هي عنوان آخر لهويتنا فلا تستسلموا إلى أوهام اللحظة التي تعيشونها، ولا تجعلوا من لقاح التسوية والترويض سلعةً يتناولها المنهزمون.
لا تجعلوا ذرة شك تتسلل إلى نفوسكم بأن النصر بعيد، أو أن الكيان باقٍ.
تأملوا تلك المسيرة من الشتات.
هل أعلن الشعب الفلسطيني استقالته من المقاومة؟
هل أعلن يوماً أنه قد هزم؟ …
وبالمقابل هل أعلن الكيان الصهيوني أنه استكمل مشروعه التوسعي، أم ضاقت عليه الحدود؟ … هل الكيان هو اليوم أكثر أمناً من أمنه أعوام انتصاراته 48، 67، 82؟ فلا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه …
نعم نحن الأقلية، لكننا نحن الأقدر، ونحن الممسكون بالحق المجدول بكتل النار، ومن هنا جاءت استثنائيتنا وفرادتنا وتحملنا ما لا يتحمله شعبَ على الكرة الأرضية.
والآن أودعكم لأطوّف بروحي فوق هضاب فلسطيننا الحبيبة.
هكذا ناجت روح أبو علي مصطفى حضورنا اليوم.
دمتم.. ودام الوطن.. ورحم الله الشهداء.. وفك أسر أسرانا الطويل.