د. سعيد سلّام
2/7/2022
أصبحت جزيرة الثعبان الصغيرة رمزا جديدا لخسارة روسيا في أوكرانيا.
أولاً، أرسل حرس الحدود الأوكرانيون في الجزيرة السفينة “الرائدة” لأسطول البحر الأسود التابع لروسيا، “الطراد موسكو”، في اتجاه معين، ثم غرقت بعد ذلك بالصواريخ الأوكرانية.
اليوم، بعد أن دمرت القوات الأوكرانية الآليات العسكرية الروسية على الجزيرة، انسحبت القوات الروسية، التي نجت إثر الهجمات الأوكرانية، من الجزيرة تمامًا.
قبل أسبوع واحد فقط، تفاخر الكرملين بأنه صد محاولات أوكرانيا لاستعادة السيطرة على الجزيرة. الآن يُعد الانسحاب الروسي حالة أخرى من تضاؤل الطموحات العسكرية لموسكو تحت ضغط المقاومة الأوكرانية.
وصفت وزارة الدفاع الروسية هذا الانسحاب، كما الانسحاب من محيط كييف وشمال أوكرانيا تحت ضربات الجيش الأوكراني، بأنه “بادرة حسن نية”، مما يثبت مرة أخرى عدم قدرة القيادة الروسية على الاعتراف بالهزيمة!
بالنسبة لصخرة تبلغ مساحتها 17 هكتارا، وأقصى طول 662 مترا، لعبت جزيرة الثعبان دوراً كبيراً بشكل مدهش في الحرب الروسية الأوكرانية.
تقع جزيرة الأفعى على بعد 45 كم فقط من رومانيا، وهي دولة عضو في الناتو. موقعها المطل على دلتا الدانوب وطرق الشحن إلى أوديسا وموانئ البحر الأسود الأخرى يجعلها ذات أهمية استراتيجية. يمكن أن تكون أيضًا بمثابة نقطة انطلاق لهجوم برمائي على أوديسا، التي تقع على بعد حوالي 140 كم. أنشأت روسيا بالفعل مركزًا استخباراتيًا مع مجموعة من الكوماندوز البحريين من الفرقة 388، المهمة الرئيسية للوحدة هي جمع معلومات استخبارية والقيام بأعمال تخريبية، مع عدم إلغاء خطط الانزال البحري.
حول أهمية الجزيرة هناك عدد من النقاط المهمة:
1. تقع جزيرة الأفعى على طرق المواصلات التي تمتد من أوديسا إلى الموانئ البلغارية – وإلى مضيق البوسفور، وإلى البحر الأبيض المتوسط. أي أن الشخص الذي يتحكم فعلياً في الجزيرة يمكنه إلى حد كبير أيضًا التحكم في الخروج من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود.
2. تقع الجزيرة عند مخرج دلتا الدانوب. وهذه هي البوابة الفعلية إلى أوروبا، والتي يتم من خلالها نقل البضائع الضخمة من ألمانيا إلى رومانيا وأوكرانيا. وأي شخص يتحكم فعليًا في دلتا الدانوب يمكنه التأثير على الحركة والشحن في هذه المنطقة. مما يزيد أيضا من قيمة الجزيرة.
3. ليس بعيداً عن الجزيرة – دولة رومانيا. دولة عضو في الناتو حيث توجد وحدات عسكرية أمريكية. والروس، كونهم في الجزيرة، أتيحت لهم الفرصة لمسح وإجراء استخبارات إلكترونية وراديوية، وبالتالي الحصول على مصدر إضافي للمعلومات المتعلقة بكتلة الناتو.
4. أرادت روسيا، بعد خسارة الطراد “موسكفا”، تعزيز قوات الدفاع الجوي. وجزيرة زمييني – الثعبان، تحت سيطرة الجيش الروسي، كانت هذه النقطة الثابتة للحفاظ على الدفاع الجوي الروسي في هذه المنطقة. وقد أعطى ذلك الاتحاد الروسي فرصة افتراضية لإجراء عمليات إنزال ضد الموانئ الأوكرانية.
كانت الجزيرة هدفاً منذ اليوم الأول للحرب الروسية على أوكرانيا مع وصول الطراد الروسي في البحر الأسود “موسكفا” إلى شواطئها لمطالبة حرس الحدود الأوكرانيين بتسليم موقعهم الحراسي الصغير. وأصبح فقدان السيطرة على الجزيرة في بداية الحرب مشكلة كبيرة لأوكرانيا، حيث:
أولاً، هيأت الظروف لانزال القوات الروسية في منطقة أوديسا وما تلاها من احتلال للمنطقة.
ثانياً، سمحت لروسيا بالسيطرة على جزء من المجال الجوي للساحل الأوكراني.
ثالثاً، أغلقت طريق التجارة البحرية لتصدير الحبوب ومنتجات أخرى.
أدى إغراق “موسكفا” في أبريل من قبل القوات الأوكرانية بعد استهدافها بصاروخين مضادين للبحرية من نوع “نيبتون” الأوكرانية، الى اكتساب “الصخرة” قيمة دفاعية جديدة للسفن الروسية في البحر الأسود. لذا تم تحصين الجزيرة بأنظمة جديدة مضادة للطائرات وصواريخ ورادار.
انسحبت القوات الروسية من جزيرة زمييني – الثعبان في البحر الأسود بعد سلسلة هجمات شنها الجيش الأوكراني. هذا إخفاق كبير للقوات الروسية، يمكن أن يقوض سيطرتها على الممرات الملاحية الرئيسية في مياه البحر الاسود.
يبدو أن عملية تحرير الجزيرة تمت على عدة مراحل، حيث قامت القوات الأوكرانية باستهدافها عندما كانت تتاح لها الفرصة باستخدام كل ما هو متاح: طائرات مقاتلة وطائرات بدون طيار من طراز بيرقدار وصواريخ مضادة للسفن. حينها اعتقد البعض ان استهداف القوات الأوكرانية للجزيرة ليس أكثر من “انتقام” طال انتظاره، ولكن في الواقع كانت القوات المسلحة لأوكرانيا منخرطة في نزع السلاح من الجزيرة.
شنت أوكرانيا عدة غارات جريئة على الجزيرة. وقع الحادث الأكثر جرأة في مايو، عندما استخدم الأوكرانيون مزيجاً من طائرات بيرقدار المقاتلة والطائرات بدون طيار لتدمير السفن الهجومية البرمائية وطائرة هليكوبتر اثناء انزالها عناصر من مشاة البحرية الروسية.
ثم كانت هناك فترة توقف طويلة، حتى 17 يونيو، عندما وردت تقارير عن إغراق لسفينة الإمداد الروسية وقاطرة الإنقاذ “فاسيلي بيخ”، بصاروخين من نوع “غاربون” امريكيين مضادين للسفن، وكانت السفينة مزودة بنظام الدفاع الجوي من طراز “Tor” الذي لم يستطع أو لم يتم تحضيره للدفاع ضد الهجوم. وبحسب تقارير غير مؤكدة، كان على متن القاطرة 33 شخصًا.
كانت السفن الروسية تزود الجزيرة مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، في الليل، حيث تتم الرحلات عادة يومي الأربعاء والخميس، اعتمادًا على السفينة اللازمة لحمل المعدات.
خلال الأيام الماضية شنت القوات الأوكرانية هجومًا جديدًا لاستعادة السيطرة على الجزيرة.
استهدف هجوم الصباح الباكر في 20 يونيو/حزيران القوات الروسية في الجزيرة ومنصات استخراج الغاز القريبة، التي يطلق عليها في أوكرانيا منصات “بويكو Boyko”، والتي تقع على بعد 50 كيلومترًا من جزيرة زمييني – الثعبان التي استولت روسيا عليها في عام 2014 بعد ضمها لشبه جزيرة القرم. وقد ذكرنا في تقريرنا حينها ان “عملية عسكرية جارية” في الجزيرة وان هناك تعليمات بالتعتيم على المعلومات و”الصمت الإعلامي” لحين استكمال العملية، وفي الأيام التي تلت ذلك، صعدت القوات الأوكرانية من هجماتها وضربت الجزيرة بمدفعية جديدة بعيدة المدى.
في الواقع، جزيرة الثعبان ومنصات “بويكو” أنشأوا بنية تحتية مثالية لحصار الموانئ الأوكرانية، حيث تعمل خطوط الشحن التجارية الرئيسية بين الجزيرة ومنصات الغاز، والتي استخدمتها القوات الروسية كرادار ومحطة مراقبة وتجسس بحري وأنظمة استطلاع وحرب إلكترونية أثرت بعد بدء الحرب على الطائرات بدون طيار والصواريخ الأوكرانية.
أظهرت صورة الأقمار الصناعية في 14 يونيو أنظمة خنادق جديدة، وتحصينات، وشبكة تمويه، ومستودع وقود، ومعدات عسكرية، ورادار، وعشرات أنظمة دفاع جوي قصيرة المدى.
نُفِّذت الضربات على جزيرة الثعبان بالأسلحة الغربية نفسها التي يتم “طحنها مثل الجوز” حسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بالإضافة إلى ذلك، اجتازت مدافع الهاوتزر ذاتية الدفع “بوجدانا”، وهي أول مدافع هاوتزر ذاتية الدفع من عيار مدفعية الناتو 155 يتم إنتاجها في أوكرانيا، الاختبار القتالي، وتُظهر اللقطات اللاحقة للجزيرة أضرارًا كبيرة في ثلاثة أماكن على الأقل. حيث استطاعت القوات الأوكرانية تدمير أنظمة الصواريخ والمدافع Pantsir-S1 ومحطة رادار ومستودعات ذخيرة وسفن.
مثل مسارح الحرب الأخرى، انحصرت المعركة على الجزيرة في السيطرة على الخدمات اللوجستية: أي جانب يمكنه نقل المعدات المناسبة إلى المكان الصحيح أولاً. كانت روسيا في وضع أقوى في معظم مراحل الحرب. لكن أوكرانيا بدأت في تلقي بعض أنظمة المدفعية الغربية المتطورة والصواريخ بعيدة المدى. هذه المدفعية متحركة ودقيقة ولديها نطاق كافٍ لضرب الجزيرة من البر الرئيسي، مما سمح للقوات الأوكرانية بالهجوم دون المخاطرة بالمقاتلين في عمليات إنزال خطيرة. ووقع الهجوم الأول باستخدام هذه الأسلحة ليلة 26 حزيران / يونيو. حيث تم تدمير نظام دفاع جوي روسي.
لم تكن القوات الأوكرانية في عجلة من أمرها في إعادة جنودها إلى الجزيرة، حيث أن التفوق الروسي الجوي والسفن الموجودة في البحر الأسود يسهل عليهم استهداف القوات الأوكرانية على الجزيرة أكثر من استهداف القوات الأوكرانية لهم، لذا عملت القوات الأوكرانية ببساطة على جعل الاستفادة من الجزيرة مستحيلا على القوات الروسية، وانه يجب اغراق السفن الروسية عندما تسنح لهم الفرصة.
الان يتراجع أسطول البحر الأسود الروسي الى أراضي شبه جزيرة القرم، الاقتراب من المياه الإقليمية الأوكرانية يعني حدوث خسائر جديدة لسفنه.
قالت الإدارة العسكرية الروسية أن قواتها أكملت جميع المهام في الجزيرة، دون تحديدها، وحاولت وزارة الدفاع الروسية، في بيان لها، وصف الانسحاب من الجزيرة بأنه “بادرة حسن نية” كي “لا تسمح لكييف بالتلاعب بأزمة الغذاء”، لأن السيطرة على زمييني – الثعبان مهمة للغاية لحماية الممرات البحرية في شمال غرب البحر الأسود. في الوقت نفسه، تؤكد روسيا أن الحصار البحري لا يزال قائماً، وأن ترسيخ الهيمنة في مجال المياه قد اكتمل تقريباً. لا يوجد ما يشير إلى أن موسكو ستسمح للسفن بالدخول والخروج من ميناء أوديسا بحرية.
هذا الإعلان والتبرير يشير بكل وضوح انه لا يمكن للقيادة الروسية قبول الهزيمة بكرامة للمرة الثانية – تحاول وزارة الدفاع الحفاظ على صورة القوة التي “لا تقهر”.
في أوائل أبريل، عندما كانت القوات الروسية تنسحب من مناطق كييف، تشيرنيغوف وسومي، وصف الكرملين أيضًا الانسحاب بأنه “بادرة حسن نية”. القرار، كما قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف آنذاك، اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا من أجل تهيئة الظروف للمفاوضات. في حالة زمييني – الثعبان، اعتبر الكرملين أنه من الضروري التزام الصمت، وألقى المهمة على عاتق الجيش، في محاولة لحماية نفسه من السلبيات المتتالية لمسيرة الحرب.
جزيرة زمييني – الثعبان تحت سيطرة القوات المسلحة الأوكرانية، لكن الحصار المفروض على موانئ أوكرانيا لم يتم رفعه، فضلاً عن التهديد بشن ضربات صاروخية على المدن. لا تزال سفن أسطول البحر الأسود الروسي التي تحمل صواريخ كاليبر على متنها متمركزة في البحر الأسود، لكنها لم تعد تقترب من الساحل. لا تزال الصواريخ الأوكرانية “نبتون” و “غاربون” الامريكية قادرة على استهداف القوات البحرية الروسية. لا تزال جزيرة زمييني – الثعبان منطقة ضعيفة للغاية. بالنظر إلى ذلك، من غير المتوقع ان ترسل أوكرانيا حامية خاصة بها اليها.
بالنسبة للروس، هذه هزيمة ملحمية.
النقطة المهمة هي أن الجزيرة صخرة يستحيل الاختباء فيها. هنا تلقت روسيا ضربة أخرى، مما يدل على مدى تخلفها في جوهرها، على الرغم من الكم الهائل من الأسلحة والمعدات العسكرية والأفراد.
لكل هذا، لم تتمكن روسيا من تنظيم دفاع مضاد للصواريخ عالي الجودة. ليس لديها القوات والوسائل المناسبة للمساعدة في حماية مواقعها على هذه القطعة المهمة من الناحية الاستراتيجية في البحر الأسود. على الرغم من المحاولات الهائلة التي قامت بها لتركيز مواردها، والاستمرار بمساعدة الحامية في الجزيرة – لم تستطع تحقيق شيء منها. فقد دمرت ضربات القوات الأوكرانية بشكل دوري الحامية الروسية ومعداتهم. وأظهرت القوات الروسية أنها لا تستطيع تنفيذ مثل هذه العمليات. وبالنسبة لها فإن خسارة جزيرة زمييني – الثعبان تعادل نفس الخسارة الجسيمة بتدمير طراد موسكفا من قبل القوات المسلحة الأوكرانية.
الأسطول الروسي الآن لا يمكنه العمل في غرب البحر الأسود. إنه مجبر على الاختباء على مسافة بعيدة عن مدى استخدام الأنظمة الأوكرانية المضادة للسفن.
باختصار، فشل أحد الاتجاهات الاستراتيجية لروسيا (البحر)، والذي يتيح إجراء عمليات إنزال ضد أوديسا وكامل ساحل أوكرانيا على البحر الأسود. وسيتم تدمير أي مجموعة من السفن التي تقترب بدرجة كافية من خلال الصواريخ المضادة للسفن. جنبًا إلى جنب مع استخدام مثل هذه التقنيات المتقدمة إلى حد ما مثل الطائرات بدون طيار “بيرقدار” وغيرها من المركبات الجوية غير المأهولة، أثبت الجيش الاوكراني أنه يمكنه تقديم رد غير متماثل على القوات الروسية. على الرغم من الميزة الهائلة لروسيا في المراكب والطيران والصواريخ، فإنه غير قادر الآن على أداء المهام الاستراتيجية لما يسمى بـ “العملية العسكرية الخاصة”. بالنسبة للروس، هذه هزيمة ملحمية، غطوا عليها ببيانات عن “بادرة حسن نية”.
في الوقت نفسه، يجب الفهم أن أوكرانيا، التي ليس لديها زوارق مائية، باستخدام تفاصيل أخرى، لا تحتاج إلى وجود مادي على الجزيرة.
بعض الوسائل التقنية قد تكون موجودة هناك من شأنها تحسين الملاحة في هذه المنطقة”، أو القيام بأنشطة في الجزيرة لا ترتبط بالوجود المستمر للناس هناك. وهذا الأخير لا طائل من ورائه، لأن الحرب مستمرة – وسيكون الجنود على الجزيرة في خطر دائم.