موسكو منفى الحلفاء السابقين… آخرهم بشار الاسد
لجوء الأسد إلى روسيا يضع الكرملين أمام خيارات صعبة
سامر الياس – باحث في الشؤون الروسية والأوكرانية
4\3\2025
في سابقة هي الأولى من نوعها منذ صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم قبل ربع قرن، منح الكرملين اللجوء للرئيس السوري السابق بشار الأسد كأول رئيس من خارج بلدان الاتحاد السوفياتي السابق يحظى بهذه الصفة. وفي حين قبلت روسيا لجوء عدد من قادة بلدان آسيا الوسطى وجنوب القوقاز بعد إطاحتهم، من دون أي تأثير عملي على مصالحها في تلك الدول، وصفت الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في فبراير/شباط 2014 بالانقلاب على الشرعية، وانتهزت الفرصة للاستيلاء على شبه جزيرة القرم نتيجة عملية خاطفة فاجأت العالم، وبعدها دعمت روسيا حركات انفصالية في المناطق الشرقية ذات الغالبية للناطقين باللغة الروسية في جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبييتين، عسكريا وسياسيا واقتصاديا.

وعلى عكس النموذجين السابقين فإن قبول لجوء الأسد في موسكو طوى صفحة مشاركة روسيا في الحرب لدعم النظام السوري البائد، ووضعها أمام خيارات صعبة لضمان المحافظة على مصالحها في الشرق الأوسط وأفريقيا، وعدم الإضرار بسمعتها العالمية كحليف موثوق.
ملتقى الخصوم
وقدمت روسيا بعد السوفياتية اللجوء لعدد من الرؤساء والساسة من مختلف بلدان العالم، وبعضهم عاد إلى بلاده ليستلم مقاليد الحكم وقضى بعضهم ويواصل بعضهم الحياة في موسكو.
استخدمت روسيا عددا من السياسيين الجورجيين من أجل دعم سياساتها في البلد المهم في جنوب القوقاز
وقدم الكرملين اللجوء في عام 2005 لرئيس قرغيزستان الأول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عسكر أكاييف الذي تمكن من مغادرة قرغيزستان بعد مواجهات بين الشرطة والمحتجين فيما عرف لاحقا بـ”ثورة التوليب” في 24 مارس/آذار 2005، واستقر في موسكو، ولم تسلم السلطات الروسية أكاييف أو أيا من أفراد أسرته رغم اتهامات بسرقة ملايين الدولارات وأكثر من 1.5 طن من الذهب. ولم يمارس أكاييف العمل السياسي وانتقل إلى العمل الأكاديمي في مجال الرياضيات التطبيقة، وهو الآن عضو في الأكاديمية الروسية للعلوم، وأصدر أكثر من 150 عملا علميا، من ضمنها 15 كتابا ومقررات دراسية.
وفي ربيع عام 2010 انضم كورمان بيك باكييف الذي شغل منصب رئيس قرغيزستان بعد أكاييف ما بين 2005 و2010 إلى قائمة اللاجئين إلى موسكو نتيجة ثورة شعبية بعد عام من إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية، ولكن باكييف قرر الانتقال لاحقا إلى بيلاروسيا حيث حصل على الجنسية البيلاروسية.
ورفض الرئيس الجورجي الراحل إداورد شيفارنادزه عرضا للجوء في روسيا عقب “ثورة الورود” في نهاية 2003. ورغم العلاقات التي لا يمكن وصفها بالقوية مع شيفارنادزه، آخر وزير للخارجية السوفياتية مع موسكو، فقد سارع بوتين إلى إرسال وزير خارجيته حينها إيغور إيفانوف للوساطة بين المعارضة وشيفارنادزه الذي استقال وفضل البقاء في تبليسي حتى وفاته في 2014، رغم أنه انتقل بعد أحداث 1993 في جورجيا وتبوأ بعدها الرئاسة.
واستخدمت روسيا عددا من السياسيين الجورجيين من أجل دعم سياساتها في البلد المهم في جنوب القوقاز. ومن أهم اللاجئين السياسيين الجورجيين لديها حتى اليوم إيغور غيورغادزه رجل الاستخبارات الذي تخرج في المدرسة العليا للاستخبارات السوفياتية (كي جي بي). وفي 1992–1993، دعم غيورغادزه إدوارد شيفاردنادزه في مواجهته مع الرئيس زفياد غامساخوردي، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1993 عُين وزيرا للأمن القومي في جورجيا.
لكن بعد محاولة اغتيال شيفاردنادزه في أغسطس/آب 1995، أقيل جيورغادزه وتعرض للملاحقة الدولية بتهم سياسية. غادر غيورغادزه جورجيا ورفض الحصول على الجنسية في عدة دول أثناء فترة نفيه السياسي. وعاش في شقة آمنة تابعة لجهاز الاستخبارات الروسية في بيروت قبل أن ينتقل إلى روسيا. وفي موسكو، واصل غيورغادزه نشاطه السياسي. وفي عام 2001، أسس التحالف الوطني الجورجي “الوطن”، وفي 2003 أصبح زعيما لحزب العدالة. ونشط غيورغادزه ضد رئيس جورجيا ميخائيل ساكاشفيلي الرئيس الذي أبعد بلاده عن روسيا واقترب من الغرب. ويواصل غيوغادزه العيش في روسيا.
منحت روسيا اللجوء وحرية العمل في فترات معينة لسياسيين من أذربيجان وأرمينيا، ووظفتهم في فترات تاريخية بما يخدم سياساتها نحو هاتين الدولتين
كما منحت موسكو اللجوء السياسي وحرية العمل لعدد من قيادات الجمهوريات الانفصالية مثل أبخازيا عن جورجيا، وترانسنستيريا عن مولدوفا.
وقدمت موسكو ملجأ آمنا للرئيس الطاجيكي الحالي، إمام علي رحمون، في عام 1992، وحين اضطر إلى الفرار إلى روسيا لفترة قصيرة في فترة الحرب الأهلية وحينها كان يشغل منصب رئيس البرلمان، وبعد عودته صار رئيسا للبلاد وحافظ على المنصب حتى الآن.
ومنحت روسيا اللجوء وحرية العمل في فترات معينة لسياسيين من أذربيجان وأرمينيا، ووظفتهم في فترات تاريخية بما يخدم سياساتها نحو هاتين الدولتين، واللافت أنه على عكس أوكرانيا فإن معارضي بيلاروسيا الجمهورية السلافية الثالثة لم يحصلوا على إقامة أو منصة للمعارضة في موسكو رغم علاقات المد والجزر الشائكة والمعقدة بين الكرملين والرئيس ألكسندر لوكاشينكو منذ صعوده قبل نحو 30 عاما.

من الحليف المفضل إلى التهميش
بدأ دعم روسيا لفيكتور يانوكوفيتش منذ توليه حكم مقاطعة دونيتسك الأوكرانية ما بين 1997 و2002، وزاد الدعم له بعد توليه رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الأسبق ليونيد كوتشما، ومع تبنيه سياسات للتقارب معها، وزيادة قوة حزبه “حزب الأقاليم” الأكثر شعبية في مقاطعات جنوب وشرق البلاد، بذلت روسيا جهودا كبيرة لفوزه في الانتخابات الرئاسية في 2004 على حساب منافسه فيكتور يوشينكو مرشح القوى الداعمة للخيار الأوروبي. وحقق المرشحان نتائج متقاربة وفي الجولة الثانية فاز يانوكوفيتش، لكن نتائج الانتخابات ألغيت بعد “الثورة البرتقالية”، وفاز يوشينكو في جولة الإعادة.
وواصلت روسيا دعم يانوكوفيتش حتى عاد إلى سدة الحكم في 2010، وأثناء حكمه سعى إلى التقارب أكثر مع موسكو على حساب الخيار الأوروبي. ووقع مع روسيا على اتفاقية تشمل تمديد عقد إيجار روسيا ميناء سيفاستوبول حتى عام 2042، والسماح بوجود ما يقارب 25 ألف جندي في القاعدة العسكرية في سيفاستوبول وجوارها، واحتفاظ روسيا بقاعدتين جويتين في القرم.
وفي المقابل، حصلت كييف على أسعار تفضيلية لوارداتها من الغاز الروسي. ودفع يانوكوفيتش نحو الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأورواسي في نهاية 2013 بعد حصوله على قروض وحسومات في أسعار الغاز الروسي، وماطل في توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ما تسبب في أحداث “الميدان الأوروبي” التي انتهت بهروبه من كييف ولجوئه إلى مدينة رستوف على الدون جنوبي روسيا في 22 فبراير/شباط 2014. وفي الشهور الأولى واظب يانوكوفيتش على عقد عدد من المؤتمرات الصحافية بصفته الرئيس الشرعي، ولكن نشاطاته السياسية تراجعت بشكل تدريجي وانتهت عمليا. ورغم استمرار المسؤولين الروس وصف ما حصل في فبراير/شباط بأنه انقلاب، بدا أن الكرملين أوقف رهاناته على يانوكوفيتش، ولم يبرز أي دور ليانوكوفيتش في أحداث السيطرة على شبه جزيرة القرم. كما انتقلت روسيا إلى دعم زعماء الحركات الانفصالية عن أوكرانيا، إضافة إلى السياسيين المقربين منها في كييف.
بعيدا عن شعارات محاربة الإرهاب وغيرها من التبريرات الروسية بدا واضحا أن الكرملين خشي من خسارة مواقعه نهائيا في شرق المتوسط، وأراد إعلان عودة روسيا بقوة كقطب عالمي
وقدم الكرملين الدعم لرئيس “جمهورية دونيتسك الشعبية” الانفصالية عن أوكرانيا المعلنة من طرف واحد في 2014 ألكسندر زاخارشينكو، وقُتل في عام 2018 في انفجار، ودعم زعماء انفصاليين في لوهانسك. ولم يبرز أي دور ليانوكوفيتش بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وواصلت روسيا دعم سياسيين محليين في دونيتسك ولوهانسك وزاباروجيا وخيرسون، ويواصل يانوكوفيتش وصفّ واسع من المسؤولين الذين خدموا معه حياتهم وأعمالهم في موسكو رغم القضايا المرفوعة ضدهم في أوكرانيا والمطالبات بتسليمهم. وبات طرح اسم يانوكوفيتش في تصريحات المسؤولين الروس مقتصرا على الجانب التاريخي، واستحضاره لإدانة التدخلات الغربية في أوكرانيا وزيادة مظاهر “النازية الجديدة” في أوكرانيا.
الأسد أو نخسر البلد
قدم يانوكوفيتش خدمات جمة لروسيا في سنوات عمله السياسي في أوكرانيا في قيادة مقاطعة دونيتسك إلى قيادته الحكومة ورئاسة البلاد، وبعد إطاحته بدا واضحا أن مشروع الكرملين للسيطرة على القرار السياسي في كييف عبر تمكين السياسيين الموالين له انتهى إلى طريق مسود، ما دفعها إلى القوة الخشنة والعمل على اقتطاع المناطق الجنوبية والشرقية من أوكرانيا. وزادت روسيا دعم الانفصاليين في البداية وصولا إلى الحرب الشاملة قبل نحو ثلاث سنوات، لتعطيل تحول أوكرانيا إلى قاعدة متقدمة لـ”الناتو” على حدود روسيا.
وفي المقابل في الحالة السورية لم يكن الأسد بالمطلق حليفا مثاليا لروسيا. وكان واضحا أن الأسد الابن لجأ للمرة الأولى إلى “الحليف القديم” لوالده بعد نحو أربع سنوات من حكمه نتيجة اشتداد الضغوط الغربية بعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري والضغوط الغربية على الأسد. وساهمت روسيا في دعم النظام سياسيا واقتصاديا انطلاقا من نظرة بأن أحداث الربيع العربي هي استمرار لموجة “الثورات الملونة” المدعومة غربيا.
وبعيدا عن شعارات محاربة الإرهاب وغيرها من التبريرات الروسية بدا واضحا أن الكرملين خشي من خسارة مواقعه نهائيا في شرق المتوسط، وأراد إعلان عودة روسيا بقوة كقطب عالمي. واستجاب الكرملين لطلب إيران والنظام ومد يد العون بإطلاق العملية العسكرية في خريف 2015. ونظرا لفائض القوة مكن التدخل العسكري الروسي غير المسبوق النظام من إعادة نحو ثلثي الأراضي السورية إلى سيطرته بعدما كان المسلحون على بعد كيلومترات من القصر الجمهوري في دمشق. وظل الانتصار الروسي ناقصا مع رفض الأسد تقديم أي تنازلات في المفاوضات مع المعارضة. واتبع نهجا مراوغا عبر الاستقواء في فترات مختلفة بإيران وميليشياتها على حساب روسيا للمماطلة. كما رفض الأسد أي إصلاحات سياسية أو اقتصادية تخفف من معاناة السوريين، واستشرى الفساد ما دفع الروس إلى توجيه انتقادات قاسية للنظام في أكثر من مناسبة.
مؤكد أن سقوط الأسد أضعف الدور الروسي في سوريا والمنطقة، ويؤثر في دور روسيا في أفريقيا والعالم
وفي يونيو/حزيران 2012 قال بوتين على هامش منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي: “إننا ندافع بالدرجة الأولى عن مؤسسات الدولة السورية وليس عن الرئيس الأسد، ولا نريد أن يتشكل في سوريا وضع مشابه لما تمر به ليبيا أو الصومال أو أفغانستان، حيث تتمركز هناك قوات (الناتو) على مدار سنوات طويلة، لكن الوضع لم يتغير نحو الأفضل”.
وعلّق بوتين عن الأسد: “هل ارتكب الأسد أخطاء؟ نعم، يُحتمل ذلك، عدد من الأخطاء. ولكن الناس التي تعارضه، هل هم ملائكة؟ أعني أن هؤلاء الذين يقتلون ويعدمون الأطفال ويقطعون رؤوسهم؟”.
وفي أكتوبر 2019، شدد بوتين على أهمية التركيز على “العمل بالتسوية السياسية للأزمة” في البلاد. وأشار بوتين في الجلسة العامة لمنتدى فالدي إلى أن “الأعمال القتالية الواسعة النطاق انتهت فعلا، وفي كل الأحوال، لا يمكن تحقيق حلّ نهائي من خلال العمليات العسكرية، أيا كانت نتائجها. ولهذا السبب، يجب الآن العمل على مسائل التسوية السياسية، الأمر الذي نقوم به بإصرار”.
ومع تقديم اللجوء للأسد وقسم من حاشيته المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي محاكاة لشعار “الأسد أو نحرق البلد”، تكشف طبيعة النقاشات والتصريحات أن روسيا ربما تكون أمام خيار “تسليم الأسد أو نخسر البلد”. وعلى عكس حالة التأييد التي لا يستهان بها لروسيا وبوتين في القرم وجنوب شرقي أوكرانيا، فإن روسيا لا تحظى بقبول شعبي واسع في سوريا، وأخفقت قوتها الناعمة في نسج علاقات مع الشعب السوري رغم التاريخ الطويل من العلاقات، كما أن الاستخدام المفرط للقوة لقمع الثوار واستهداف البنى التحتية لنحو تسع سنوات أدى إلى بروز نقمة متزايدة في سوريا على الوجود الروسي، وعلت أصوات لقطع العلاقات.

وفي مؤشر إلى الارتباك الروسي في التعامل مع سوريا بعد الأسد، كانت روسيا من أواخر الدول التي أرسلت وفودا إلى دمشق. وحسب التسريبات فإن تسليم الأسد كان على طاولة البحث، جنبا إلى جنب مع الوجود العسكري الروسي في قاعدتي طرطوس وحميميم، ومصير الاستثمارات الروسية في سوريا، والعلاقات المستقبلية.
ومؤكد أن سقوط الأسد أضعف الدور الروسي في سوريا والمنطقة، ويؤثر في دور روسيا في أفريقيا والعالم. والأرجح أن عودة العلاقات الروسية-السورية إلى سابق عهدها مستحيلة على المدى المنظور والمتوسط، ولكن الإبقاء على جزء منها بات رهنا بتسليم الأسد.
وفي حين منح الزعماء الأجانب الذين قصدوا روسيا في السابق قوة في التعامل مع الدول التي جاءوا منها، يبدو أن وجود الأسد يتسبب في استمرار الصداع الذي سببه للقيادات الروسية.
ومن المستبعد أن تسمح روسيا للأسد باستخدام موسكو منصة لأي أعمال عدائية ضد الحكومة الجديدة في دمشق، ولكن اندماجه كلاجئ في روسيا سيكون أصعب بكثير من ملايين السوريين الذين تسبب في خروجهم من بلادهم.
وبعيدا عن المناخ القاسي في روسيا، وعدم قدرة الأسد على تكرار نجاحات أطباء عيون سوريين في موسكو بنوا مراكز طبية وبحثية وحصل بعضهم على أرفع الأوسمة من الرئيس بوتين شخصيا، فإن المطالبات بتسليمه للعدالة ستتواصل.
وربما اختارت روسيا تجنيب الأسد مصير الزعيم الليبي السابق معمر القذافي أو الرئيس صدام حسين، أو نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا، ولكن بناء علاقات مع القيادة الجديدة في دمشق ربما يجبرها على إيجاد حلول لتسليمه بشكل مباشر أو إجباره على طلب اللجوء لسفارات أجنبية كما حصل مع أريش هونيكر آخر رئيس لألمانيا الشرقية. وقد لا تكفي هذه الخطوة لعودة المياه إلى مجاريها نظرا لأن المعركة حاليا على موقع سوريا الجيوسياسي في العالم، وتحتاج إضافة إلى السياسة ضخ استثمارات ضخمة لإعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، لن تكون روسيا قادرة على ضخها، مقابل شروط أوروبية واضحة بإنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا.