د. سعيد سلّام
3/6/2022
لقد مرت أول 100 يوم منذ بداية ما يسمى بـ “العملية العسكرية الخاصة”، والمعطيات الواردة من الجبهة تشير الى توقع تكرار مثل هذه المواعيد. خلال هذه الفترة فقدت روسيا أكثر من 30 ألف جندي قُتلوا في الحرب (البيانات الأوكرانية – لا تتوفر بيانات روسية حديثة)، وسيظل معظمهم في عداد المفقودين. وتم قتل وتدمير أكثر مما تم خلال 8 سنوات من الحرب في الدونباس، معظم القتلى من المدنيين الأوكرانيين الذين لم يسبق لهم أن حملوا السلاح، حتى بين سكان ما يسمى بـ “جمهوريات دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين” قُتِلَ عدد أكبر من السنوات الثماني السابقة بعدة مرات، وأدى ما يسمى بالانضمام “غير الدموي” لشبه جزيرة القرم في عام 2014 الى مقتل مواطني شبه جزيرة القرم بشكل كبير في الحرب مع اهل وطنهم، و أدت الحرب الروسية على أوكرانيا الى خلاف كبير بين الشعبين الأوكراني والروسي، الاستياء والكراهية والحسابات المتبادلة لن تهدأ في 30-50 عاما.
بشكل عام مضى أكثر من 8 سنوات على بداية الحرب الروسية على أوكرانيا وليس 100 يوم. حيث انه قبل 24 فبراير 2022، احتلت روسيا 7٪ من مساحة أوكرانيا وقُتِلَ آلاف الأوكرانيين، ولم تتحقق التوقعات المتشائمة للمحللين الاستخباريين والعسكريين الغربيين، الذين منحوا أوكرانيا بضع ساعات او أيام للمقاومة.
بالنسبة لأوكرانيا، هذه حرب من أجل بقاء الأمة والدولة. لا يمكن تقديم أي تنازلات في هذه الحرب. في حالة الاستسلام، سيزداد حجم الإبادة الجماعية في الأراضي المحتلة.
لقد دمر الجنود الروس جميع الاستثمارات والمساعدات الغربية للمدن شرقي أوكرانيا في السنوات السابقة، ويظهر الجيش الروسي تجاهلاً تاماً للتهديدات البيئية من خلال القيام بأعمال قتالية وقصف المنشآت الصناعية بالمواد المشعة والسامة. مما يهدد بتكرار كارثة تشيرنوبيل مرة أخرى.
لم تتعامل أوكرانيا مع الحرب الهجينة التي استمرت 8 سنوات فحسب، بل صمدت أيضًا في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، إذ تبين ان روسيا غير قادرة على هزيمة أوكرانيا واحتلالها والسيطرة عليها، كل السيناريوهات الواقعية تتحول إلى انهيار المغامرة الروسية، واسقطت القوات الأوكرانية أسطورة “الجيش الروسي الذي لا يقهر”، وأثبتت القدرة على إجراء عملية دفاعية استراتيجية أثناء معالجة القضايا الإنسانية والحفاظ على الديمقراطية ونضج المجتمع والدولة الأوكرانية؛ في المقابل يدفع المواطنون الروس العاديين جميع التكاليف المرتبطة بالعدوان واحتلال أراضٍ أجنبية وفرض عقوبات، وكانت “المكافأة” الوحيدة من جانب الكرملين هي زيادة تقليص الحقوق والحريات في روسيا.
أطلقت روسيا آلة غير مسبوقة من الدعاية والمعلومات المضللة عن أوكرانيا حول العالم. لكن خلال مائة يوم من الحرب الشاملة، لم يحقق الكرملين أيًا من أهدافه، ولن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادراً على الصمود وتغيير الوضع.
في الوقت الذي ادت الحرب التي شنتها روسيا الى مأساة كبيرة، لكنها جعلت أوكرانيا أقرب إلى أوروبا، في المقابل روسيا على وشك الانهيار.
وتبين أن شعار “نزع النازية” و”تغيير الحكومة” في أوكرانيا، الذي رفعته القيادة الروسية زائف، المواطنون الأوكرانيون من مختلف الأعراق قاموا بدعم القوات المدافعة عنهم واظهروا ثقتهم في الحكومة والقيادة السياسية، وأثبتت روسيا بالممارسة العملية أن شعار “نزع النازية” يشير إلى الإبادة الجماعية للشعب الأوكراني، وسيتم معاقبة المتورطين من القوات الروسية على الجرائم المرتكبة في أوكرانيا، حيث يقوم حالياً المحققون الأوكرانيون والدوليون بالتحقيق معهم.
أدت محاولات “نزع سلاح” أوكرانيا إلى إعادة تسليحها بأحدث الأسلحة الغربية وزيادة القدرة القتالية للقوات المسلحة بسبب دوافع القتال والخبرة المكتسبة، في المقابل يجري “نزع سلاح” الجيش الروسي بشكل نشط، مما يجبره على التحول إلى المعدات السوفيتية القديمة وتعويض الخسائر في الجنود بمقاتلين عديمي الخبرة.
وبدلاً من إضعاف الناتو، أدت الحرب على أوكرانيا إلى إحياء الحلف واحتمال توسّعِه على حساب السويد وفنلندا اللتين ما زالتا محايدتين على الحدود مع روسيا.
إن هدف موسكو في احداث خلل في وحدة أوروبا والغرب واستعادة مجال هيمنتها في أوروبا اثناء الحقبة السوفيتية لم يتحقق، بل نجد ان الاتحاد الأوروبي يستعيد وحدته السياسية ويعمل بجهد كبير على توحيد جهوده الاقتصادية للتخلص من “ادمان” الطاقة الروسية، وزيادة التقارب مع الولايات المتحدة الامريكية.
بدلاً من إنهاء الهيمنة الأمريكية والصعود الى قمة السياسة العالمية، وجدت روسيا نفسها في عزلة دولية غير مسبوقة، ودمرت سمعة روسيا، والتهمت الموارد الروسية، ودفعت بالبلاد عقودًا إلى الوراء من حيث التطور العلمي والتكنولوجي.
وبما ان روسيا بحربها تخرق القانون الدولي، ولا تلتزم بالاتفاقيات، وتتعمد إفساد النخب الغربية، تُعَرِّض المغامرة العسكرية مستقبل روسيا كدولة للخطر، إذ بدأت النخب الإقليمية تدرك أن الارتباط مع موسكو يجرهم إلى القاع، وان فك العلاقات مع موسكو هو الفرصة الوحيدة للخروج من المصيدة.
بالإضافة الى كل ذلك أثار الغزو الروسي أكبر أزمة إنسانية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أُجبر أكثر من 15 مليون اوكراني على الفرار من منازلهم، وأصبح ملايين الأوكرانيين لاجئين في دول الاتحاد الأوروبي.
أيضا روسيا مسؤولة عن إثارة أزمة الغذاء العالمية، في حال لم يتم إلغاء حصار الموانئ الأوكرانية لتصدير المنتجات الغذائية، قد يكون 17 مليون شخص في إفريقيا وآسيا على شفير المجاعة، وقد يموت نصفهم (بيانات الأمم المتحدة).
أوكرانيا تدافع عن نفسها منذ 100 يوم وستستمر، وقد وضعت القيادة السياسية والعسكرية اهدافا واضحة وهي تحرير جميع الأراضي التي تحتلها القوات الروسية، إعادة اللاجئين والمبعدين، وإعادة البناء وتطوير الدولة نحو الأفضل، والركائز الأساسية لتحقيق أوكرانيا أهدافها المعلنة والتي يمكن لشركائها وحلفائها تأمينها: فرض عقوبات قصوى على روسيا، وإمداد أسرع بالأسلحة الثقيلة لأوكرانيا، والوضوح بشأن مستقبل أوكرانيا في أوروبا.
ستكون الأسابيع المقبلة من الحرب صعبة، حيث تقوم القوات الروسية بحشد بقايا قواتها الجاهزة للقتال في شرق أوكرانيا، وتأمل في تحقيق إنفراجة لصالحها.
فقط انتصار أوكرانيا وهزيمة روسيا يمكنهما ضمان سلام واستقرار دائمين في أوروبا، بينما السيناريو المعاكس هو انغماس أوروبا لعقود في أحلك الأوقات.