أبو علي مصطفى سيبقى في قلوب وعقول أبناء فلسطين جيلا بعد جيل

في الذكرى الثانية والعشرين لاستشهاده

أبو علي مصطفى سيبقى في قلوب وعقول أبناء فلسطين جيلا بعد جيل

د. ماهر الطاهر

مسؤول العلاقات الدولية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

نائب الأمين العام للمؤتمر القومي العربي

5/9/2023

 في يوم استثنائي بتاريخ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتاريخ الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأحرار العالم ارتقى القائد الكبير ابو علي مصطفى شهيدا على أرض فلسطين، وكان أول أمين عام يستشهد على أرض الوطن.

تمزق جسده بقرار من المجرم شارون وتناثرت اجزاء هذا الجسد الطاهر في جبال فلسطين ووديانها وسهولها وغاباتها، تناثرت في كل بقعة من أرضنا وبلادنا.

السؤال: لماذا تم اتخاذ قرار الاغتيال وعلى أعلى مستوى في الكيان الاسرائيلي ولهذا القائد بالذات؟

الجواب باعتقادي هو: أن هذه الشخصية المتميزة ذات التاريخ الكفاحي العريق عندما عادت إلى أرض الوطن ومنذ لحظة وصولها الاولى تم وضعها تحت الرصد والمتابعة الدقيقة لأسباب عديدة.

منذ دخوله إلى أرض فلسطين قال: عدنا لنقاوم وعلى المبادئ لن نساوم.

لماذا نستذكر هذه العبارة اليوم؟ نستذكرها لأن البعض من أصحاب النوايا غير الطيبة فلسطينيين وعرب قالوا: بنوع من التشكيك أن عودة هذا القائد خاصة بعد ان أصبح أمينا عاما يحمل في طياته نوعا من الاستدارة والتراجع عن المواقف المبدئية والجذرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خاصه بعد التنحي الطوعي للقائد المؤسس الدكتور جورج حبش عن موقعه كأمين عام والمعروف بمواقفه الجذرية إزاء الكيان الاسرائيلي ورؤيته الفكرية والسياسية بأن لا تعايش مع المشروع الصهيوني وأن لا شرعية لوجود هذا الكيان على أرض فلسطين.

البعض طرح تساؤلات غير بريئة قائلا: ان عودة ابو علي مصطفى تحمل في طياتها بداية تغيير في المواقف والرؤية السياسية للجبهة وأن نوعا من التكيف سيحصل مع الواقع الجديد بعد أسلو. لكن الوقائع الملموسة والمواقف والدور الذي لعبه الشهيد الكبير على أرض الوطن أعطت عكس ما قاله البعض وما طرحه من تشكيك، وأذكر أن إحدى الشخصيات العربية من بلد عربي كتب كلاما سلبيا عن أبو علي وكذلك بعض الفلسطينيين، ولكن بعد استشهاده بعملية وحشية اتصلت هذه الشخصية بنا معبرة عن أسفها واعتذارها قائلة بأنها لم تكن تعرف حقيقة هذا الرجل ومعدنه وصلابته ومواقفه الجذرية التي تعبّر عن رؤية الجبهة الشعبية وخطها السياسي غير القابل لأي مساومات مهما كانت المصاعب والتحديات.

منذ دخول الشهيد ابو علي مصطفى إلى أرض فلسطين قال: عدنا لنقاوم وعلى الثوابت لا نساوم.

بعد دخوله إلى فلسطين استطاع شهيدنا الكبير أن يخلق حاله نهوض تدريجية في اوضاع الجبهة الشعبية على ارض الوطن على كافة الأصعدة السياسية والتنظيمية والجماهيرية والكفاحية.

واستقبلته جماهير شعبنا بكل التقدير والمحبة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة حيث زار كل المواقع والمدن والقرى والمخيمات، وقال لنا في لقاء معه بعد أول زيارة له إلى دمشق بعد عودته للوطن لقد وجدت الجبهة الشعبية وكوادرها وقواعدها وأنصارها في كل قرية وبلدة ومدينة ومخيم، لذلك أمامنا عمل شاق وكبير لتطوير عملنا والارتقاء به إلى الأمام مضيفا أنك عندما ترى الواقع وأنت متواجد على الأرض فالأمر يختلف بشكل كبير عن قراءة التقارير والرسائل عن الأوضاع في الداخل.

كان في غاية السعادة وكان يرى أن أمامه مهام جسام سيقوم بها على أرض فلسطين كذلك لعب دورا على الصعيد الوطني في اللقاءات مع القوى والفصائل الفلسطينية وبدأ في برنامج عمل جاد لتلاقي وتعاون هذه القوى.

ولعب دورا هاما في اجتماعات مؤسسات منظمه التحرير الفلسطينية، وخاصة في اجتماعات المجلس المركزي ونتذكر غضبه الشديد عندما اطّلع على أحد الكتب في الداخل والتي تتحدث عن المدن الفلسطينية متجاهلة مدن فلسطين التاريخية في حيفا ويافا وعكا والناصرة قائلا: كيف تتجاهلون ذلك؟ وكيف سنعلم ونربي أجيالنا وأطفالنا وتهرب من فعل ذلك من المسؤولية.

لقد جسد ابو علي مصطفى نموذج يحتذى للقائد المتواضع والزاهد فكان يرفض التمتع بأية امتيازات لا مبرر لها ولا يقبل ركوب السيارات الفارهة متواضعا في لباسه وطعامه ومسكنه يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حاجيات منزله وعندما كان مسؤولا عسكريا للجبهة الشعبية في أواخر الستينات كان يعيش مع المقاتلين وينام في القواعد العسكرية ويأكل نفس طعام المقاتلين واتذكر عندما كنت بزيارة عمل إلى تونس وكان حينها نائبا للأمين العام وعضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للجبهة ويعيش قسم من وقته في تونس، استضافني في منزله وقضيت ليلتي هناك فقال لي سأقوم بإعداد العشاء فقلت له دعني أساعدك قال لا يحتاج الأمر إلى مساعدة سأقوم بإعداد “قلاية بندورة” لم تأكل في حياتك مثلها وكان يحب هذه الأكلة.

من اقوال الشهيد ابو علي مصطفى حول القدس و حق العودة

نعم كان إنسانا متواضعا وزاهدا إلى أبعد الحدود يكره المظاهر والبذخ ويعيش حياته كأي مواطن فلسطيني بسيط وهنا نتذكر ما قاله أحد كبار أبطال الثورة الفيتنامية الجنرال جياب عندما زار عاصمة عربية توجد فيها فصائل فلسطينية في سبعينيات القرن الماضي فلما شاهد حياه البذخ والرفاهية التي يعيشها بعض القادة والسيارات الألمانية الفارهة والعطور باهظة الثمن مقارنة بحياته مع الثوار الفيتناميين في الغابات قال لتلك القيادات مباشرة وبدون مواربة (( ان الثورة والثروة لا يلتقيان واذا رأيت أحدا يدعي الثورة يسكن بقصر او فيلا ويأكل أشهى الأطباق ويعيش في رفاهية وترف وبقية الشعب يسكن في مخيمات ويتلقى المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة فاعلم ان القيادة لا ترغب في تغيير الواقع فكيف تنتصر ثورة قيادتها لا تريدها أن تنتصر)).

إن النموذج الذي جسده الشهيد ابو علي مصطفى والدور البارز الذي لعبه على أرض الوطن جعله موضع استهداف من أعلى مستوى في القيادة الصهيونية ولذلك تم اتخاذ قرار اغتياله وكما قال القائد المؤسس الراحل الكبير الدكتور جورج حبش متحدثا عن استشهاد القائد الكبير ابو علي واستشهاد القادة غسان ووديع ” انهم مناضلون وقاده غير عاديين أصبحوا رماحا تقاتل وأرواحا تحلق في سماء الوطن تطلق نيرانا على العدو بالرصاصة والموقف المقاوم والكلمة الثورية. إنهم يقاتلون بكل كيانهم بكل أرواحهم لذلك فهم يخيفون العدو ويقضون مضاجعه فيسرع لتصفية الحساب معهم عبر إسكاتهم إلى الأبد. إن طيور الظلام القاتلة وطائرات الأباتشي التي استهدفت الشهيد ابا علي قصدت قتل كل ما يمثله وهدفت لاغتيال الحلم النبيل بالغد واغتيال الموقف الصادق والكلمة الشفافة والساطعة سطوع الشمس في وطننا الحبيب”.

لقد توهم شارون والقيادة الإسرائيلية أنهم باغتيال ابو علي مصطفى سوف يضعفون الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأنها سوف تتراجع ويبهت دورها، لكنهم لم يدركوا ان الجبهة التي انجبت غيفارا غزة الذي قض مضاجعهم واعترفوا علنا وعلى لسان كبار قادتهم بأنهم كانوا يحكمون قطاع غزة في النهار وتحكمه الجبهة الشعبية وأبطالها في الليل، هذه الجبهة لا تنحني مهما كانت الضربات مؤلمة قاسية.

لقد اغتالوا غسان واغتالوا وديع واغتالوا باسل الكبيسي وحاولوا اغتيال واختطاف القائد المؤسس الراحل الدكتور جورج حبش أكثر من مرة، ولكن جبهتنا المظفرة لم تضعف ولم تتراجع ولم تنحني وقبلت التحدي وواصلت الكفاح بعزيمة أشد وإرادة أقوى. ونجحت في التحدي وصعّدت عملياتها وقامت بالرد المدوي على اغتيال الشهيد ابوعلي بتصفية المجرم رحبعام زئيفي وزير السياحة الصهيوني قائلة للعالم أجمع، بأن دماء قائدها وأمينها العام غالية جدا وأن الرد كان قبل مرور 40 يوما على استشهاد أمينها العام مترجمة ما قاله أمينها العام الجديد المناضل احمد سعدات العين بالعين والراس بالراس والبادي أظلم.

واليوم فإننا نحي ذكرى استشهاد ابو علي مصطفى الثانية والعشرين وشعبنا الصامد الصابر على أرض فلسطين يكتب تاريخه بدم ولحم أبنائه الصامدين الصابرين.

فها هم شباب فلسطين عدي التميمي وابراهيم النابلسي وتامر الكيلاني والعشرات والمئات والالاف من أبطالنا يسطرون صفحات المجد في تاريخ شعبنا العظيم وأمتنا العربية وأحرار العالم كله.

نعم ان الجيل الفلسطيني الجديد الذي كان يراهن عليه الشهيد ابو علي مصطفى جيل ما بعد أسلو جيل الشباب الفلسطيني الذي حسم أمره وخياره اعطى ابلغ رد للجنرال الامريكي دايتون عندما جاء الى فلسطين قائلا: نريد جيلا فلسطينيا جديدا يرفض العنف ويعمل للتعايش مع إسرائيل ويؤمن بالمفاوضات كوسيلة من أجل السلام فجاءه الرد من جيل فلسطيني جديد يرسم معالم مرحلة جديدة في تاريخ الصراع، ويؤسس لبناء حركة وطنية فلسطينية جذريه تعيد الاعتبار لمعنى فلسطين وتحرير كل ذره من ترابها.

كان ابو علي مصطفى يدرك بعمق ويؤمن إيمانا راسخا بقدرة الشعب الفلسطيني واصراره على المواجهة والمقاومة مهما كانت التضحيات والتحديات والمصاعب واختلال موازين القوى والظروف المجافية المحيطة بالوضع الفلسطيني.

اليوم نقول لشهيدنا الكبير نم قرير العين ولا تقلق فها هم أبناء شعبك العظيم في قطاع غزه قد خاضوا حروبا ومواجهات وسجلوا أروع ملاحم الصمود في مواجهة العدوان والاحتلال وقدموا قوافل من الشهداء، ولكنهم اوقعوا خسائر حقيقية في صفوف الاحتلال وخلقوا حالة ارباك وقلق حقيقي في قلوب جنوده ومستوطنيه، وغزة اليوم تراكم قوتها وامكانياتها، وهاهم أبناء شعبك العظيم في الضفة الفلسطينية، في القدس وبيت لحم واريحا وكل قرية ومدينة يواجهون الاحتلال بعمليات عسكرية نوعية وبأساليب ابداعية وروح كفاحيه اذهلت العالم أجمع.

كم كنا نتمنى أن ترى كتيبة جنين ونابلس وعرين الأسود والمواجهات اليومية المتصاعدة والخسائر التي يدفعها جنود الاحتلال ومستوطنيهم، وهاهم أبناء شعبك في الأراضي المحتلة عام 1948 يواجهون الاحتلال بكل العنفوان والشموخ ويلعبون دورا أساسيا في معركه الوجود والاشتباك التاريخي مع هذا المشروع الاستعماري على ارض فلسطين، وها هو محور المقاومة يزداد قوه ورسوخا في ظل تحولات اقليميه ودوليه نوعيه تدفع باتجاه بناء نظام عالمي جديد يضع حدا لسطوة القوى الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت بالتراجع وضعف هيمنها  على العالم بما يعنيه ذلك من انعكاسات ونتائج على الكيان الاسرائيلي الذي يعيش ازمة وجوديه بكل معنى الكلمة ويعاني تناقضات حادة على جميع الأصعدة والمستويات تتصاعد يوما بعد يوم.

وأخيرا نتذكر اليوم قائدنا الكبير فارس الشهداء أبو علي مصطفى بمآثره وعطاءه اللامحدود، واتذكر لقائي الأول معه في بيروت قبل 51 عاما وبالتحديد عام 1972 عندما كان نائبا للأمين العام واقول بكل الصدق إن هذا القائد هو من أطهر وأنقى وأشجع ما افرزت الثورة الفلسطينية المعاصرة من رجال.

نم قرير العين ولا تقلق وعهدا سنواصل الدرب حتى تحقيق كامل الأهداف النبيلة والسامية التي ناضلت وقضيت في سبيلها.

 

                                                     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *