أحد عشر سببا لنجاح “المغامرة” الأوكرانية في كورسك الروسية
المعركة يمكن أن تطول لأسابيع وربما لأشهر
سامر إلياس
10\9\2024
تم نشر المقال بالتنسيق مع الكاتب نقلا عن موقع المجلة
يتواصل الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك الروسية منذ صباح 6 أغسطس/آب. وعلى عكس الهجمات الأوكرانية العابرة للحدود في العامين الماضيين، فإن الهجوم الحالي لم يتخذ شكل غارات سريعة للتقدم في مقاطعات نوفوغورود أو كورسك أو بريانسك، كانت كييف تقول إنها من تخطيط وتنفيذ مجموعات عسكرية روسية معارضة للكرملين مثل “الفيلق الروسي”. وعادة ما انتهت هذه “الغزوات” الخاطفة بانسحاب المهاجمين بعد تسجيل فيديوهات وتوثيق صور داخل روسيا مع تدمير أو إعطاب بعض الآليات العسكرية للجيش الروسي، لكن وقائع الأيام الماضية تشي بأن المعركة ما زالت طويلة.
ومع نجاح أوكرانيا في إحداث عامل المفاجأة، والارتباك الواضح في موسكو، واصلت القوات الأوكرانية تقدمها في الأيام الأولى. ورغم تشديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد يومين على الهجوم على ضرورة طرد القوات الأوكرانية، فقد تواصل تقدمها ولكن بوتيرة أبطأ. وكشف إقبال الجانبين على حفر خنادق قرب مناطق الاشتباكات في كورسك أن المعركة يمكن أن تطول لأسابيع وربما لأشهر. وبعد إنكار في الأيام الأولى أقرت القيادة الأوكرانية بالمسؤولية عن الهجوم غير المسبوق في عمق الأراضي الروسية.
أسباب نجاح أوكرانيا
استطاعت أوكرانيا نقل المعارك إلى داخل روسيا، وتسبب الهجوم في إجلاء أكثر من 120 ألف مواطن روسي من المناطق الحدودية في مقاطعة كورسك حسب اعتراف السلطات الرسمية، ومن المرجح أن يرتفع العدد إلى حدود 180 ألفا مع دعوة السلطات الروسية، يوم الأربعاء الماضي 15 أغسطس، سكان منطقة غلوشكوفسكي في كورسك، التي يبلغ عدد سكانها 20 ألف نسمة، إلى إخلاء مساكنهم، واستمرار التقدم الأوكراني بوتيرة تتراوح بين كيلومتر وكيلومترين يوميا. وأقرت روسيا بسيطرة الجيش الأوكراني على نحو سبعين بلدة وقرية وتجمعا سكنيا، وأكد خبراء معهد دراسة الحرب الأميركي، يوم الأربعاء الماضي، أن تحليل مقاطع الفيديو والصور والحرائق من الأقمار الاصطناعية يكشف أن أوكرانيا تسيطر على أكثر من ألف كيلومتر مربع من الأراضي الروسية.
ويعود نجاح أوكرانيا إلى 11 سببا:
1- استطاع الأوكرانيون خداع الجيش الروسي عبر نشر إشاعات في الشهرين الأخيرين مفادها أن أوكرانيا تنتظر هجوما روسيا على مقاطعة سومي المقابلة لكورسك بهدف محاصرة القوات الأوكرانية في منطقة دونيتسك وسط دونباس لتسريع سقوط مدن وبلدات بوكروفسك، وكونستنتينوفكا وسلافيانسك وكراماتورسك، وهي المدن الاستراتيجية الكبرى التي ظلت صامدة بيد الأوكرانيين منذ اندلاع القتال في 2014، وامتلكت خطوطا دفاعية منيعة أوقفت تقدم الجيش الروسي منذ بداية الحرب الحالية في فبراير/شباط 2022.
2- جمع الجيش الأوكراني قرابة عشرة آلاف مقاتل من قوات النخبة بعد هجوم روسيا على مقاطعة خاركيف في مايو/أيار الماضي، ولاحقا، ومع تباطؤ التقدم الروسي في تلك المنطقة، بدا أن قيادة الجيش الأوكراني قررت عدم إرسال قسم من هذه القوات إلى جبهات دونيتسك المشتعلة، بل المغامرة بإطلاق عملية عسكرية عابرة للحدود، مستفيدة من معلومات الاستخبارات الأوكرانية التي استطاعت تحديد ثغرة كبيرة في الدفاعات الروسية على طول الحدود.
كشفت سرعة الهجوم الأوكراني والتقدم الكبير في اليوم الأول بحدود 10 كيلومترات، حسب معظم التقارير، عن ضعف واضح في الدفاعات الروسية على الحدود
3- إضافة إلى القوات التي كانت مخصصة لجبهة خاركيف، كشفت تقارير إعلامية أوكرانية وغربية أن الجيش الأوكراني نقل مئات الجنود المدربين جيدا قبل أيام من الجبهات في زابوروجيا ودونيتسك إلى سومي، لتشكيل القوة الهجومية.
4- العامل الأكثر أهمية هو السرية التامة في التحضير، وحسب التقارير الإعلامية اللاحقة ومنها ما نقلته ” فايننشيال تايمز” يوم 12 أغسطس عن مقاتلين شاركوا في الهجمات الأولى فإن الضباط الكبار أعلموا بتفاصيل العملية قبل يومين فقط، وأُخبر الجنود والمقاتلون بمهماتهم قبل يوم واحد فقط، كما أكد المسؤولون الغربيون، ومن ضمنهم الأميركيون، أن أوكرانيا لم تبلغهم نيتها الهجوم على الأراضي الروسية.
5- عامل المفاجأة لعب دوراً مهماً في تقدم القوات الأوكرانية، ومن الواضح أن الجيش الروسي لم يكن يتوقع أن تبادر أوكرانيا إلى الهجوم في وقت تشرف فيه جبهاتها الدفاعية على الانهيار في مناطق تشاسوفوي يار، ونيويورك (بلدة بوسط مقاطعة دونيتسك)، وترويتسك. وأقر بعض جنود القوات المسلحة الأوكرانية الذين تحدث معهم الصحافيون بأنهم شككوا في جدوى العملية بمنطقة كورسك، وأبدى بعضهم قلقا من ترك مواقعهم في منطقة دونيتسك.
6- عدم اهتمام وزارة الدفاع الروسية بتقارير هيئة الأمن الفيدرالي الروسي حول التحضير لهجوم أوكراني، وذكر مدونون عسكريون روس أن الهيئة المسؤولة عن أمن الحدود الروسية حذرت قبل أسبوعين من هجوم أوكراني وشيك على كورسك، لكن الأركان العامة الروسية قللت من أهمية هذه التقارير، ولم تعزز القوات على الحدود الروسية الأوكرانية. وربما يبرر ما سبق كثرة التقارير بعد ثلاثة أيام من الهجوم عن تعيين رئيس هيئة الأمن الفيدرالي الروسي ألكسندر بوريتنيكوف مسؤولا عن قيادة غرفة محاربة الإرهاب في كورسك، قبل تأكيد تعيين مساعد الرئيس بوتين وحارسه الشخصي السابق أليكسي ديومين في هذه المهمة يوم الثلاثاء الماضي (13 أغسطس).
7- كشفت سرعة الهجوم الأوكراني والتقدم الكبير في اليوم الأول بحدود 10 كيلومترات، حسب معظم التقارير، عن ضعف واضح في الدفاعات الروسية على الحدود. وبعد “الغارات” الأوكرانية في 2023، قررت روسيا تشكيل وحدات من المتطوعين المحليين في مقاطعات بيلغورود وكورسك وبريانسك، لمساعدة حرس الحدود، وقوات من المجندين الجدد في الجيش الروسي وهم من عديمي الخبرة في القتال، وأعداد أقل من “قوات أحمد” الشيشانية. وأظهر هجوم القوات المسلحة الأوكرانية على منطقة كورسك أن النظام الأمني الذي ابتكرته السلطات الروسية ترك سكان المنطقة دون حماية تقريبا أثناء هجوم شنّه أفراد عسكريون أوكرانيون محترفون. واتهم مدونون عسكريون بارزون القوات الشيشانية بعدم إبداء أي مقاومة.
الخسائر الروسية الكبيرة في اليومين الأولين، ووقوع عشرات الجنود في الأسر، وتدمير قافلة مدرعات، وإسقاط مروحيتين روسيتين، ساهمت في إبطاء الرد الروسي
8- أظهرت تصريحات المسؤولين الروس، والرد العسكري، ارتباكا واضحا في طريقة التعامل مع الهجوم، وفي اليوم التالي قال رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال فاليري غيراسيموف في اجتماع مع مجلس الأمن الروسي إن ألف مقاتل أوكراني شاركوا في اقتحام الحدود الروسية، وإنه تم إيقاف الهجوم وقتل 930 منهم، وهذا يكشف أن قيادة الجيش لم تكن تملك معلومات واضحة أو أنها كانت تتوقع إنهاء الهجوم بسرعة، في حين تواصل الهجوم ولاحقا تبين أن عدد المهاجمين يصل إلى نحو 10 آلاف مقاتل.
9- إحجام القيادة الروسية عن نقل احتياطات من جبهات دونيتسك وخاركيف وزابوروجيا إلى كورسك، ومواصلة الهجوم بقوة في دونباس، مما سمح بمواصلة الأوكرانيين تقدمهم.
10- على مستوى القيادة الميدانية، بدا واضحا تفوق الأوكرانيين على مستوى الضباط القادة وقدرتهم على إدارة المعركة حسب الظروف الميدانية، وعدم تقدمهم بشكل سريع لعدم فتح المجال أمام انفصال مقدمة المهاجمين عن الكتلة الرئيسة للقوات المهاجمة، والأهم البقاء ضمن نطاق تغطية المدافع الأوكرانية، وعمليات الطائرات دون طيار التي ترصد المنطقة وتتعامل مع الأهداف الروسية العسكرية.
11- أخيرا، فإن الخسائر الروسية الكبيرة في اليومين الأولين سواء على صعيد وقوع عشرات الجنود في الأسر، أو تدمير قافلة من المدرعات كانت متجهة لجبهة القتال وقتل قرابة 120 جندياً روسياً، والحديث عن إسقاط مروحيتين روسيتين بطائرات دون طيار أوكرانية، كل ذلك ساهم في إبطاء الرد الروسي.
الأهداف الأوكرانية
تعددت الأهداف الأوكرانية من هجوم كورسك ويمكن إجمالها من تصريحات الطرفين المتحاربين والنتائج المحققة والمرجوة من الهجوم:
– نقل المعركة إلى داخل الأراضي الروسية وإثبات أن أوكرانيا قادرة على الرد والتحرك إن أرادت وتوفرت لها الإمكانات.
– إضعاف الروح المعنوية للمواطنين الروس وبخاصة في المناطق الحدودية، وبث اليأس في نفوس الداعمين للحرب بقدرة الكرملين على إخضاع أوكرانيا أو حتى مجرد حمايتهم.
– رفع الروح المعنوية للأوكرانيين الذين يعانون منذ سنتين من ويلات الحرب، وزادت معاناتهم في الشهور الأخيرة بسبب نقص الكهرباء الحاد، وتراجع مستوى الحياة.
تعاني روسيا معضلة مركبة، فبعد صمت بدأت في التركيز على الآثار الإنسانية للهجوم الأوكراني، في ظل حرب تقول إنها وجودية بالنسبة لها في أوكرانيا لتحديد شكل النظام العالمي الجديد
– تخفيف الضغط عن جبهة دونباس، وإجبار الجانب الروسي على نقل جزء من الوحدات المقاتلة إلى كورسك.
– إقناع الغرب بمواصلة تزويد أوكرانيا بأنواع حديثة من الأسلحة، بعدما أثبتوا قدرتهم على احتلال مناطق من روسيا في فترة قياسية.
– تقوية الوضع التفاوضي لأوكرانيا في أي مفاوضات مستقبلية، وإرسال رسالة قوية بأن أوكرانيا هي المخولة الوحيدة بأي مفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب.
ماذا بعد؟
بعد يوم من إعلان الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أن بلاده تفكر في إنشاء إدارة عسكرية في المناطق التي سيطرت عليها في كورسك، نقلت صحيفة “الإندبندنت” البريطانية عن جنرال أوكراني أن بلاده تخطط لإنشاء “منطقة عازلة” في روسيا، لتخفيف الضربات الروسية على الأراضي الأوكرانية، في محاكاة على ما يبدو لإعلان روسيا عن بناء منطقة عازلة في خاركيف. وأكد الجنرال الأوكراني نية كييف التمسك بالأراضي التي سيطرت عليها لاستخدامها كورقة مساومة في أي مفاوضات سلام مستقبلية، كاشفا أن نحو 8 آلاف عسكري أوكراني موجودون بالفعل في مقاطعة كورسك. وفي وقت سابق أكد زيلينسكي وأكثر من مسؤول أوكراني أن كييف لا تنوي احتلال أي مناطق في روسيا، لكن استمرار حفر الخنادق وإنشاء قيادة عسكرية يشي بأن أوكرانيا تنوي الوجود طويلا- إن استطاعت- على الأراضي الروسية.
وفي المقابل، تعاني روسيا معضلة مركبة، فبعد صمت بدأت في التركيز على الآثار الإنسانية للهجوم الأوكراني، في ظل حرب تقول إنها وجودية بالنسبة لها في أوكرانيا لتحديد شكل النظام العالمي الجديد، لكن انتقال المعارك إلى داخل روسيا لا يزيد الشكوك في قدرتها على الانتصار فحسب، بل في قدرتها على حماية مواطنيها.
وتكشف تصريحات الرئيس بوتين والمسؤولين الروس- إضافة إلى مواصلة المعارك في دونيتسك- أن الأولوية الروسية تكمن في تحقيق تقدم يمكن الجيش الروسي من كسر الدفاعات الأوكرانية والتقدم نحو بوكروفسك وكبريات المدن الأوكرانية الأخرى في دونباس. وحسب التقارير المختلفة ما زال الكرملين يرفض نقل أي جزء من القوات لدعم جبهة كورسك، ويركز على بناء دفاعات جديدة، وتجميع قوات من منطقة ليننغراد العسكرية إضافة إلى المتطوعين ومجموعات “فاغنر” وغيرها قبل شن هجوم معاكس لاستعادة المناطق التي احتلتها أوكرانيا.
العملية التي بدا أنها مغامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأوكرانيا يمكن أن تهز صورة بوتين كقائد قوي في حال عدم الحسم الروسي سريعا
وبعد أكثر من عشرة أيام على هجوم كورسك، تشي الأوضاع بأن المعركة في هذه المنطقة ستتواصل أسابيع على الأقل، والأرجح أن قدرة أي طرف على الحسم تعتمد بشكل كبير على موقف الحلفاء، فأوكرانيا بحاجة إلى دعم غربي إضافي من الأسلحة، مع ضوء أخضر لاستخدامها داخل الأراضي الروسية، وفي المقابل تحتاج روسيا إلى صواريخ إضافية من إيران وكوريا الشمالية لضرب العمق الأوكراني وقطع خطوط الإمداد.
اللافت أن الإعلام الروسي استحضر معارك الدبابات في كورسك أثناء الحرب العالمية الثانية (5 يوليو- 23 أغسطس 1943) والتي شكلت بداية لانكسار الجيش الألماني النازي وخروجه من الاتحاد السوفياتي، وذهب الإعلاميون المؤيدون للكرملين إلى أن الانتصار حتمي في معركة كورسك الحالية. وفي المقابل، استحضر الرئيس زيلينسكي كارثة غرق الغواصة كورسك في بحر بارينتس يوم 12 أغسطس 2000، وحينها وجه الإعلام الروسي انتقادات للرئيس الشاب بوتين حينها لطريقة إدارته الأزمة التي تسببت في مقتل نحو 120 غواصاً روسياً. وبعد 25 عاما على حكم بوتين لا يوجه الإعلام الروسي أي انتقادات لبوتين على أحداث كورسك الحالية، لكن العملية التي بدا أنها مغامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لأوكرانيا يمكن أن تهز صورة بوتين كقائد قوي في حال عدم الحسم الروسي سريعا، خاصة وأن صورة القائد اهتزت بشدة بسبب تمرد “طباخ الكرملين” يفغيني بريغوجين الذي وصل إلى مشارف مقاطعة موسكو قبل أن يحسم مصيره في 23 أغسطس الماضي. ويبدو أن أياما ساخنة تنتظر الجانبين الروسي والأوكراني في شهر أغسطس اللهاب بدرجات حرارته العالية في جنوب روسيا وأوكرانيا، مسرحها كورسك ذات الذكريات السارة والمؤلمة في آن واحد.