أوكرانيا تعيد تعريف ساحة المعركة وتضرب العمق الروسي بعزم متزايد

أوكرانيا تعيد تعريف ساحة المعركة وتضرب العمق الروسي بعزم متزايد

أوكرانيا تعيد تعريف ساحة المعركة وتضرب العمق الروسي بعزم متزايد

وتداعيات جيوسياسية عميقة

وحدة الدراسات العسكرية – مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

27\7\2025

شهدت الأيام الأخيرة تصعيدًا نوعيًا في العمليات العسكرية الأوكرانية، إذ لم تعد ساحة المعركة مقتصرة على خطوط التماس على الجبهة، بل امتدت لتشمل العمق الروسي الاستراتيجي، مستهدفةً شرايين الدعم اللوجستي والعسكري الرئيسية. تتجسد هذه المرحلة في سلسلة من الهجمات المنسقة التي تُظهر قدرة أوكرانيا المتنامية على إحداث تأثيرات ملموسة على القدرات الروسية، سواء من الناحية العسكرية، أو الاقتصادية، أو حتى النفسية. إن هذا التصعيد، الذي يستند إلى توظيف مكثف للطائرات المسيرة المتطورة كأداة محورية وذات فاعلية متنامية، لا يمثل مجرد تصعيد تكتيكي عابر، بل يؤشر إلى عمل استراتيجي عميق في النهج الأوكراني للحرب، يهدف بوضوح إلى مضاعفة الضغط على موسكو ورفع كلفة الصراع عليها بشكل مباشر داخل حدودها السيادية، بما يفرض عليها إعادة تقييم شاملة لأولوياتها الدفاعية والأمنية، ويستنزف مواردها العسكرية والاقتصادية المحدودة. تبرز هذه الهجمات قدرة كييف المتزايدة على نقل “الحرب” إلى الفناء الخلفي لموسكو، بعد فترة طويلة من تركز العمليات في الأراضي الأوكرانية المحتلة أو المناطق الحدودية، مما يغير من ديناميكيات الصراع ويضع تحديات جديدة أمام الكرملين.

ضربات على البنية التحتية الحيوية في العمق الروسي

تنوعت الأهداف الأوكرانية لتعكس رؤيةً شاملة تهدف إلى شل القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية، وإرباك القيادة، وتقويض معنويات الشعب الروسي. في تطور لافت، استهدفت الطائرات المسيرة الأوكرانية في ليلة 25 يوليو عدة مواقع حيوية داخل روسيا، في عملية تُشير إلى تحول في استراتيجية المواجهة. هذه الهجمات لم تكن عشوائية، بل ركزت على أهداف ذات قيمة استراتيجية عالية شملت المطارات الاستراتيجية التي تستضيف قاذفات روسية بعيدة المدى من طراز Tu-95 وTu-22M3، والتي تُستخدم لشن ضربات على أوكرانيا، حيث يحد هذا الاستهداف الدقيق من قدرة روسيا على القيام بهجمات جوية بالطيران الاستراتيجي، ويُلحق بها خسائر مادية فادحة، ويقوض تفوقها الجوي، ويكشف عن ضعف في حماية أصولها الاستراتيجية في العمق، مما يجبرها على إعادة توزيع دفاعاتها الجوية وتقليل فعاليتها على خطوط الجبهة. من الأمثلة البارزة، نجحت مديرية المخابرات الرئيسية الأوكرانية في تدمير طائرة مقاتلة من طراز “سو-27” في مطار أرمافير العسكري بإقليم كراسنودار، مما يُبرز ضعف الإجراءات الأمنية في المطارات العسكرية الروسية التي تفتقر إلى أبسط تدابير الحماية.

وفي سياق متصل باستهداف البنية التحتية الحيوية، تتزايد مؤشرات القلق الروسي من أعمال التخريب والهجمات البحرية؛ فحادثة تسرب الأمونيا في ميناء أوست-لوغا في 6 يوليو، وهي الحادثة السادسة من نوعها، دفعت موسكو إلى فرض فحوصات إضافية على هياكل السفن الأجنبية قبل دخول الموانئ الروسية، وتطلب الحصول على إذن من جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، مما يؤكد مخاوفها المتزايدة من استهداف بنيتها التحتية البحرية الحيوية.

تُركز أوكرانيا بشكل مكثف على البنية التحتية للطاقة الروسية، بهدف ضرب الشريان الاقتصادي الحيوي وتقويض القدرة الروسية على تمويل المجهود الحربي. في ليلة 22 يوليو، استهدفت طائرات مسيرة أوكرانية شركة نوفوكويبيشيفسك للبتروكيماويات في سمارا، مما أدى إلى أضرار جسيمة وتوقف جزئي للمصنع الحيوي الذي ينتج مواد خام للمتفجرات. كما تسببت هجمات سابقة على مصافٍ للنفط في سوتشي وأدلر ومستودعات وقود في تامبوف وبريانسك في خسائر مادية كبيرة ونشوب حرائق واسعة، مما أثر على سلاسل الإمداد. هذه الهجمات لا تهدف فقط إلى إلحاق خسائر اقتصادية، بل ترمي أيضًا إلى إحداث تأثير نفسي عميق داخل المجتمع الروسي.

وشهدت ليلة 25 يوليو هجومًا واسع النطاق بطائرات مسيرة أوكرانية استهدف مناطق استراتيجية في العمق الروسي، مما أحدث تعطيلًا كبيرًا في البنية التحتية اللوجستية والعسكرية. شملت الأهداف الرئيسية مصنع كوتوفسكي للبارود في مقاطعة تامبوف، الذي تعرض لهجوم متكرر ويُعد شريانًا حيويًا لدعم المجهود الحربي، وتُشير التقديرات إلى أن الضربة ستؤثر على إنتاجه للذخائر، وتؤدي إلى وقف مؤقت لخطوط الإنتاج. واندلع حريق كبير في مجمع “آزوت” الكيماوي في نيفينوميسك بإقليم ستافروبول، الذي يُعد موردًا حيويًا للمواد الكيميائية لوكالات إنفاذ القانون، حيث يزود مصانع إنتاج القنابل والمتفجرات، وقد عكست الصور والفيديوهات وتوقف الطرقات حجم الضرر، على الرغم من محاولات السلطات المحلية التقليل من شأنه. كما استهدف الجيش الأوكراني في 26 يوليو مصنع “سيغنال” الاستراتيجي العسكري في ستافروبول، الذي يبعد 510 كيلومترات عن خط الجبهة، وهو مركز حيوي للبنية التحتية العسكرية الروسية للإلكترونيات الراديوية، وقد استهدف بشكل خاص مبانٍ تحتوي على معدات مستوردة عالية الدقة، مما يُعد ضربة قوية للصناعة بأكملها نظراً لصعوبة استبدال هذه الآلات بسبب العقوبات.

كذلك في ساعات فجر يوم 25 يوليو، شنت طائرات مسيرة أوكرانية هجومًا على محطة تيماشيفسك للسكك الحديدية في منطقة كوبان، مما أدى إلى توقف إمداد الطاقة وتعطيل حركة عشرات القطارات. وفي نفس الليلة، تعرضت محطة “بيشانسكايا” للسكك الحديدية في مدينة سالسك بإقليم روستوف لهجوم مماثل، وتُعتبر هذه المحطة نقطة محورية لإمداد القوات الروسية المحتلة في اتجاهات دونيتسك وماريوبول، مما أدى إلى تعطيل حركة 22 قطارًا. وتواصل أوكرانيا استهداف الخدمات اللوجستية للسكك الحديدية الروسية في محطات حيوية كنوفوتشركاسك وفي مناطق مثل روستوف.

يؤكد محللو الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT) أن هذه الضربات تعطل طرق الإمداد الروسية الحيوية إلى دونباس والجنوب الأوكراني المحتل، مما يُضعف قدرة القوات الروسية على تعزيز مواقعها وإمداد جبهاتها بالعتاد والجنود، ويحد من حركتها اللوجستية بشكل كبير، مما يُبطئ من وتيرة عملياتها الهجومية. خلال الأسابيع الماضية، كانت هناك سلسلة من الهجمات المماثلة على البنية التحتية للسكك الحديدية الروسية، مثل محطات كامينولومني وليخايا، بهدف إرباك حركة القوات وتباطؤ نقل الاحتياطيات.

وأُجبرت السلطات الروسية على تفعيل خطة “السجادة” في ثماني مطارات دفعة واحدة: سوتشي، ستافروبول، تامبوف، مينفودي، فلاديكافكاز، غروزني، ماغاس، ونالتشيك. هذا الإجراء، الذي يُعادل حظرًا فعليًا للمجال الجوي فوق ما يقرب من نصف الأراضي الروسية، يُظهر قدرة أوكرانيا على استهداف أي منطقة خلفية بغض النظر عن المسافة من خطوط الجبهة. وقد تكرر إغلاق المجال الجوي في جنوب ووسط روسيا أربع مرات على الأقل في الأسبوعين الماضيين، بما في ذلك مطارات موسكو الرئيسية. تُشير التقارير الصادرة في 21 يوليو 2025 إلى أن هجمات الطائرات المسيرة الأوكرانية أثارت فوضى في مطارات موسكو، بينما أعلنت الدفاعات الروسية في نفس اليوم عن تدمير 105 طائرات مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق، مؤكدة ضرب أهداف في عمق الأراضي الروسية بخمس طائرات مسيرة. وتهدف هذه الهجمات إلى تعطيل اللوجستيات، وإعاقة النقل العسكري، ونشر الذعر في العمق الروسي، بالإضافة إلى إجبار أنظمة الدفاع الجوي الروسية على إطلاق صواريخ باهظة الثمن على طائرات مسيرة غير مكلفة نسبيًا.

في تزامن مع هجمات الطائرات المسيرة، استمرت الضربات الدقيقة باستخدام صواريخ “هيمارس” في تحقيق أهداف حيوية؛ ففي 25 يوليو، تلقت مدينة دونيتسك المحتلة ضربات قوية استهدفت قاعدة للقوات الروسية ومركزًا للسكك الحديدية في حي كييفسكي بالمدينة. شوهدت أعمدة الدخان الكثيف تتصاعد فوق منطقة منجم “زاسيادكو”، التي تُستخدم كنقطة تمركز للمعدات والقوات الروسية. أظهرت الصور أضرارًا جسيمة في مبنى إداري، يُرجح أنه كان مقر قيادة أو قاعدة تشغيلية، مما يدل على دقة الاستهداف ووجود معلومات استخباراتية دقيقة لدى الجانب الأوكراني. يُعد هذا الهجوم جزءًا من استراتيجية أوكرانية ممنهجة لتدمير البنية التحتية اللوجستية والقيادية للقوات الروسية في الأراضي المحتلة. يؤكد هذا الهجوم مرة أخرى على فعالية أنظمة “هيمارس” في استهداف الأهداف بدقة بالغة، حتى في المناطق الحضرية، مما يُظهر قدرة أوكرانيا على استنزاف الجيش الروسي في عمقه الخلفي من خلال تدمير المستودعات ومراكز القيادة وقواعد الإمداد. هذه الضربات ليست معزولة، فقد سبقتها هجمات على مواقع روسية رئيسية في دونيتسك، مثل معهد المعادن غير الحديدية، حيث كان يقع مقر قيادة الجيش الثامن الروسي.

أوكرانيا بين حرب الاستنزاف وانهيار القوة النووية…

على صعيد أوسع، امتدت الأهداف الأوكرانية لتشمل أنظمة الدفاع الجوي والرادار في أوريول، والمستودعات العسكرية ومنشآت صناعية في كالوغا وتولا، والتي تُعد ضرورية لدعم المجهود الحربي الروسي بشكل مباشر. كما أدت الهجمات سابقًا إلى تعطيل كبير في الحركة الجوية والبحرية، مثل توقف مطار سوتشي عن العمل وتأخير مئات الرحلات الجوية، مما يشير إلى استهداف اللوجستيات المدنية لإحداث ارتباك واسع. كما تعرضت مناجم مهجورة في دونيتسك، مثل منجم “زاسيادكو”، للاستهداف بصواريخ هيمارس، حيث تُستخدم هذه المناجم كقواعد ومراكز للاحتجاز والتعذيب للمجندين الرافضين للقتال.

القرم: رمزية استراتيجية ونقطة ارتكاز لنزع الشرعية عن “ضمها”

تبقى شبه جزيرة القرم، التي قامت روسيا بضمها بشكل غير قانوني في عام 2014، هدفاً استراتيجياً ذا أبعاد رمزية وعسكرية لأوكرانيا. التقارير المتتالية عن احتراق أنظمة الدفاع الجوي الروسية في القرم تؤكد استمرار الاستهداف الأوكراني للمواقع الروسية هناك، والذي لم يعد مقتصراً على المنشآت العسكرية فحسب بل يطال أيضاً مراكز القيادة والتحكم، وحتى الأصول البحرية. تهدف هذه العمليات إلى تقويض القدرات العسكرية الروسية بشكل ممنهج في هذه المنطقة الحيوية، لا سيما أسطول البحر الأسود المتمركز في سيفاستوبول، وكسر وهم الحصانة الروسية في منطقة تعتبرها موسكو جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. هذا يؤثر بشكل مباشر على معنويات القوات المحتلة ويدفع نحو اعتبار القرم منطقة عمليات عسكرية نشطة وغير آمنة للقوات الروسية والمواطنين الذين استوطنوها.

تُظهر الهجمات على القرم أن كييف تستخدم مزيجًا من الطائرات المسيرة والصواريخ، وأحيانًا حتى عمليات خاصة، لضرب أهداف استراتيجية. وقد شملت هذه الأهداف جسر القرم نفسه في مناسبات متعددة، وهو شريان حيوي للإمدادات العسكرية الروسية ويرمز للسيطرة الروسية على شبه الجزيرة. كما تعرضت قواعد جوية روسية في القرم، مثل قاعدة ساكي الجوية، لهجمات أدت إلى تدمير أو إلحاق أضرار بطائرات حربية ومستودعات ذخيرة. هذا الاستهداف المباشر للقوات الجوية الروسية في القرم يقلل من قدرتها على شن غارات جوية ضد أوكرانيا ويزيد من مخاطر عملياتها. علاوة على ذلك، استهدفت أوكرانيا بشكل متكرر أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول، مما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة وإغراق عدد من السفن الحربية الروسية، بما في ذلك سفن قيادية كبرى، وتراجع فعالية هذا الأسطول بشكل كبير وقدرته على السيطرة على المياه الإقليمية. تُعد هذه الضربات على الأسطول نجاحًا استراتيجيًا كبيرًا لأوكرانيا، حيث أجبرت السفن الروسية على التراجع إلى مناطق أكثر أمانًا بعيدًا عن الساحل الأوكراني. وقد واجهت السلطات الروسية في القرم هذه التطورات بفرض تعتيم إعلامي صارم، في محاولة للحد من تداعيات الهجمات وعمليات التخريب على الرأي العام الداخلي والخارجي، مما يدل على حجم القلق الروسي من هذه الضربات ويسلط الضوء على تزايد انكشاف القرم أمام الهجمات الأوكرانية.

التداعيات الواسعة وتحديات الدفاع الجوي الروسي: كشف الثغرات الأمنية

تُشكل هذه الهجمات الأوكرانية بالطائرات بدون طيار تحدياً متعدد الأوجه وذا أبعاد استراتيجية عميقة لروسيا؛ فهي لا تلحق أضراراً اقتصادية مباشرة فحسب، بل تُقلل من الإحساس بالأمان، وتُثير تساؤلات حول فعالية القيادة، وتفاقم الانتقادات الداخلية، مما قد يُسهم في إضعاف استقرار النظام على المدى الطويل، ويغير مسار الحرب برمته. إن هذه الهجمات المتواصلة، التي تستهدف مستودعات الذخيرة، والمطارات، ومصافي النفط، ومستودعات النفط، والآن المنشآت الصناعية العسكرية، تهدف إلى إلحاق أضرار اقتصادية ولوجستية كبيرة. لقد ألحقت هذه الضربات خسائر تُقدر بمليارات الدولارات، كما أدت إلى شل الحركة الجوية في بعض الأحيان، خاصة حول العاصمة موسكو، مما أثر على حركة المسافرين وقطاع الطيران المدني بشكل واسع، وتسبب في فوضى وتشويش كبيرين.

لقد أدت هجمات الطائرات المسيرة الأوكرانية إلى شل عمل ثمانية مطارات روسية دفعة واحدة، بما في ذلك مينيرالني فودي، فلاديكافكاز، غروزني، ماغاس، نالتشيك، ستافروبول، سوتشي، وتامبوف، حيث تم حظر جميع عمليات الإقلاع والهبوط مؤقتاً. وقد أفضى ذلك إلى تأخير وإلغاء عشرات الرحلات الجوية، مما خلق فوضى عارمة في مطارات موسكو والمطارات الأخرى المتضررة، حيث علق آلاف المسافرين لساعات طويلة في صالات الانتظار والمدرجات، مع تأخيرات واسعة النطاق وإلغاء مفاجئ للرحلات الجوية المدنية. وقد تسببت هذه الاضطرابات في خسائر اقتصادية فادحة لقطاع الطيران الروسي، تمثلت في تكاليف تعويض المسافرين، وتكاليف تشغيلية إضافية لشركات الطيران، بالإضافة إلى تآكل الثقة في أمان السفر الجوي داخل روسيا.

يؤكد الخبراء العسكريون والأمنيون أن تأمين المطارات الروسية بشكل فعال ضد الطائرات بدون طيار قد يستغرق عاماً كاملاً من العمل المتواصل واستثمارات ضخمة، مما يعكس حجم التحدي التقني واللوجستي الهائل في مواجهة هذا التهديد المتطور. لا يقتصر هذا التحدي على تأمين المواقع والبنية التحتية الثابتة، بل يمتد إلى تطوير أنظمة دفاع جوي فعالة قادرة على التصدي للطائرات بدون طيار الصغيرة، والسريعة، والمنخفضة الارتفاع، والمتعددة التي يصعب رصدها واعتراضها. تهدف هذه الاستراتيجية الأوكرانية، التي تعتمد على استهداف البنية التحتية الحيوية في العمق الروسي، إلى إظهار قدراتها المتزايدة في تطوير واستخدام الطائرات بدون طيار بعيدة المدى بشكل فعال. كما تسعى إلى زيادة الضغط على روسيا من الداخل لإجبارها على إعادة توجيه مواردها الدفاعية المحدودة بعيداً عن الجبهات القتالية الرئيسية لحماية أراضيها المدنية والعسكرية، والتأثير على معنويات المواطنين من خلال إظهار ضعف الدفاعات الجوية الروسية وقدرة أوكرانيا على الوصول إلى عمق الأراضي الروسية، مما قد يثير تساؤلات جدية حول فعالية القيادة والدفاعات الحالية وقدرة الكرملين على حماية أمن مواطنيه.

أوكرانيا: قلب التحول الجيوسياسي ومختبر “عقيدة ترامب” الجديدة

تُشكل الهجمات الأوكرانية بالطائرات بدون طيار على العمق الروسي عبئاً اقتصادياً متزايداً ومتعدد الأوجه على موسكو، وتتجاوز تأثيراتها الأبعاد الاقتصادية لتصل إلى عمق الاستقرار السياسي والاجتماعي داخل روسيا، مما قد يؤدي إلى تداعيات استراتيجية طويلة المدى على شرعية النظام وقوته. يمكن تقسيم هذه التكاليف إلى فئات رئيسية تحدد حجم الضرر:

  • الأضرار المباشرة للبنية التحتية والمنشآت: في قطاع الطاقة، يُعد استهداف مصافي النفط ومستودعاته من أكثر الهجمات تكلفة وضرراً، حيث تُقدر خسائر كل ضربة مباشرة على منشأة طاقة روسية بين 50 و100 مليون دولار أمريكي، دون احتساب التكاليف غير المباشرة. تشمل هذه الخسائر تكاليف الإصلاح الباهظة، وتلف المنتجات النفطية، وتوقف التشغيل، مما يؤثر على إمدادات الوقود للسوق المحلي والتصدير. أما المنشآت الصناعية العسكرية، فإن استهداف مصانع البارود والمواد الكيميائية يُلحق أضراراً بالغة بالقدرة الإنتاجية العسكرية الروسية، حيث تنتج هذه المصانع مكونات حيوية للذخائر والمتفجرات. تُقاس الخسائر هنا ليس فقط بتكلفة إعادة البناء أو إصلاح المعدات، بل أيضاً بتأثيرها على سلسلة التوريد العسكرية الروسية بأكملها، مما يؤدي إلى تأخر حتمي في إنتاج الأسلحة والذخائر الضرورية للحرب. قد تُقدر الخسائر بمليارات الدولارات، خاصة عند الأخذ في الاعتبار القيمة الاستراتيجية للمنتجات المتضررة، وتأثير ذلك على قدرة روسيا على الاستمرار في القتال بكثافة. وفيما يخص البنية التحتية للنقل (السكك الحديدية والمطارات)، فإن شل حركة السكك الحديدية يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة تتمثل في تأخر الشحنات المدنية والعسكرية، وزيادة تكاليف النقل البديل، وتعطيل سلاسل الإمداد التي تغذي الاقتصاد والجيش. أما بالنسبة للمطارات، فإن إغلاق المجال الجوي المتكرر فوق موسكو والمناطق الأخرى يُكبد شركات الطيران الروسية خسائر فادحة جراء إلغاء الرحلات وتأخرها، بالإضافة إلى تآكل الثقة في أمان السفر الجوي. وتتطلب استثمارات ضخمة في أنظمة الدفاع الجوي والتحديثات الأمنية لتأمين المطارات، مما يزيد من العبء الاقتصادي.
  • الخسائر غير المباشرة والتكاليف الخفية: تتجاوز هذه الخسائر بكثير الأضرار المباشرة، حيث تُقدر بمئات الملايين من الدولارات كحد أدنى لكل هجوم. فتعطل مصفاة أو خط أنابيب يؤثر على عقود التوريد المحلية والدولية، وقد يؤدي إلى دفع غرامات تأخير ضخمة أو فقدان عملاء دائمين. وتؤدي الهجمات المتكررة إلى زيادة حالة عدم اليقين لدى المستثمرين، مما يثبط الاستثمار في البنية التحتية والقطاعات الحيوية، ويؤثر سلباً على النمو الاقتصادي على المدى الطويل. كما تُجبر روسيا على تخصيص موارد مالية وبشرية إضافية ضخمة لتعزيز دفاعاتها الجوية حول المواقع الاستراتيجية المكشوفة، وهذا يشمل نشر أنظمة دفاع جديدة باهظة الثمن، وتحديث الأنظمة القديمة، وزيادة الدوريات الجوية وتكاليف الوقود والطواقم. كل هذه التكاليف تُخصم من ميزانيات أخرى ضرورية للقطاعات المدنية أو الرفاه الاجتماعي، مما يزيد من الضغوط على الموازنة العامة. تتطلب حماية المنشآت الحيوية زيادة في أفراد الأمن وفرض إجراءات أمنية مشددة تعيق العمليات العادية وتزيد من البيروقراطية، مما يؤدي إلى زيادة التكاليف التشغيلية ونقص محتمل في العمالة. علاوة على ذلك، قد ترتفع تكاليف التأمين على المنشآت الحيوية بشكل كبير، أو قد تصبح بعضها غير مؤمن عليه بسبب ارتفاع المخاطر، مما يزيد من المخاطر المالية على الشركات والحكومة في حال وقوع هجمات مستقبلية ويدفع المستثمرين للابتعاد.

الخسائر العسكرية المادية المباشرة: ضربة موجعة للقدرات الاستراتيجية

تفضل، إليك صياغة محسنة للفقرة مع إزالة التكرار وتحسين الانسيابية:

تشير التقديرات الأوكرانية وبعض مراكز الدراسات البحثية العالمية إلى أن خسائر الطيران الاستراتيجي الروسي، جراء هجمات الطائرات المسيرة (ضمن عملية “شبكة العنكبوت”)، بلغت حوالي 7 مليارات دولار أمريكي. تشمل هذه الخسائر تدمير أو إلحاق أضرار جسيمة بقاذفات استراتيجية باهظة الثمن من طراز “تو-95” و”تو-22M3″، بالإضافة إلى طائرات الرصد الراداري الجوي من طراز آن-50. تُعد هذه الأصول نادرة ومكلفة للغاية، حيث قد يصل سعر الطائرة الواحدة إلى 500 مليون دولار. تزداد هذه الخسائر فداحة نظراً لصعوبة استبدال أو إصلاح هذه الطائرات؛ فقد فقدت روسيا قدرتها على إنتاجها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تقم بتصنيع أي طائرة جديدة من هذه الفئة منذ ذلك الحين. وفوق ذلك، تحد العقوبات الدولية المشددة حالياً من وصول روسيا إلى التكنولوجيا والمكونات الغربية اللازمة لإعادة بناء هذه القدرات المعقدة، مما يؤثر بشكل مباشر وعميق على قدرات روسيا العسكرية.

تداعيات نفسية وأمنية واقتصادية على الداخل الروسي

لم تعد روسيا بمنأى عن تداعيات الحرب؛ فالهجمات الأخيرة على سوتشي تُبرهن على ذلك بوضوح. لقد طالت الهجمات مستودعات النفط وجسور السكك الحديدية، مما أدى إلى تعطيل كبير في الحركة الجوية والبحرية، ويُحدث ارتباكًا واسعًا. تُظهر ردود فعل السكان الروس حالة من الذعر والارتباك، حيث بدأوا يُدركون أن الحرب لم تعد “بعيدة” عنهم، بل وصلت إلى مدنهم ومنتجعاتهم. إن استخدام بعض الصواريخ الدفاعية الروسية لأغراض “خاطئة” وسقوطها على مناطق سكنية، يُثير تساؤلات حول كفاءة الدفاعات الجوية الروسية ويُعمق الشعور بعدم الأمان. حتى المنتجعات الفاخرة مثل سوتشي، التي كانت تُعد ملاذًا آمنًا للنخبة الروسية، لم تعد كذلك؛ فقد تسببت الهجمات في إلغاء الرحلات السياحية وتراجع الإقبال، بل ووردت أنباء عن تغيير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لخطط عطلته، مما يُشير إلى انهيار مفهوم “العمق الآمن” داخل روسيا، ويُعد هذا ضربة نفسية ومعنوية تُؤثر على الشرعية الداخلية للنظام. تُشير تقديرات تحليلية إلى أن الخسائر الروسية من القتلى وصلت إلى 250 ألفًا، والجرحى تجاوز عددهم 750 الفا، أو تجاوزتها بنهاية يونيو الماضي، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المفقودين. تُعاني القوات الروسية من مشكلات في معداتها، وتعتمد بشكل متزايد على دبابات أقدم. وقد ربط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الإجراءات الروسية بالخوف المتزايد من استراتيجية أوكرانيا بعيدة المدى، مؤكدًا أن روسيا “تخاف” و”لا تستطيع السيطرة على الحرب”. تُعد الهجمات الأوكرانية في عمق روسيا ضربات نفسية تحطم وهم السيطرة والأمن الذي يوفره نظام بوتين.

التمييز الأخلاقي والاستراتيجي في مسار الصراع: هجمات أوكرانيا مقابل روسيا

يُظهر استعراض العمليات العسكرية اختلافاً جوهرياً في طبيعتها بين الجانبين؛ ففي حين تستهدف الطائرات المسيرة الأوكرانية حصرياً الأهداف العسكرية والبنية التحتية الحيوية المرتبطة بالمجهود الحربي الروسي في العمق، تواصل روسيا منهجية استهداف المناطق المدنية والمنازل السكنية في أوكرانيا. ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة الصادرة مؤخراً في 20 يونيو 2025، فقد أسفر هذا القصف عن مقتل ما لا يقل عن 13,438 مدنياً، بينهم 713 طفلاً، منذ بدء الغزو الروسي الشامل في فبراير 2022. يتضح ذلك جلياً من خلال استهدافها المتكرر للمنشآت المدنية الحيوية، بما في ذلك المدارس والمشافي والأسواق، وكذلك التراث التاريخي والثقافي مثل قصف سوق بريفوز التاريخي في أوديسا.

على سبيل المثال، تعرضت المدارس لهجمات مباشرة؛ ففي 11 مارس 2022، استهدف الجيش الروسي مدرسة داخلية تضم أطفالاً من ذوي الإعاقة في منطقة أوسكيلسكا التابعة لمدينة خاركيف. وفي 21 يوليو 2025، أدى قصف روسي استهدف العاصمة الأوكرانية كييف إلى مقتل شخص واشتعال النيران في متجر ومدرسة.

أما المشافي، فقد كانت هدفاً متكرراً أيضاً؛ حيث أعلنت وزارة الصحة الأوكرانية أن القوات الروسية دمرت 7 مستشفيات منذ بداية الحرب، من بينها مستشفى الولادة في ماريوبول ومستشفى مركزي في بلدة فوهليدار، الذي أصيب بصاروخ باليستي يحمل ذخيرة عنقودية في 24 فبراير 2022، مما أسفر عن مقتل وإصابة العديد من المدنيين والعاملين في الرعاية الصحية. وفي 9 يوليو 2024، وصفت مسؤولة أممية استهداف المستشفيات في أوكرانيا بأنه “جريمة حرب” بعد سلسلة هجمات مميتة، بما في ذلك المستشفى الرئيسي للأطفال في كييف الذي تعرض لأضرار جسيمة.

إضافة إلى ذلك، يُعد الهجوم الذي شنته الطائرات الروسية في 24 يوليو على منطقة شيفتشينكيفسكي في خاركيف خير دليل على هذا النهج، حيث استخدمت قنبلتين جويتين موجهتين من طراز OMPB-5، أُطلقتا من مسافة 100 كيلومتر. سقطت إحداهما على منشأة مدنية، بينما أصابت الأخرى منطقة قريبة من مبنى سكني متعدد الطوابق، مما أسفر عن احتراق سيارات متوقفة وإصابة 42 شخصاً، بينهم ستة أطفال واثنان منهم رضيعان. تُعد هذه القنابل الجديدة أكثر قوة وخطورة من سابقاتها، بحمولة 250 كيلوغراماً من المتفجرات ومصنوعة من معدن أكثر سمكاً، مما يزيد من احتمالية الإصابات المدنية. إن هذا الهجوم يمثل أول استخدام قتالي موثق لهذه القنابل المتطورة ضد هدف مدني، مؤكداً استراتيجية روسيا في استهداف المدنيين.

يوضح التحليل أن روسيا تتبع تكتيكات “آكلة لحوم البشر” (cannibalistic tactics) عبر استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية بشكل متعمد، بهدف إرهاق أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية وإجبارها على نشر مواردها في مناطق عشوائية بدلاً من تركيزها على الأهداف العسكرية. هذا التكتيك، على الرغم من فعاليته في إحداث الفوضى وتدمير البنية التحتية، يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين ويُعد انتهاكاً صارخاً للقوانين والمعايير الدولية للحرب.

في المقابل، تُظهر أوكرانيا التزاماً راسخاً بالمعايير الدولية للحرب من خلال عدم استهداف المدنيين الروس أو البنية التحتية المدنية. فعندما يضطر المدنيون الروس للبحث عن ملجأ في الفنادق أثناء الهجمات الأوكرانية، فإنهم يكونون في أمان نسبي، على عكس المدنيين الأوكرانيين الذين يتعرضون لهجمات روسية تستهدف الفنادق والمباني السكنية بشكل مباشر ومتعمد. هذا التباين يؤكد أن أوكرانيا، على الرغم من كونها ضحية للعدوان، تواصل القتال دفاعاً عن النفس مع التزام مطلق بالمعايير الأخلاقية والقانونية، بينما تواصل روسيا انتهاك هذه المعايير. وفي صباح يوم 26 يوليو، شنت موسكو هجوماً انتقامياً بإطلاق عشرات الصواريخ وطائرات شاهد المسيرة على مناطق سلمية في أوكرانيا، مدعية أن ذلك رد على محاولات أوكرانيا لزعزعة الاستقرار في العمق الروسي. ومع ذلك، اعترضت الدفاعات الجوية الأوكرانية نسبة كبيرة من هذه الصواريخ والطائرات المسيرة، مما يُظهر فعالية تزيد عن 80% في التصدي لهذه الاعتداءات.

حرب الاستنزاف المتغيرة ودلالات التحول الاستراتيجي

تُشكل التطورات الأخيرة في ساحة الصراع، وما كشفته من قدرات جديدة لكلا الجانبين، مرحلة مفصلية في حرب الاستنزاف، تجاوزت فيها قواعد المواجهة التقليدية المتمثلة في السيطرة الميدانية على الأراضي. لم يعد المقياس الفارق يقتصر على خطوط الجبهة، بل امتد ليُقاس بالقدرة على إلحاق خسائر اقتصادية وعسكرية مستمرة في العمق الاستراتيجي للخصم.

تُشير تقديرات تحليلية إلى أن الخسائر البشرية الروسية قد بلغت ما لا يقل عن 250 ألف قتيل، وتجاوز عدد الجرحى 750 ألفاً بحلول نهاية يونيو الماضي، يضاف إليهم عشرات الآلاف من المفقودين. وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في 10 يوليو 2025 بأن ما يقارب 100 ألف جندي روسي قد قُتلوا خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025 وحده، مشدداً على أن هذه الأرقام تشمل القتلى وليس الجرحى.

تُظهر أوكرانيا تفوقاً ملحوظاً في الابتكار التكنولوجي، لا سيما في توظيف الطائرات المسيرة والأسلحة الدقيقة. هذا الإبداع مكنها من استهداف أصول روسية عالية القيمة، كالمطارات الاستراتيجية، الأسطول البحري، البنية التحتية للطاقة، والمجمعات الصناعية العسكرية، بتكاليف منخفضة نسبياً. هذه الضربات الدقيقة، التي تندرج ضمن عمليات استنزاف ممنهجة، تُجبر روسيا على إعادة توجيه مواردها الدفاعية الهائلة نحو حماية عمقها، مما يزيد من الضغط على ميزانيتها ويُقلل من فعاليتها على الجبهات الرئيسية.

علاوة على ذلك، تُبرز هذه الهجمات الانكشاف الأمني الروسي المتزايد، وتُحدث تداعيات اقتصادية وخيمة، ليس فقط عبر الأضرار المباشرة للمنشآت، بل أيضاً من خلال التكاليف غير المباشرة التي تُعيق الاستثمار وتُرهق الموازنة العامة. الأهم من ذلك، أن تمدد ساحة المعركة إلى العمق الروسي، وتأثر المدن والمرافق الحيوية، يُلقي بظلاله على الأمن الداخلي ويُقوض ثقة المواطنين في قدرة النظام على حمايتهم، مما يُثير تساؤلات جدية حول الشرعية والاستقرار.

في المقابل، يتجلى التمييز الأخلاقي الواضح بين الجانبين؛ فبينما تُركز أوكرانيا جهودها على الأهداف العسكرية ذات الصلة بالمجهود الحربي، تُمعن روسيا في استهداف المناطق المدنية والمنازل السكنية والمشافي والمدارس، مما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين الأوكرانيين، في انتهاك صارخ للقوانين والمعايير الدولية للحرب.

خلاصة القول، إن هذه المرحلة الجديدة تُشير إلى تحول استراتيجي عميق يُعيد تعريف قواعد الصراع بأكملها. إنها حرب استنزاف تكنولوجية تهدف إلى إضعاف قدرة موسكو على فرض إرادتها، وتُلقي بعبء ثقيل على الداخل الروسي، مما قد يُمهد لتغييرات جوهرية في ديناميكيات الصراع ونتائجه المحتملة على المدى الطويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *