أوكرانيا: قلب التحول الجيوسياسي ومختبر “عقيدة ترامب” الجديدة
د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية
18\7\2025
تجاوزت الحرب الروسية على أوكرانيا كونها “نزاعًا إقليميًا” لتصبح ساحة مركزية تتشكل على أرضها ملامح النظام العالمي الجديد. في هذا السياق المعقد، تتسارع وتيرة الدعم الدولي لكييف، متأثرةً بديناميكيات القوة المتغيرة والمصالح الاستراتيجية المتشابكة للقوى الكبرى. وبينما تسعى العواصم الغربية إلى تحقيق توازن دقيق بين تمكين أوكرانيا عسكريًا وتجنب التصعيد المباشر، يتصاعد في المقابل التحدي الذي يفرضه المحور المتنامي بين روسيا والصين، والذي يهدف إلى إعادة تشكيل موازين القوى العالمية.
اطلع على المقال التالي:
تصعيد أوكرانيا في العمق الروسي: الأسلحة بعيدة المدى وتأثير “عقيدة ترامب”
تُمثل الأسلحة بعيدة المدى حجر الزاوية في استراتيجية أوكرانيا لتقويض القدرة العملياتية الروسية، من خلال استهداف خطوط الإمداد الحيوية، والمخازن الاستراتيجية، ومراكز القيادة في عمق الأراضي المحتلة، وصولًا إلى العمق الروسي ذاته. لقد أثبتت أوكرانيا، باستخدام صواريخ مثل نبتون محلية الصنع، قدرتها على تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف استراتيجية.
وتشير التكتيكات الهجومية إلى تحول نوعي في القدرات الأوكرانية؛ فمثلاً، شهد إقليم كورسك الروسي استهدافًا دقيقًا لمقر قيادة روسي متقدم باستخدام قنابل غربية موجهة بدقة عالية، ما أسفر عن خسائر فادحة في صفوف القيادات والكوادر العسكرية الروسية، وعطّل بشكل كبير العمليات اللوجستية والتحكم والسيطرة في تلك المنطقة. وفي إقليم سومي، استخدمت القوات الأوكرانية تكتيكات متطورة لـحصار الوحدات الروسية، معتمدةً على مزيج من الضربات النارية الدقيقة التي تمنع الإمدادات والتعزيزات، إلى جانب المناورات التكتيكية التي أدت إلى عزل القوات الروسية وإجبارها على التراجع أو الاستسلام. هذه العمليات النوعية تعكس ليس فقط وصول أسلحة غربية متطورة إلى كييف، بل أيضًا قدرة الجيش الأوكراني على دمجها بفاعلية ضمن استراتيجيات هجومية معقدة ومباغتة.
وقد شهد عام 2025 تصاعدًا ملحوظًا في قدرة أوكرانيا على تنفيذ ضربات في العمق الروسي، مستهدفةً بنية تحتية عسكرية واقتصادية حيوية. هذه العمليات، التي نُفذت بشكل رئيسي بواسطة الطائرات المسيرة وصواريخ بعيدة المدى، هدفت إلى تقويض القدرة اللوجستية والعسكرية لروسيا، وفرض تكلفة باهظة على الكرملين. وتجلت هذه العمليات في استهداف محطات تكرير النفط، حيث كانت مصافي النفط الروسية هدفًا رئيسيًا لعدة هجمات أوكرانية مركزة: ففي 14 يناير 2025، هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية مستودع النفط “كريستال” في “إنجلز” بمقاطعة ساراتوف. يُعد هذا المستودع منشأة حيوية تمد قاعدة “إنجلز-“2 الجوية، التي تستضيف قاذفات روسيا الاستراتيجية، بالوقود اللازم لعملياتها الجوية بعيدة المدى، وقد ألحق الهجوم أضرارًا جسيمة بالمستودع، ما أثر على قدرة القاذفات الاستراتيجية الروسية على العمل بكامل طاقتها. وفي 16 يناير 2025، تم استهداف مستودع النفط “ليسكينسكايا” في منطقة فورونيج، ما تسبب في أضرار كبيرة وتدمير حوالي 800 ألف طن من وقود الطائرات. تلا ذلك في 17 يناير 2025 استهداف طائرات مسيرة أوكرانية لمستودع النفط “ليودينوفو” في منطقة “كالوغا”، ثم في 18 يناير 2025، تم ضرب مستودع النفط “8 آذار” قرب مدينة “أوزلوفا”، الذي يحتوي على 58 خزانًا للمنتجات البترولية. وشملت العمليات في 24 و26 يناير 2025 استهداف مصفاة “ريازان” لتكرير النفط، وهي إحدى أكبر مصافي روسيا وتبعد حوالي 500 كيلومتر عن خطوط الجبهة، ما أدى إلى إغلاقها وتسبب في أضرار إضافية. وفي 29 يناير 2025، تعرضت مصفاة “كستوفو” لتكرير النفط في منطقة “نيجني نوفغورود” للقصف أيضا. وفي 30 يناير 2025، تم استهداف محطة ضخ النفط “نوفوزبيكوم”، وهي جزء حيوي من خط أنابيب “دروجبا”، ومحطة ضخ “أندريابول” على نظام خط أنابيب البلطيق-2، ما أدى إلى توقف صادرات النفط المنقول بحراً. واستمر الاستهداف في 3 فبراير 2025 بضربات منسقة بطائرات مسيرة استهدفت البنية التحتية للطاقة الروسية، بما في ذلك مصفاة “لوك أويل” في “فولغوغراد” ومحطة “أستراخان” لمعالجة الغاز. وخلال فبراير 2025، تم ضرب 17 منشأة نفطية روسية على الأقل، بما في ذلك مصافي “سيبور-كستوفو” للبتروكيماويات و”روسنفت” في سمولينسك، مما أدى إلى تعطيل حوالي 10% من قدرة روسيا لتكرير النفط. وفي 4 مارس 2025، نفذت هجمات بطائرات مسيرة على منشأتين نفطيتين في منطقتي “روستوف” و “سامارا”، إحداهما مصفاة “سيزران” الصناعية.
بالتوازي مع استهداف البنية التحتية النفطية، ركزت أوكرانيا على استهداف المطارات والقواعد العسكرية الروسية، بما في ذلك مطارات القرم العسكرية التي تستضيف قاذفات استراتيجية روسية والتي تعرضت لضربات متكررة. ففي 1 يونيو 2025، وفي ما عُرف بـ”عملية شبكة العنكبوت”، نفذ جهاز الأمن الأوكراني سلسلة واسعة النطاق ومتزامنة من ضربات الطائرات المسيرة ضد أربع قواعد جوية روسية، بما في ذلك قاعدة “بيلايا” الجوية في “إيركوتسك”، وقاعدة “أولينيا” الجوية في مقاطعة “مورمانسك”، وقواعد أخرى. وقد أعلنت أوكرانيا عن تدمير أو اعطاب أكثر من 40 طائرة عسكرية روسية، أي نحو 35% من القدرات الجوية الاستراتيجية الروسية، بما فيها طائرتين من طراز А-50 للرصد الراداري الجوي البعيد، وقاذفات استراتيجية بعيدة المدى، مما قلص بشكل كبير قدرة روسيا على شن هجمات صاروخية بعيدة المدى. التقديرات الاستخباراتية تشير إلى 7 مليارات دولار خسائر الطيران الاستراتيجي. وفي يوليو 2025، استهدفت موجة من هجمات الطائرات المسيرة بعيدة المدى مواقع عسكرية في ست مناطق روسية في ليلة واحدة، بما في ذلك مصنع “إيجيفسك” للدفاع (الضروري لإنتاج صواريخ كروز)، وأدى ذلك إلى إغلاق مطار “شيريميتيفو” في موسكو لساعات طويلة، وتسببت هذه الضربات في تعليق الرحلات الجوية في مطارات مدنية أخرى بساراتوف وسامارا وأوليانوفسك و خسائر مالية كبيرة. وفي نفس الشهر، استهدف تصعيد استراتيجي آخر قلب الصناعة العسكرية الروسية، بما في ذلك مصنع “لوخوفيتسي” للطائرات، ومصنع “كرونشتادت” للطائرات المسيرة، ومصنع “شيغلوفسكي فال” للدفاع الجوي، ومنشأة “رادكينسكي” لبحوث الوقود، بهدف تفكيك قدرة روسيا على الاستمرار في العمليات القتالية.
كان لهذه الضربات الأوكرانية في العمق الروسي تأثيرات متعددة على القوات الروسية: فقد تسببت في ضغط اقتصادي كبير، حيث أدت الهجمات المتواصلة على مصافي النفط إلى تعطيل جزء كبير من قدرة التكرير الروسية، مما أثّر على إمدادات الوقود للقوات وضغط على إيرادات الدولة من صادرات الطاقة. وقد أعلنت روسيا تمديد حظر تصدير الوقود حتى نهاية صيف 2025. كما أدت إلى تقويض القدرات الجوية، خاصة عملية “شبكة العنكبوت”، التي دمرت أو ألحقت أضراراً جسيمة بعدد كبير من الطائرات العسكرية الروسية، بما في ذلك القاذفات الاستراتيجية، مما قلص قدرة روسيا على تنفيذ ضربات جوية بعيدة المدى ويُجبرها على مراجعة مفاهيم الحماية والدفاع الجوي. وأدت هذه الضربات الى زعزعة الثقة الداخلية، حيث أثارت موجة غضب وانتقادات داخل أوساط المدونين العسكريين الروس، وكشفت عن ثغرات منهجية في الدفاع عن القواعد الجوية الاستراتيجية، مما أدى إلى دعوات لمراجعة جذرية لمفاهيم الحماية والردع. كما أسهمت في تغيير الديناميكيات اللوجستية، فاستهداف خطوط الأنابيب والمستودعات يعرقل سلاسل الإمداد الروسية، مما يؤثر على قدرة القوات على الأرض في الحصول على الذخائر والوقود. وأخيرًا، كان لها تأثير نفسي وسياسي، حيث فرضت الضربات المتزايدة في العمق الروسي، حتى على المدن الكبرى، حالة من القلق بين المدنيين الروس، وأظهرت أن الكرملين لم يعد قادرًا على حماية جميع أراضيه، مما يضع ضغطًا سياسيًا داخليًا.
لطالما كانت مسألة استهداف المدن الروسية، كموسكو وسانت بطرسبرغ، نقطة حساسة في النقاشات الدولية، إذ كانت القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الغربية في مثل هذه الهجمات تنبع من مخاوف التصعيد. بيد أن موقف الرئيس ترامب شهد تحولًا لافتًا في البداية؛ ففي هذا السياق المتغير، كشفت نقاشات بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وترامب عن تأكيد كييف قدرتها على ضرب موسكو بالأسلحة بعيدة المدى. الأبعد من ذلك، ذهب ترامب إلى مطالبة زيلينسكي بـ”تكثيف الضربات داخل روسيا”، متسائلاً علنًا عن سبب عدم استهداف المدن الروسية الحيوية. هذا التساؤل لم يكن مجرد استفهام عابر، بل تعبير عن سعي مباشر لإلحاق “الألم” بالكرملين ورفع تكلفة الصراع بشكل غير مسبوق، وهي فلسفة تنسجم تمامًا مع مبدأ ترامب المعروف “أمريكا أولًا”، حيث تهدف الخطة إلى تعزيز القدرات العسكرية لأوكرانيا بشكل هائل، مع تحويل العبء المالي لتمويل هذه المساعدات إلى الحلفاء الأوروبيين.
شهد موقف الرئيس ترامب، فيما يتعلق باستهداف المدن الروسية المأهولة بالسكان، تذبذبًا ملحوظًا وتراجعًا لاحقًا عن دعواته الأولية. ففي مرحلة سابقة، أشار إلى رفضه استهداف موسكو أو تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى، كصواريخ توماهوك أو تلك التي يبلغ مداها 800 كيلومتر، والتي يمكن استخدامها لضرب العاصمة الروسية بدقة. غير أنه أدلى لاحقًا بتصريحات أكثر حدة وغير مسبوقة، مفادها: “سأعطي توماهوك، اضربوا سانت بطرسبرغ، اضربوا موسكو”. لكن سرعان ما تراجع مرة أخرى حيث صرح لاحقًا: “الآن لن أعطي صواريخ بعيدة المدى، لا تضربوا موسكو”. يُعزي بعض المحللين هذا التراجع إلى مخاوف من تصعيد غير منضبط قد يخرج عن السيطرة، لا سيما في ضوء التهديدات الروسية المتكررة باللجوء إلى خيارات أكثر تدميرًا في حال استهداف المدن الكبرى بشكل مباشر، على الرغم من استهداف القوات الأوكرانية سابقا لمواقع في موسكو بواسطة الطائرات المسيرة اوكرانية الصنع. أيضا لعبت الضغوط الداخلية والدولية دورًا محوريًا في هذا التحول؛ فقد حذر العديد من المستشارين العسكريين والخبراء الدبلوماسيين من أن استهداف المدن الكبيرة سيُعتبر تجاوزًا لخطوط حمراء دولية، وقد يدفع روسيا إلى رد فعل غير متوقع، مما يعرض الأمن العالمي للخطر. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون تراجع ترامب نابعًا من إعادة تقييم للمكاسب التكتيكية المحتملة مقابل المخاطر الجيوسياسية الجسيمة، بهدف ممارسة أقصى ضغط عسكري على روسيا دون التورط في سيناريو تصعيدي قد يضر بالمصالح الأمريكية على المدى الطويل.
آفاق التسليح المتقدمة والعقبات اللوجستية
تُعتبر الصواريخ بعيدة المدى حاسمة لقدرة أوكرانيا على ضرب أهداف استراتيجية في عمق روسيا. من المتوقع أن تصل الحزمة الجديدة من الأسلحة، التي تُقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، إلى أوكرانيا خلال أيام. الأهم من ذلك، أن هذه الحزمة قد تتضمن صواريخ هجومية متطورة مثل صواريخ JASSM الأمريكية، التي يصل مداها إلى 350 كيلومترًا، مما يمكن أوكرانيا من تدمير البنية التحتية العسكرية والاقتصادية الروسية التي تساهم بشكل كبير في الدعم اللوجستي للقوات التي تقاتل على الجبهة. النسخة المطورة JASSM-ER يمكنها الوصول إلى أهداف تبعد 1000 كيلومتر، مما يمكن أن يضع العاصمة الروسية موسكو ضمن نطاق التهديد المباشر، لكن من المستبعد تزويد أوكرانيا بها. كما سمح باستخدام 18 صاروخ ATACMS الموجودة بالفعل في أوكرانيا لضرب أي أهداف في روسيا، بما في ذلك الأراضي الروسية ذاتها، ما يمثل تصعيدًا نوعيًا في استخدام الأسلحة الغربية. هذه الأسلحة المتقدمة، المُمولة جزئيًا عبر شراء الحلفاء الأوروبيين للمعدات الأمريكية لتجديد مخزوناتهم وتزويد أوكرانيا بها، ستعزز بشكل كبير قدرة أوكرانيا على الدفاع وشن هجمات مضادة فعالة في مواجهة الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. وقد أُعلن عن اتفاق استراتيجي بين الناتو والولايات المتحدة بشأن توريد الأسلحة لأوكرانيا، يمثل إطارًا جديدًا للدعم العسكري، يهدف إلى تسريع وتيرة الإمدادات وضمان استدامتها على المدى الطويل من خلال تصنيع المعدات الجديدة خصيصًا لحلف الناتو ثم إتاحتها لأوكرانيا. وتجدر الإشارة إلى أن مجموعة من الدول، من ضمنها ألمانيا والنرويج، ستساهم في تمويل حزمة المساعدات العسكرية البالغة 10 مليارات دولار.
بيد أن تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك (Tomahawk)، التي يصل مداها إلى 1500 كيلومتر وقادرة على إحداث دمار هائل والتي تم تداول معلومات حول إمكانية تزويد أوكرانيا بها، يواجه عقبات رئيسية: أهمها ان صواريخ توماهوك تعتمد بشكل أساسي على الإطلاق من السفن والغواصات أو القاذفات الجوية الاستراتيجية، وأوكرانيا تفتقر إلى هذه المنصات اللازمة، مما يجعل دمجها صعبًا لوجستيًا وتشغيليًا. بالإضافة الى ذللاك فقد أبدى بعض المسؤولين الأمريكيين تحفظات، مشيرين إلى أن كم الصواريخ المطلوبة قد يتجاوز القدرات المتاحة للجيش الأمريكي دون التأثير على مصالحه الاستراتيجية في مناطق أخرى.
الابتكار الدفاعي المحلي في أوكرانيا: الطائرات المسيرة ذات الذكاء الاصطناعي كعنصر حاسم في المعادلة العسكرية
لم يقتصر الدعم لأوكرانيا في مواجهة العدوان المستمر على المساعدات الخارجية الحيوية فحسب، بل امتد ليشمل تطوير القدرات الدفاعية المحلية، إيمانًا بأن الاعتماد على الذات في الابتكار يمثل ركيزة أساسية للصمود طويل الأمد. في طليعة هذه الجهود، برز قطاع الطائرات المسيرة (الدرونز)، الذي أضحى ميدانًا حيويًا للتفوق التكنولوجي في الحرب الحديثة.
تُعد الطائرات المسيرة من طراز FPV (First Person View)، المجهزة بقدرات متقدمة للذكاء الاصطناعي، نقطة تحول محتملة في ساحة المعركة الأوكرانية، بل وفي طبيعة الصراعات المستقبلية عمومًا. إن هذه التقنية لا تمثل مجرد تطور بسيط، بل هي قفزة نوعية تعزز بشكل جذري من فعالية هذه الطائرات. فالذكاء الاصطناعي يمنح هذه المسيرات القدرة على تحديد الهدف بشكل مستقل، والتعرف عليه بدقة فائقة، ومتابعته، وفي بعض الحالات، تنفيذ المهمة الموكلة إليها بتقليل الاعتماد على التحكم البشري المباشر. هذا التخفيف من العبء المعرفي على المشغل البشري لا يقتصر على تعزيز الدقة والفعالية في الاستهداف فحسب، بل يقلل أيضًا من زمن رد الفعل، ويجعل هذه الطائرات أقل عرضة للتشويش الإلكتروني الذي يستهدف إشارات التحكم البشرية.
تُشير التوقعات العسكرية والاستراتيجية إلى أن معدل نجاح هذه الطائرات، إذا استُخدمت بكميات كبيرة وعلى نطاق واسع، قد يتجاوز بكثير معدل نجاح الطائرات المسيرة التقليدية التي تعتمد كليًا على التوجيه البشري المستمر. هذه القدرة المستقلة والفعالية المتزايدة يمكن أن تُحدث “تغييرًا جذريًا” في طبيعة العمليات الهجومية المستقبلية، حيث يمكن لهذه المسيرات تنفيذ ضربات دقيقة، أو العمل في أسراب (Swarming tactics) لإرباك الدفاعات المعادية وإغراقها، مما يشكل تحديًا غير مسبوقًا للقوات الروسية التي قد تعتمد على أنظمة دفاع جوي مصممة للتعامل مع تهديدات أقل تعقيدًا.
يُظهر هذا التطور إدراكًا أوكرانيًا عميقًا لأهمية التكنولوجيا المتقدمة في الحرب الحديثة، ويسلط الضوء على استراتيجية طموحة للاعتماد على الذات في تطوير حلول دفاعية مبتكرة. إن الاستثمار في هذه القدرات المحلية لا يضمن فقط تدفقًا مستمرًا للمعدات المتطورة، بل يقلل أيضًا من التبعية للمساعدات الخارجية، ويعزز القاعدة الصناعية الدفاعية الأوكرانية، ويشجع على الابتكار في زمن الحرب. هذا التوجه لا يمثل فقط استجابة لضرورات الحرب الراهنة، بل هو أيضًا استشراف لمستقبل الحروب، حيث ستلعب الأنظمة المستقلة والذكية دورًا مركزيًا متزايدًا.
الحزم الأوروبي: التزام شامل وتعزيز الدفاعات في مواجهة التهديد الروسي
يُظهر الاتحاد الأوروبي التزامًا قويًا ومتزايدًا بدعم أوكرانيا، يتجاوز المساعدات العسكرية المباشرة ليشمل الدعم المالي، السياسي، والأمني طويل الأمد. هذا الالتزام يأتي في ظل التحديات الجيوسياسية المتزايدة التي فرضتها الحرب، والتي أعادت تشكيل الأولويات الأمنية والدفاعية للقارة بأكملها. إن الحزم الأوروبي تجاه العدوان الروسي يتجلى في محاور متعددة، تسعى لتعزيز دفاعات القارة وتضييق الخناق على قدرة موسكو على الاستمرار في عدوانها.
ففي إطار سعيه المستمر لكبح جماح النفوذ الروسي وتقويض قدرته على زعزعة الاستقرار الإقليمي، وافق الاتحاد الأوروبي على عقوبات جديدة تستهدف شخصيات ومنظمات موالية لروسيا في مولدوفا. هذه الخطوة تأتي وسط اتهامات متزايدة لموسكو بمحاولة التأثير على الانتخابات القادمة في البلاد وزعزعة استقرارها، مما يستدعي استجابة أوروبية حازمة. تُعد هذه العقوبات جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى مواجهة التهديدات الهجينة الروسية، والتي تشمل التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وحملات التضليل، والضغوط الاقتصادية.
ولتعزيز فعالية العقوبات القائمة ومنع التهرب منها، يخطط الاتحاد الأوروبي لتبني “صلاحيات شاملة” تمنح مسؤولي الجمارك سلطة مصادرة البضائع المشتبه في وصولها إلى روسيا عبر دول ثالثة مثل كازاخستان أو تركيا. يضع هذا الإجراء عبء إثبات عدم وصول الشحنة إلى روسيا على عاتق المصدرين أنفسهم، في محاولة لإغلاق جميع الثغرات أمام التهرب من العقوبات وضمان أقصى قدر من الضغط الاقتصادي على موسكو.
وعلى الصعيد المالي، تُظهر المفوضية الأوروبية التزامًا ماليًا غير مسبوق، حيث تخطط لتخصيص أكثر من 80 مليار يورو لأوكرانيا من ميزانية الاتحاد الأوروبي، ابتداءً من عام 2028. هذا التخصيص الضخم يؤكد الالتزام طويل الأمد بدعم تعافي أوكرانيا وإعادة بنائها، ويتجاوز مجرد المساعدات الطارئة إلى شراكة استراتيجية في مسيرة التعافي.
في سياق تعزيز الأمن الإقليمي والدفاع عن الحدود الشرقية لأوروبا، دعت دول البلطيق، مدعومة بموقف أندريوس كوبيليوس، المفوض الأوروبي للدفاع والفضاء الليتواني، إلى إنشاء نظام دفاع مشترك يعتمد على الطائرات المسيرة على طول حدودها الشرقية مع روسيا، بهدف تعزيز المراقبة والردع في مواجهة التهديدات المتصاعدة. وفي سياق التحذيرات الجيوسياسية الأوسع، نشرت فرنسا مراجعة استراتيجية وطنية حذرت فيها صراحة من أن روسيا تشكل تهديدًا مباشرًا لأوروبا، وأن خطر نشوب حرب واسعة النطاق في القارة حقيقي في غضون خمس سنوات. أكدت المراجعة الفرنسية على ضرورة الاعتماد الأقل على الولايات المتحدة في الدفاع الأوروبي، مما يعكس تزايد الوعي بأهمية الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا في مواجهة التهديدات الأمنية.
كذلك تُناقش دول الاتحاد الأوروبي حاليًا بشكل جدي استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل حزمة أسلحة كبيرة لأوكرانيا، بقيمة 10 مليارات دولار، وهي خطة أعلن عنها في البداية الرئيس دونالد ترامب. تتضمن هذه الخطة المبتكرة استخدام أرباح ما يقرب من 200 مليار يورو من أصول البنك المركزي الروسي المجمدة للمساهمة في صندوق عسكري جديد لأوكرانيا. يُنظر إلى هذه الخطوة المحتملة كوسيلة لتمويل الأسلحة “من جيوب روسيا”، مما يعمق العقاب الاقتصادي ويُحمّل الطرف المعتدي جزءًا من تكلفة دفاع الضحية. وقد انضمت ثماني دول أعضاء في الناتو على الأقل إلى هذا المخطط، مما يعكس دعمًا واسعًا لهذه الفكرة.
في هذا الصدد، اقترح وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي أن تأتي مساهمة الاتحاد الأوروبي من أرباح الأصول الروسية المجمدة، أو مصادرتها بالكامل لتعظيم الاستفادة منها. وتُشير التقارير إلى أن بروكسل تُناقش حاليًا إنشاء صندوق احتياطي خاص بها لشراء الأسلحة باستخدام الأصول الروسية المصادرة، ما يُعد تطورًا نحو تعزيز الاستقلالية الأوروبية في مجال الدفاع وتأمين مصادر تمويل مستدامة لأوكرانيا. وقد أكد مارك روته أن الدول الأوروبية ستدفع ثمن شحنات الأسلحة الأمريكية الجديدة لأوكرانيا، مما يعكس التزامًا أوروبيًا مباشرًا وغير مسبوق بتحمل العبء المالي للدفاع عن القارة، ويتماشى مع الدعوات الأمريكية لتقاسم أعباء الدفاع.
لكن، على الرغم من هذا الحزم الظاهر، لا تزال هناك تحديات كبيرة في تمرير حزم العقوبات الأوروبية، حيث يُذكر أن مالطا كانت تعرقل الحزمة الثامنة عشرة، مما يسلط الضوء على آليات اتخاذ القرار المعقدة في الاتحاد الأوروبي وضرورة الإجماع. كما أن سلوفاكيا كان لديها اعتراضات قوية على التخلي عن الغاز الروسي بعد عام 2027، مما يعكس التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه بعض الدول الأعضاء في فك ارتباطها بالطاقة الروسية. وقد برز رفض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان تمويل الأسلحة لأوكرانيا، مما يسلط الضوء على الانقسامات الداخلية العميقة داخل الاتحاد الأوروبي والناتو بشأن سياسات الدعم تجاه كييف. وفي سياق دبلوماسي أوسع، دعا مارك روته الصين والهند والبرازيل إلى الضغط على بوتين من أجل هدنة، مما يعكس محاولة لحشد نفوذ القوى العالمية الكبرى.
تعميق الشراكة الاستراتيجية: الاتفاقية الدفاعية بين ألمانيا والمملكة المتحدة
شهدت العلاقات الدفاعية بين ألمانيا والمملكة المتحدة تعزيزاً لافتاً بتوقيع اتفاقية دفاعية شاملة. هذه الاتفاقية لا تعد مجرد ترتيبات شكلية، بل تمثل خطوة استراتيجية لتعميق التعاون العسكري بين البلدين، لا سيما في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا على القارة الأوروبية. تهدف الاتفاقية إلى بناء شراكة عسكرية أكثر تكاملاً وقوة، تشمل تبادل الخبرات، وتدريب القوات المشتركة، وتطوير القدرات الدفاعية المشتركة، مما يعزز من قابلية التشغيل البيني بين جيشي البلدين. هذا التكامل ضروري في مواجهة تعقيدات الحرب الحديثة، التي تتطلب استجابة منسقة وفعالة من حلفاء أقوياء.
أحد أبرز بنود الاتفاقية هو الالتزام بتوفير نظام جديد للصواريخ بعيدة المدى. هذه الإضافة تعكس رغبة البلدين في تعزيز قدراتهما الهجومية والدفاعية طويلة المدى، وهي قدرات أضحت حاسمة في ظل الحرب في أوكرانيا التي أبرزت أهمية الضربات الدقيقة والردع من مسافات آمنة. كما تُسهم الاتفاقية في تسهيل وتعزيز تصدير المعدات العسكرية المشتركة التي يتم تطويرها أو إنتاجها بين البلدين، مما يُشجع على التعاون الصناعي الدفاعي. هذا التوجه يعزز الاستقلالية الدفاعية الأوروبية ويقلل من الاعتماد على سلاسل الإمداد الخارجية، وهي نقطة حيوية أُثيرت في سياق حاجة أوكرانيا نفسها لتحالفات تكنولوجية لضمان إمدادات مستمرة ومتطورة.
في خطوة غير مسبوقة .. بريطانيا وألمانيا توقّعان اتفاقا دفاعيا
تُشكل هذه الاتفاقية دليلاً واضحاً على تزايد الوعي الأوروبي بضرورة تعزيز الدفاعات الذاتية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد أحدثت الحرب تحولاً جذرياً في التفكير الأمني الأوروبي، حيث لم يعد التهديد الروسي مجرد احتمال بعيد، بل أصبح واقعاً ملموساً يتطلب استجابة جماعية وحازمة. هذا الإدراك يتوافق مع التحذيرات الفرنسية من خطر نشوب حرب واسعة النطاق في القارة، وضرورة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع الأوروبي، وهو ما يعكس رغبة أوروبية متنامية في تحمل مسؤولية أمنها الخاص.
هذه الشراكة الألمانية-البريطانية تُعد جزءاً من موجة أوسع من التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية التي تشهدها أوروبا، إذ دفعت الحرب الأوروبيين إلى التفكير بجدية في قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم. هذه الاتفاقية، إلى جانب دعوات دول البلطيق لإنشاء نظام دفاع مشترك يعتمد على الطائرات المسيرة، تعكس هذا التوجه نحو بناء قدرات ردع ودفاع قوية ومستقلة، مع الحفاظ على الشراكة الأطلسية. كذلك تُعد هذه الشراكة بين اثنتين من أكبر القوى الاقتصادية والعسكرية في أوروبا الغربية بمثابة تعزيز للمحور الغربي داخل حلف الناتو، وتكمل الجهود الأوسع للاتحاد الأوروبي في تشديد العقوبات على روسيا وتوفير الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا. ومع تزايد الاتهامات لموسكو بمحاولة زعزعة استقرار دول مثل مولدوفا عبر التهديدات الهجينة، فإن تعميق التعاون الدفاعي يشمل أيضاً تبادل المعلومات والخبرات في مواجهة هذه التحديات غير التقليدية.
إن هذه الاتفاقية ليست مجرد وثيقة، بل هي تجسيد للتحول الجاري في المشهد الأمني الأوروبي. إنها تُبرهن على تصميم القوى الأوروبية الكبرى على مواجهة التهديد الروسي بشكل جماعي، وتعزيز قدراتها الدفاعية، وتأكيد دورها كركيزة أساسية للاستقرار والأمن في نظام عالمي جديد آخذ في التشكل، حيث أوكرانيا هي مفترق طرق الحضارات الذي يُحدد معالم الفكر العسكري والسياسي والجيواستراتيجي المستقبلي.
أوكرانيا كبؤرة لتحول النظام العالمي
وهكذا تُظهر تحولات الحرب الروسية على أوكرانيا أنها أصبحت أكثر من مجرد “نزاع إقليمي”؛ لقد تحولت لتصبح نقطة تحول جيوسياسية تُعيد تشكيل النظام العالمي. بين استراتيجية أوكرانيا الدفاعية المبتكرة، وتأثير “عقيدة ترامب” المتقلبة، والتحديات الاقتصادية والديموغرافية الجسيمة، يتجلى المشهد الأوروبي المتغير.
لقد دفعت هذه الحرب القوى الأوروبية، كما يتضح من الاتفاقية الدفاعية الألمانية-البريطانية والحزم العام للاتحاد الأوروبي في ظل التقلبات الامريكية تحت إدارة الرئيس ترامب، نحو تعزيز دفاعاتها الذاتية وتقليل الاعتماد الأمني على الولايات المتحدة، مع الحفاظ على الشراكة الأطلسية. هذا التحول يعكس إدراكًا بأن أمن أوروبا لم يعد مضمونًا، وأن التهديد الروسي يتطلب استجابة جماعية وحازمة.
في النهاية، نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا تُحدد ليس فقط مستقبل أوروبا، بل تُشكل أيضًا سابقة عالمية لكيفية إدارة الصراعات، وتوازن القوى بين المحاور المتنافسة، ومصير القيم الديمقراطية في نظام عالمي آخذ في التشكل.