إستراتيجية الردع الروسي الزائف

إستراتيجية الردع الروسي الزائف

إستراتيجية الردع الروسي الزائف:

تفكيك الخطاب النووي بين الوهم التشغيلي وأزمة المصداقية

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

2\11\2025

تُشير التناقضات الصارخة والمُتواترة في تصريحات القيادة الروسية حول أحدث أسلحتها الاستراتيجية، وتحديداً طوربيد بوسيدون النووي والصاروخ الباليستي العابر للقارات سارمات، إلى نمط متزايد من التضليل الاستراتيجي المُمنهج. هذا النمط، الذي يهدف إلى إدارة التصورات الدولية والمحلية وإدامة صورة “القوة العسكرية الفائقة”، يكشف عن وجود فجوة عميقة وواسعة بين الخطاب السياسي المُضخَّم (بروباغاندا) والواقع التشغيلي العسكري الفعلي على الأرض. وهذا التباين لا يُقوِّض مصداقية روسيا في الساحة الدولية فحسب، بل يُولِّد نتائج عكسية ويزيد من تفاقم أزمة الثقة العالمية في الإعلانات الروسية المتعلقة بالردع النووي.

التحدي الاستراتيجي لـ “بوسيدون”: تفاقم الردع النووي بين الوهم والواقع

تُمثّل إعلانات الكرملين المتكررة عن النجاحات المزعومة” في اختبار المركبة الغواصة المسيرة بوسيدون خطوة تصعيدية روسية واضحة للعودة إلى الترهيب الاستراتيجي المباشر. ويأتي هذا التوجه في محاولة لتعويض تراجع فعالية التهديدات النووية التقليدية أمام التطور المتنامي للدفاعات الغربية المضادة. فـ “بوسيدون” يُصنَّف كـمركبة تحت مائية مسيّرة (طوربيد) تعمل بالدفع النووي، وتُمثّل نقلة نوعية مفترضة في مفاهيم الردع البحري. وتشير المعلومات المتوفرة من الإعلام الروسي إلى أنه سلاح بحري استراتيجي ضمن الجيل الجديد للترسانة النووية، قادر نظرياً على اختراق عمق السواحل وتدمير مدن بأكملها، مما يجعله أداة ضغط غير تقليدية ويُنذِر باحتمالية إشعال حرب عالمية ثالثة. لقد صُمِّم “بوسيدون” بهدف تجاوز الدفاعات الصاروخية التقليدية؛ فهو يهدف إلى الوقوف في وجه أنظمة الدفاع الأمريكية الباليستية المنتشرة في أوروبا، والتي لطالما اعتبرتها روسيا سبباً في إخلال التوازن الاستراتيجي. وتستند قدرته التدميرية على مواصفات شبه نظرية تشير إلى إمكانية المناورة في أعماق كبيرة وبسرعات عالية (تتراوح بين 60 إلى 70 عقدة، وقد تتجاوز ذلك)، مما يجعل اكتشافه واعتراضه بواسطة أنظمة الرصد الحالية شبه مستحيل.

وفي تأكيد قاطع على تفعيل هذه القدرات غير التقليدية، أعلن الرئيس بوتين مؤخراً عن النجاح “الباَهر” لاختبار طوربيد بوسيدون“. مشيراً إلى أن التجربة التي جرت شهدت تشغيل المفاعل النووي المصغَّر داخل الطوربيد للمرة الأولى من غواصة حاملة، حيث استمر المفاعل في العمل لفترة زمنية محددة“. يُمثّل هذا الإعلان الروسي الرسمي، حول نجاح تشغيل نظام الدفع النووي، ركيزة أساسية داعمة لـ الادعاء” بامتلاك سلاح ذي مدى عملياتي غير مقيد (عابر للقارات)، وهو ما يرتقي بالخطاب الروسي إلى مستوى تجاوز الحدود الجغرافية التقليدية للردع. أما عن الهدف التدميري، فيتفق التحليل الإعلامي الروسي والغربي على أن “بوسيدون” مُصمَّم للانفجار قرب السواحل لإحداث تسونامي إشعاعي مدمر“. هذا التهديد النوعي يجعله سلاحاً ذا آثار كارثية ووجودية محتملة، وهو ما يبرر تسميته البارزة والمتداولة إعلامياً بـ سلاح يوم القيامة”.

على الرغم من التخوفات الجدية التي تُولِّدها القدرات النظرية لـ “بوسيدون”، إلا أن محاولة الترهيب الاستراتيجي هذه قد أدت إلى نتائج عكسية ومباشرة. فقد تزامنت هذه الإعلانات مع شكوك عميقة لدى الخبراء الغربيين حول الإطار الزمني الواقعي والجدوى التشغيلية الفعلية لهذه المنظومة، وهي الشكوك التي تُضعف بشكل جوهري مصداقية الردع الروسي برمته. ففي حين يصف الرئيس بوتين “بوسيدون” بأنه سلاح لا يمكن اعتراضه بأي وسيلة دفاعية حالياً، وتصل قوته التدميرية المُعلَنة إلى ما يعادل أكثر من 100 ضعف قنبلة هيروشيما، يبقى هذا السلاح يعتمد في جوهره على مفاعل نووي مصغَّر يمنحه مدى عملياتي غير محدود تقريباً وقدرة مزعومة على الدوران حول القارات، وهي خصائص لا تزال قيد التحقق العملي.

مناورات روسيا النووية: إعادة تفعيل عقيدة الردع كأداة ضغط قصري ومحفز للتحول الأوروبي

وفي هذا السياق من التشكيك في الردع القائم على التهديد الانفجاري، يميل المحللون العسكريون إلى إعادة تعريف التهديد الجوهري الذي يُمثله “بوسيدون”، حيث يؤكد المحللون أن القوة التدميرية الانفجارية المباشرة لطوربيد ينفجر تحت سطح البحر لا يُتوقّع أن تُضاهي الآثار التدميرية الشاملة للأسلحة النووية الجوية الاستراتيجية التقليدية. بدلاً من ذلك، يتمحور الخطر الجوهري والأكثر تفرداً لهذا السلاح حول قدرته على توليد ما يُعرف بـ التسونامي الإشعاعي”. هذا السيناريو الكارثي لا يهدف إلى التدمير الفوري، بل إلى إحداث تلوث إشعاعي واسع النطاق وطويل الأمد، مما يجعل الموانئ والمدن الساحلية ومناطق اقتصادية شاسعة غير قابلة للاستخدام بشكل فعلي لعقود. يشدد الخبراء على أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الدول المستهدفة يكمن في التعامل مع المياه المشعة التي ستُلقي بسحابة إشعاعية واسعة، تمتد آثارها المدمرة المحتملة إلى دول وأقاليم مجاورة. علاوة على ذلك، تُشكل التحديات اللوجستية والبيئية لتشغيل نظام دفع نووي صغير الحجم تحت الماء مصدراً حقيقياً للقلق الدولي، لا سيما مع المخاطر البيئية التي ظهرت جلياً في حوادث مرتبطة بتجارب سابقة للأسلحة الروسية ذات الدفع النووي.

خلافاً لما هو متوقع من عملية ردع أحادية، كان رد الفعل الاستراتيجي الأمريكي فورياً وحاسماً؛ حيث أصدر الرئيس ترامب أمراً مباشراً بـبدء اختبار الأسلحة النووية الأمريكية، وهو تحرك لم يكن الكرملين يتوقعه. هذا القرار الخطير قوبل بتحذير فوري من موسكو؛ إذ أكد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن هناك وقف ساري المفعول حالياً على التجارب النووية، مشدداً على أن الاختبارات الروسية الأخيرة لم تكن نووية بأي شكل من الأشكال، في محاولة لتقليل مستوى التصعيد. وفي الوقت ذاته، لوّح نائب رئيس مجلس الأمن دميتري ميدفيديف بتحذيرات غير مباشرة تشير إلى أن تصرفات واشنطن تحمل خطر إشعال صراع أوسع نطاقاً”. يُمثل هذا التصعيد تحولاً جذرياً، إذ يُحوّل الابتزاز الروسي المعتمد على الأسلحة الفائقة إلى تدهور حقيقي وملموس في التوازن النووي العالمي، مُغذّياً التوتر ومُحفزاً لسباق تسلح استراتيجي جديد ومرهق مالياً. وقد تجسدت هذه التداعيات الفعلية في قرار البحرية الأمريكية بإعادة تأسيس أسطولها الثاني المسؤول عن شمال المحيط الأطلسي، رداً مباشراً على هذا التهديد النوعي. ومن منظور داخلي وخارجي، تشير التحليلات الاستخباراتية إلى أن تركيز الرئيس بوتين على استعراض هذه الأسلحة الفائقة يخدم هدفين متوازيين: أولهما، تبرير الكلفة البشرية والمالية الباهظة للحرب أمام الداخل الروسي، وإظهار أن الصراع لم يُضعف القدرات الاستراتيجية للدولة. وثانيهما، ترسيخ صورة “بوسيدون” ليس كأداة ردع عسكرية فحسب، بل كورقة ضغط سياسية محورية ضمن استراتيجية حرب استنزاف أطول، ترمي إلى إيصال رسالة واضحة للنخب الغربية بأن روسيا مستعدة للمواجهة الممتدة عبر أدوات ردع غير تقليدية ومزعزعة للاستقرار.

التضليل المنهجي والتناقض التشغيلي: أزمة مصداقية “سارمات”

يُشكّل التناقض الصارخ حول الجاهزية التشغيلية لصاروخ “سارمات” (RS-28 Sarmat) أزمة مصداقية متنامية للخطاب العسكري الروسي، خاصة وأن الإطلاق التجريبي الناجح الوحيد المُعلن عنه كان في أبريل 2022، أي بعد أسابيع قليلة من بدء الغزو الأوكراني. وقد أشارت تقارير استخباراتية غربية لاحقة إلى أن تجارب إطلاق أخرى قد باءت بالفشل أو تأخرت بشكل كبير، مما يثير تساؤلات جدية حول الجدول الزمني الفعلي لنشره في الخدمة القتالية.

يُعتبر صاروخ “سارمات”، الملقب بـ “الشيطان 2″، أحد أهم وأثقل أصول الردع الروسي المفترض، وهو مصمم ليحل محل الصاروخ الباليستي القديم “فويفودا” (Voevoda). يُقيَّم صاروخ “سارمات(RS-28 Sarmat)” من قِبل الخبراء العسكريين انطلاقاً من المزايا المعلنة التي تُروّج لها الدعاية الروسية، والتي تركز على قوته التدميرية الاستثنائية وعبوره المحتمل فوق القطبين. ووفقاً للمواصفات النظرية المعلنة، يزن “سارمات” حوالي 200 طن، ويُمكنه حمل حمولة ضخمة من الرؤوس الحربية قد تصل إلى 10 رؤوس نووية ثقيلة أو 15 رأساً حربياً أخف، بالإضافة إلى حزمة متطورة من الإجراءات المضادة والفخاخ التي يُعتقد أنها تضمن له القدرة على التسلل واختراق الدفاعات. وتأتي ميزته الأبرز في قدرته المُعلنة على التحليق في مسارات فريدة، تشمل عبور القطبين الشمالي والجنوبي، مما يجعله قادراً على ضرب أهداف في أي مكان على سطح الأرض تقريباً، وفعالاً في تجاوز منظومات الدفاع الصاروخي الحالية. علاوة على ذلك، يتم التسويق لـ “سارمات” بأنه يتمتع بعامل التفوق الفرط صوتي (Hypersonic)؛ وتتأكد هذه الميزة بقدرته المعلنة على حمل المركبة الانزلاقية الفرط صوتية “أفانغارد”، التي تُروج موسكو لكونها قادرة على بلوغ سرعات هائلة تتجاوز 20 ماخ. ويُزعم أن هذا الدمج يمنح “سارمات” قدرة فائقة على المناورة والتهرب من الاعتراض في المراحل النهائية والحاسمة من مسار الرحلة، مما يرسخ صورة الصاروخ كـ “سلاح لا يُقهر”.

وفيما يتعلق بالجذور الاستراتيجية والاعتمادية، يُمثّل تطوير “سارمات” في مركز “ماكييف” الروسي محاولة روسية للاستقلال التام في منظومات الردع النووي الثقيلة. فقد كان سلفه، الصاروخ (R-36M) المعروف بـ “الشيطان”، صُمم وصُنع في مكتب تصميم في مدينة دنيبرو الأوكرانية. وبهذا، لا يمثل “سارمات” مجرد تطوير تكنولوجي، بل محاولة لقطيعة استراتيجية مع أي اعتماد تاريخي أو لوجستي على القدرات الصناعية الأوكرانية. أما عن مكانته الاستراتيجية، فقد أكد الرئيس بوتين أن “سارمات” سيضمن بشكل موثوق أمن روسيا… ويجعل أولئك الذين يحاولون تهديد بلادنا يفكرون مرتين، ويُنظر إليه كـ “سلاح ردع وتوازن” يُستخدم لضمان القدرة على توجيه “الضربة الثانية“.

في المقابل، لم يتردد الإعلام والمؤسسات الغربية في تفكيك الخطاب الروسي المُصاحب لإعلان نشر صاروخ “سارمات”، مُركّزين بشكل خاص على تحدي التوقيت التشغيلي. فعلى الرغم من إعلان موسكو عن دخوله الخدمة القتالية، أشار مسؤولون غربيون إلى أن التأخير الزمني غير المعتاد بين الإطلاق التجريبي الناجح المعلن الوحيد (والذي جرى في 20 أبريل 2022) وبين إعلان النشر الرسمي يُمثّل دليلاً قوياً على وجود تحديات فنية أو عقبات لوجستية كبيرة تعترض عمليات الإنتاج والتوزيع والنشر الفعلي للصاروخ. وقد تجسدت استجابة واشنطن الرسمية حينها في نظرة هادئة ومنضبطة؛ حيث أكد البنتاغون أن الإطلاق كان مجرد “إخطار روتيني” تم تقديمه بموجب المعاهدات الثنائية، وشددت على أنه لم يُعتبر تهديداً مباشراً للولايات المتحدة أو لحلفائها”. تهدف هذه الاستجابة المدروسة إلى تجفيف مصادر الدعاية الروسية، والتقليل من الزخم الاستراتيجي للإعلان. أما في الإطار الأوروبي، فقد رُصدت محاولات روسية لاستخدام “سارمات” كـأداة ضغط نفسي وابتزاز معنوي؛ إذ روّجت وسائل إعلام روسية لرسالة مفادها أن الصاروخ قادر على بلوغ عواصم أوروبية رئيسية في غضون دقائق معدودة، بهدف نشر القلق الاستراتيجي.

إن التناقض الواضح والمُتفاقم حول الوضع التشغيلي الفعلي لصاروخ “سارمات” لا يُقوِّض الثقة في الخطاب العسكري الروسي فحسب، بل يكشف عن تحديات داخلية أعمق في منظومة التخطيط والتنفيذ. فقد قدمت القيادة الروسية تعهدات متكررة ومتباينة بشأن دخول الصاروخ الخدمة؛ بدأت في مايو 2022 بإعلان رئيس وكالة “روس كوسموس” آنذاك عن نشره بحلول خريف العام ذاته، ثم تابع الرئيس بوتين في يونيو وديسمبر 2022 بتأكيدات على دخوله الخدمة نهاية 2022” أو بداية 2023“. ورغم تكرار التأجيلات، جاء الإعلان قاطعا في سبتمبر 2023، حيث صرّح رئيس وكالة “روس كوسموس” يوري بوريسوف أن المنظومة قد وُضعت في الخدمة القتالية“. إلا أن التراجع المتأخر والمفاجئ للرئيس بوتين في خطابات لاحقة، بإشارته إلى أن الصاروخ “لم يدخل الخدمة بعد”، يُمثّل دليلاً قوياً على وجود فشل منهجي في مسار الإنتاج أو النشر العسكري، أو على الأقل، خداع مُتعمَّد في التقارير المقدمة إلى أعلى مستويات القيادة. هذا التضارب في التصريحات الرسمية يُعدّ مؤشراً على اضطرار الكرملين للموازنة بين الدعاية الجيوسياسية والتحديات الهندسية على أرض الواقع.

دبلوماسية الفشل الاستراتيجي

هذا التذبذب في الإعلان أوجد رسالة ضمنية يرى المحللون الغربيون أنها كانت تهدف في البداية، وبنجاح التجربة الوحيدة المعلنة في 2022، إلى إرسال إشارة قوية للغرب مفادها أن “سلاح العقوبات الاقتصادية لن يردع موسكو” عن استكمال برامجها الصاروخية النوعية والاستراتيجية. كما كان الهدف هو تبديد التصور الغربي بأن موسكو قد “غرقت في وحل الحرب ضد أوكرانيا” لدرجة إهمالها لبرامج الردع الأساسية. ومع إقرار الفشل التشغيلي المُتأخّر والمُعلَن، تتعزز بشكل قاطع القناعة التحليلية بأن تلك الإعلانات المتكررة لم تكن سوى أداة دعائية استعراضية خالصة تفتقر إلى أي أساس من الجاهزية القتالية الفعلية على الأرض. لا يقتصر تأثير هذا التضارب على تقويض مصداقية الخطاب العسكري الروسي في سياق “سارمات” فحسب، بل يضع علامات استفهام حاسمة حول دقة وموثوقية التصريحات الروسية المتعلقة بقدراتها الاستراتيجية الأخرى وأنظمتها العسكرية فائقة التطور.

لا يقتصر التناقض والضبابية التشغيلية على صاروخ “سارمات” فحسب، بل يمتد ليصبح نموذجاً متكرراً في منظومات “الردع غير القابلة للاعتراض” الروسية، وتحديداً مع طوربيد “بوسيدون” (Poseidon) النووي المُسيّر تحت الماء، والذي يُشار إليه أيضاً بوصف “سلاح يوم القيامة”. فكما أن “سارمات” يواجه تأخيراً في إعلانات دخوله الخدمة الفعلية، كذلك تشير التقارير إلى أن “بوسيدون” – المصمم لإحداث “تسونامي إشعاعي” بالقرب من سواحل العدو – لا يزال يواجه تحديات هائلة في النشر الواسع والتشغيل العملياتي.

تحليل استراتيجية “الردع عبر الرعب” ومنهجية إدارة التناقضات

إن المقارنة التحليلية بين مصير المشروعين الاستراتيجيين، “سارمات” و “بوسيدون”، تكشف عن منهجية روسية واضحة ومقصودة في إدارة خطابها العسكري. تتمحور هذه المنهجية حول “استراتيجية الردع عبر الرعب”؛ ففي كل مرة يتم فيها الكشف عن تعثر أو تأخير في النشر التشغيلي لصاروخ “سارمات”، أو عندما تتصاعد حدة التوترات مع الغرب (كتلك المتعلقة بمواصلة تسليح أوكرانيا)، تقوم موسكو بإعادة توجيه التركيز الإعلامي نحو إعلان جديد حول منظومة استراتيجية أخرى. وقد تجسد هذا التحول مؤخراً في إعلان الرئيس بوتين عن النجاح “الباهر” لاختبار طوربيد “بوسيدون” النووي، مؤكداً أن قدرته التدميرية قد تكون “أشد بكثير” من قدرة “سارمات”. يهدف هذا التناوب في الاهتمام إلى إدامة حالة الخوف الاستراتيجي، عبر إظهار أن روسيا تمتلك دائماً مفاجأة تكنولوجية فائقة تفوق قدرات الغرب الدفاعية. وبهذا، يتحول الفشل التشغيلي أو التأخير في نشر سلاح (كـ”سارمات”) إلى دافع لتسليط الضوء على سلاح آخر يُطلق عليه إعلامياً مسمى “سلاح يوم القيامة” (كـ”بوسيدون”)، ليصبح أداة دعائية مصممة لـ “جعل الأعداء يفكرون مرتين”، وفقاً للتعبير الروسي الرسمي. هذه الاستراتيجية المزدوجة تخدم الهدف السياسي والعسكري للقيادة الروسية في الحفاظ على مظهر التفوق النوعي والقدرة على الردع الموثوق، حتى لو كانت هذه الموثوقية مبنية على الإعلانات الدعائية بقدر ما هي مبنية على الواقع التشغيلي الفعلي.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *