اجتياح رفح.. كيف يمكن لنتنياهو أن يعلن النصر بينما تلوح الهزيمة في الأفق؟!
ديفيد هيرست
12/5/2024
المصدر: موقع Middle East Eye
هل كانت هناك صفقة؟ هل قدمت حماس مقترحاً مضاداً كما يقول البعض في الإدارة الأمريكية؟ هل كان هناك مقترحان مطروحان على الطاولة أم هي صفقة تراجعت عنها الولايات المتحدة بعدما رأت الرد الإسرائيلي؟
كان ذلك هو مسار الأحداث الذي وردني من مصادري المطلعة على المفاوضات في القاهرة والدوحة.
في القاهرة، أمضى وفد حماس بعض الوقت، قدم سلسلة من الملاحظات على الورقة، كما فعل الاحتلال الإسرائيلي. لكن بقي الطريق مسدوداً؛ دون اتفاق يلوح في الأفق. وقررت حماس سحب وفدها.
أخبرتني مصادري بأن وفد حماس كان في المطار عندما قدّمت مصر مقترحاً وافقت الحركة على دراسته. بعدها، انتقل الوفد إلى الدوحة يوم الأحد. بعد وصولهم، أعلنت حماس عن عقد اجتماع يوم الإثنين لمناقشة المقترح الذي قدمه المصريون والقطريون.
لحق وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بوفد حماس إلى الدوحة قادماً من القاهرة بعد أن قضى بها يومين. كان من المقرر أن يتوجه بيرنز إلى إسرائيل، لكنه قرر تأجيل رحلته في انتظار رد حماس الذي كان متوقعاً يوم الإثنين.
وكان هناك تغييران طفيفان في نص الوثيقة التي أرسلها المصريون إلى وفد حماس في المطار، لكن لم يتم اعتبارهما حاسمين من أجل التوصل إلى اتفاق. وقد اطلع موقع ميدل إيست آي على كلا الوثيقتين.
في هذه الأثناء، كان بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، يعيش لحظات من التوتر بشأن تحركات المصريين والقطريين، خاصة مع وجود بيرنز في العاصمتين، صرح نتنياهو بأن إسرائيل ستمضي قدماً في عملياتها برفح سواء تم التوصل إلى اتفاق بشأن تبادل الأسرى أم لا.
كان قرار الحكومة الإسرائيلية بإغلاق مكاتب قناة الجزيرة مؤشراً آخر على رفض إسرائيل، ليس فقط للمقترح الأخير، ولكن أيضاً لدور الدوحة كوسيط. بينما ظلت الأسئلة قائمة حول انخراط واشنطن أو معرفتها بمقترح الصفقة الذي أرسلته كل من مصر وقطر إلى حماس.
وكانت تنص النسخة الإنجليزية من المقترح التي أُرسلت لي بوضوح على أن الجهات الضامنة للاتفاق هي قطر، ومصر، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة.
فهل صدّقت الولايات المتحدة على اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه حماس يوم الإثنين أم لا؟ وفقاً لأحد المصادر، “لم يكن بيرنز بالتأكيد في إجازة لزيارة الكازينوهات في القاهرة أو الذهاب للسباحة في الدوحة”.
بينما أجاب جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، على هذا السؤال بطريقة التفافية قائلاً: “يمكننا أن نستخلص أن رد حماس جاء نتيجة أو في نهاية هذه المناقشات المستمرة التي كان المدير بيرنز جزءاً منها”.
لكن كيربي أيضاً مضى قائلاً إن الولايات المتحدة تراجع رد حماس، كما لو أن المقترح الذي وقعت عليه حماس لم يتم تقديمه إليها من قبل حكومتين وسيطتين أخريين، مصر وقطر، وكما لو أن وجود بيرنز في كل من القاهرة والدوحة كان بصفته مجرد مراقب.
بروز الانقسامات
عندما أُعلن عن موافقة حماس على النسخة الأخيرة من المقترح، شعرت إسرائيل بالصدمة، خصوصاً أن الجميع كان يتوقع رفض حماس له. ورغم أن الرفض الإسرائيلي لم يكن مفاجئاً، إلا أن المثير للدهشة كان مشاركة وانخراط الولايات المتحدة في الصفقة التي رفضتها إسرائيل. وبعد زيارة بيرنز المكوكية بين القاهرة والدوحة، قال لي أحد المصادر إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه “لم يكن مقترحاً مضاداً. لقد كان ورقة مصرية قطرية، مع إدراك أن الولايات المتحدة قد دعمتها بالحضور الشخصي لبيرنز”.
وفقاً لوكالة أسوشيتد برس، قال مسؤول مصري ودبلوماسي غربي إن المسودة التي قبلتها حماس تضمنت فقط “تغييرات طفيفة في الصياغة” مقارنة بالنسخة التي دفعت الولايات المتحدة سابقاً للحصول عليها بموافقة إسرائيلية، وأن هذه التغييرات جرت بالتشاور مع بيرنز، الذي كان داعماً للمقترح قبل إرساله إلى حماس. هذا يشير إلى وجود انقسامات محتملة داخل الإدارة الأمريكية، حيث يبدو أن وكالة المخابرات المركزية تدعم صفقة تراجعت عنها أجهزة أخرى في إدارة بايدن بعد رفض إسرائيل لها.
وفي كلتا الحالتين، قالت مصادري إن حماس لا تعتبر هذه مشكلتها. وقال لي أحد المصادر: “لم تكن هذه هي نسخة وقف إطلاق النار التي أرادوها. لقد قدموا تنازلات للوصول إلى هذه النقطة، لكنهم غير قلقين إذا انهار هذا الاتفاق”.
كما وجه تحذيراً واضحاً: “إذا لم يتم التوصل إلى حل، فقد تتخذ حماس قراراً بعدم المشاركة في أي مفاوضات حتى يكون هناك وقف لإطلاق النار. إن حماس على استعداد لمواصلة القتال حتى يدرك الإسرائيليون أن عليهم التوصل إلى وقف لإطلاق النار”.
تعكس ردود حماس مستوى عالياً من الثقة بقدرتها على مواصلة الحرب ضد الاحتلال، وهذه الثقة هي القضية الوحيدة التي لم تتوقف عندها حكومة الحرب الإسرائيلية ولا واشنطن بشكل علني.
بناءً عليه، إذا لم يكن لدى حماس خيار آخر، ولم يكن قد تبقى لها سوى عدد قليل من الكتائب في معقلها الأخير في رفح كما يدعي الاحتلال واوشنطن، فلماذا تتصرف بهذه الثقة؟ بينما تواصل استهداف أهداف عسكرية إسرائيلية، كالذي أسفر عن مقتل أربعة جنود وإصابة آخرين بجروح خطيرة في منطقة كرم أبو سالم يوم الأحد الماضي.
فبعد 7 أشهر من القصف الذي حول قطاعاً كبيراً من غزة إلى أنقاض، كيف لم يتم إخضاع حماس؟ وقد قال الجيش الإسرائيلي مراراً وتكراراً إنه قضى على معظم مقاتلي حماس، وإنه لم يتبق سوى 4 كتائب داخل رفح.
طرحت ذلك على مصدر مطلع على قدرات حماس العسكرية. فأجاب: “في كل مكان ينسحب منه جيش الاحتلال الإسرائيلي، تعود حماس للظهور: في الشمال، في الوسط، وفي الجنوب. تحتل القوات الإسرائيلية ممر نتساريم، لكن نقاط التفتيش التابعة لها هناك معرضة للخطر بشكل متزايد، ولهذا السبب قدمت عرضاً بالانسحاب من هذا الممر في المفاوضات”.
ويؤيد بعض الخبراء العسكريين في إسرائيل هذا الطرح، بل هم على استعداد للجهر بذلك. كتب اللواء احتياط يتسحاق باريك في صحيفة معاريف: “بيبي (نتنياهو) يعلم جيداً أننا وصلنا إلى طريق مسدود على الصعيد العسكري.. بعد أن سيطر الجيش على 80% من قطاع غزة (باستثناء رفح)، سحب قواته منه لأنه لم يعد لديه أي قوات أخرى لتحل محل هذه القوات. وكانت النتيجة هي عودة حماس بشكل جماعي إلى جميع المناطق التي تركها الجيش الإسرائيلي واستعادتها السيطرة عليها”.
لا تواجه كتائب القسام، الجناح المسلح لحركة حماس، مشكلة فيما يتعلق بالمقاتلين أو الصواريخ والقذائف المتفجرة. بالإضافة لذلك، يقف الفلسطينيون من كافة الفصائل خلف مقاتلي المقاومة حماس، بعد أن أصبح من الواضح أن الحرب الإسرائيلية تشكل تهديداً وجودياً للفلسطينيين ككل.
وهناك الآن عدد غير محدود من المقاتلين في حماس ـ عشرات الآلاف ـ بعد 7 أشهر من القتال. إذ جاءت هذه الموجة من الدعم في زمن الحرب لتتخطى التاريخ المرير من المنافسة السياسية بين فتح وحماس.
أما عن الإمداد العسكري، فهناك إمدادات غير محدودة من الذخائر المتفجرة. فوفقاً لتقديرات للأمم المتحدة مؤخراً، أشار إلى أن أعداداً كبير من الذخائر المتفجرة والصواريخ قد أُسقطت على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ما قد يستغرق 14 عاماً لتطهير القطاع من القنابل التي لم تنفجر. لكن بعبارة أخرى: مع معدل فشل يصل إلى حوالي 15%، فإن المواد المتفجرة التي يتم الحصول عليها من القنابل والصواريخ التي لم تنفجر يمكن أن تبقي حماس مزوّدة بالإمدادات لفترة طويلة قادمة.
وقد تم بالفعل إعادة تدوير بعض المتفجرات. وقالت القسام إنها استخدمت متفجرات وصواريخ من مقاتلات F16 في هجوم على منطقة المغراقة وسط غزة. إذا كان مهندسو القسام قد تمكنوا من استعادة 5 أطنان من الذخائر غير المنفجرة من خان يونس ورفح وحدهما خلال الغارات الجوية في عام 2014 والتي استمرت أقل من شهرين، فكم يكون حجم الذخائر غير المتفجرة التي تم استردادها بعد 7 أشهر من القصف اليومي؟
العقبات الحقيقية
واجهت حماس محاولتين منسقتين لإزاحتها من موقعها في حكم وإدارة قطاع غزة، وهي التهديدات التي أخذتها على محمل الجد. وقد فشلت كلا المحاولتين.
كانت المحاولة الأولى من جانب إسرائيل في يناير/كانون الثاني 2024 لحمل زعماء العشائر على تقسيم غزة إلى مناطق تحكمها القبائل، التي ستتولى الإدارة المدنية لقطاع غزة وتجري ترتيبات أحادية مع إسرائيل.
ولكن قبل أن يصل الأمر إلى حد تشكيل حكومة حرب بفترة طويلة، تم رفضه من قبل القبائل نفسها، التي ظلت موالية لحماس. وقال عاكف المصري، المفوض العام للهيئة العليا للقبائل الفلسطينية، في بيان، إن “دولة الاحتلال تسعى للتغطية على فشلها في غزة وإثارة البلبلة والفتنة في المجتمع الفلسطيني”.
ودعا المصري بدلاً من ذلك إلى إنهاء الانقسام السياسي بين حماس وفتح، مشيراً إلى أن هناك حاجة إلى قيادة وطنية موحدة “لتعزيز صمود الشعب ومواجهة كل مخططات الاحتلال”.
وكانت المحاولة الثانية أكثر خطورة. ويُزعم أن خطة تنفيذها قد أشرفت عليها الأردن ومصر والسعودية، ونفذها ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات التابع للسلطة الفلسطينية – وهو الرجل الذي رشحه كلاً من وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت وزعيم المعارضة يائير لابيد لتولي مقاليد الأمور بقطاع غزة بعد الحرب. وكان الطرف الغائب البارز هو الإمارات، التي تدعم عودة رجلها، محمد دحلان، إلى غزة.
حيث تسلل العشرات من عملاء المخابرات التابعة للسلطة الفلسطينية إلى غزة، متنكرين في زي رجال لحراسة قوافل المساعدات من الحدود المصرية. ووصلت بعض هذه المجموعة شمالاً حتى مستشفى الشفاء في مدينة غزة، وزُعم أنها قدمت معلومات استخباراتية للقوات الإسرائيلية، ما أدى إلى مداهمة المرفق الطبي. وبقي معظم أفراد المجموعة في رفح حيث حاولوا إقامة مقر لهم في مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني.
وبحسب مصدر نقلت عنه قناة الجزيرة، فقد صعدت 10 فرق، يتألف كل منها من 4 أشخاص، على 10 شاحنات عند معبر رفح لإيصال المساعدات إلى الهلال الأحمر.
انكشف وجود عناصر السلطة الفلسطينية في خضم الفوضى التي أحاطت بالشاحنات. وعندما اقتحم الفلسطينيون الشاحنات من أجل الحصول على المساعدات، قام أفراد من قوة الأمن التابعة لفرج بسحب أسلحتهم؛ وبعد ذلك تم اعتقالهم واستجوابهم من قبل حماس. وتم التعرف على هوية أربعة من الضباط المعتقلين. ففشل المتآمرون، الذين تلقوا تدريبهم في الأردن، وأرسلتهم السلطة الفلسطينية، كما هو الحال دائماً، في غزة.
صداع أكبر
كل هذا يجعل حماس واثقة من قدرتها على مواجهة أي محاولات أخرى من جانب القوات الإسرائيلية للقضاء عليها والبقاء على قيد الحياة لاستمرار المقاومة.
فقد قال أحد مصادري: “إن ثقتهم بمواصلة المقاومة عالية. لقد حاولت إسرائيل استخدام الدمار الذي أحدثته كوسيلة لإجبارها على الاستسلام. لكن هذا الدمار أصبح سلاحاً ذا حدين. لقد فُضحت إسرائيل بطريقة غير مسبوقة. إن إسرائيل نفسها هي التي أصبحت في ورطة، وليس حماس. لقد بات دعم حماس هو الأعلى منذ بدء الحرب. وبات الرئيس الأمريكي جو بايدن في موقف لا يحسد عليه. كل هذا يمنح حماس الثقة بالطريقة التي تتفاوض بها”.
رغم ذلك، لا يمكن تجنب حقيقة مفادها أن المعركة المقبلة من أجل رفح ستكون عبارة عن سلسلة من المذابح، والتي تقع المسؤولية عنها بموجب القانون الدولي على عاتق الاحتلال الإسرائيلي.
فإذا فعلت قوات الاحتلال الإسرائيلي في رفح ما فعلته في خان يونس، فسوف يتم تسوية رفح بالأرض. خان يونس، التي كانت يدعي الاحتلال في السابق أنها المقر الرئيسي لحركة حماس، شهدت انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية بعد أكثر من 4 أشهر من القصف المتواصل الذي لم يترك وراءه سوى الدمار الشامل. والآن، إذا طُبق نفس النهج في رفح، فإن إسرائيل ستجد نفسها عاجزة عن استعادة الأسرى الذين قد يظلون على قيد الحياة، كما أنها لن تتمكن من أسر أو قتل زعماء حماس. بينما حماس، من جانبها، واثقة من هذين الأمرين.
اللواء احتياط يتسحاق باريك
وقد كرر الكاتب واللواء الإسرائيلي يتسحاق باريك هذه النقطة قائلاً: “بيبي يدرك أيضاً أن دخول رفح لن يحقق شيئاً. بل العكس هو الصحيح، إذ سيؤدي إلى تفاقم المشكلة عشرات المرات. فحينها سنضطر أيضاً إلى مغادرة رفح بعد احتلالها.. سيدمر دخولنا إلى رفح علاقاتنا تماماً مع دول العالم ومع الدول العربية التي تربطنا بها معاهدات سلام”.
وتابع: “سيكون لذلك عواقب وخيمة للغاية، وقبل كل شيء: عزل دولة إسرائيل في المجالين السياسي والاقتصادي وفرض حظر الأسلحة الذي بدأ بالفعل. دخول رفح لن يترك أي مختطف حياً، وسيكون لدينا الكثير من الضحايا”.
بعد رفح سيواجه نتنياهو صداعاً أكبر مما يعانيه الآن، وهنا أتساءل: كيف يعلن النصر بينما تلوح الهزيمة في الأفق؟!
*تم نقل ترة المقال عن موقع “عربي بوست“.