استخدام تهمة معاداة السامية كسلاح
مايكل يونغ يناقش جيوفاني فاسينا وأليس غارسيا، في مقابلة معهما، لمَ يُعاقب تعريف مثير للجدل دعم حقوق الفلسطينيين.
جيوفاني فاسينا مدير المركز الأوروبي للدعم القانوني، وهو المنظمة الوحيدة في أوروبا والمملكة المتحدة التي تقدّم الدعم القانوني للأفراد والمجموعات المعاقبين بسبب دفاعهم عن حقوق الفلسطينيين. وهو خبير في القانون الدولي وعمل لسنوات عدّة في الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاع التطوير. وأليس غارسيا مسؤولة الاتصالات واستراتيجيات وحملات المناصرة في المركز، وتعمل في مجال المناصرة في قضايا متعلقة بإسرائيل وفلسطين منذ العام 2015.
أجرت “ديوان” مقابلة معهما في أواخر أيار/مايو، بينما كان يتحضّر المركز لنشر تقرير للرد على تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (أو محرقة اليهود) لمفهوم معاداة السامية. يمكن الاطّلاع على التقرير الذي نُشر في 6 حزيران/يونيو من خلال الضغط هنا.
مايكل يونغ: يمكننا الاتفاق على أن معاداة السامية هي آفة، لكن ما الذي تعارضانه بالتحديد أنتما وزملاؤكما في تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية؟ وما هدفه من هذا التعريف؟
جيوفاني فاسينا وأليس غارسيا: أجل، إن معاداة السامية آفة، ولا بدّ من مواجهتها، لكن بالوسائل والأدوات المناسبة. الأكيد أن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية لا يقدّم أي وسيلة مماثلة، كما أكّد مئات الأكاديميين، من بينهم باحثون يهود متخصصون في أبحاث الهولوكوست ومعاداة السامية وتاريخ اليهود والمجالات المتعلقة بها، فضلًا عن المئات من منظمات المجتمع المدني ، منها منظمات حقوق الإنسان، على غرار منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. علاوةً على ذلك، تُظهر أبحاثنا أن التعريف يهدف إلى حدّ كبير إلى قمع المدافعين عن حقوق الفلسطينيين بهدف إسكات الانتقادات الموجهة للسياسات والممارسات الإسرائيلية.
أولًا، لم يُحضّر التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست هذا التعريف، على الرغم من أن اسمه مرتبط به. فقد أتى نتيجة جهود متضافرة بذلها منذ مطلع القرن الحادي والعشرين أفراد ومنظمات متحالفون مع الحكومة الإسرائيلية، من أجل إعادة تعريف مفهوم معاداة السامية بطريقة تُبعد الانتقادات الموّجهة لإسرائيل على خلفية انتهاكها حقوق الإنسان وأعمال القمع العنيفة ضدّ الفلسطينيين وتُسكتها. وباتت إعادة تشكيل مفهوم معاداة السامية استنادًا إلى الانتقادات الموجهة لإسرائيل تُعرف بمصطلح “معاداة السامية الجديدة”، الذي وثّقه أنتوني ليرمان في كتابه الصادر في العام 2002 ويحمل عنوان Whatever Happened to Antisemitism? Redefinition and the Myth of the ‘Collective Jew’ (ماذا حصل لمعاداة السامية؟ إعادة تعريف وخرافة “الجماعية اليهودية”). يشار إلى أن ليرمان تولى سابقًا رئاسة معهد الشؤون اليهودية المرتبط بالمؤتمر اليهودي العالمي.
وتحقّق هذا في أوائل القرن الحادي والعشرين حين أعدّ ونشر المركز الأوروبي لرصد العنصرية وكراهية الأجانب (EUMC) “التعريف العملي لمعاداة السامية” متضمّنًا “أمثلة معاصرة لمعاداة السامية”، بعضها مرتبط بإسرائيل. لكن بعد الانتقادات التي طالت هذا التعريف بسبب خلطه بين انتقاد إسرائيل ومفهوم معاداة السامية، تخلّت وكالة الحقوق الأساسية، وهي الهيئة التي خلفت المركز الأوروبي، عن التعريف وأزالته عن موقعها الإلكتروني في العام 2013. لكن المدافعين عنه، بمن فيهم أفراد مرتبطون باللجنة اليهودية الأميركية ومركز سايمون فيزنتال والمؤتمر اليهودي الأوروبي ومرصد المنظمات غير الحكومية ومرصد الأمم المتحدة، مارسوا ضغوطًا على منظمات أوروبية أخرى لاعتماد هذا التعريف، لكن محاولاتهم باءت بالفشل.
وعلى الأثر، تواصلوا مع التحالف، الذي تبنّى جملتَين من تعريف المركز الأوروبي في 26 أيار/مايو 2016، وهما إن معاداة السامية: “تصوّر معين لليهود، يمكن التعبير عنه على أنه كراهية تجاه اليهود. ويتجلّى ذلك عبر ممارسات لفظية ومادية موجهة ضد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية”. ليس هذا التعريف وحده ما نعارضه. فقد أُلحق به 11 “مثالًا معاصرًا لمعاداة السامية”، سبعة منها تتعلّق بإسرائيل. على سبيل المثال، يشير المثال رقم 7 إلى “حرمان الشعب اليهودي من حقه في تقرير المصير، مثلًا من خلال الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري”. وينص المثال رقم 10 على “إجراء مقارنات بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة والسياسة النازية”.
وكما كنا نلاحظ، يتم استخدام هذه الأمثلة في الممارسة العملية، وتفسيرها على نطاق واسع للخلط بين انتقاد إسرائيل والتحيز ضد اليهود. فالمثال رقم 7 يُستخدم مثلًا بصورة مستمرة لقمع أي تأكيدات بأن الحكومة الإسرائيلية ترتكب جريمة فصل عنصري ضدّ الفلسطينيين، ما يستند إلى نتائج واقعية ووثائق صادرة عن خبراء ومحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان .
إن التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست هو منظمة دولية حكومية أسسها في العام 1998 رئيس الوزراء السويدي غوران بيرسون “لتعزيز وتشجيع وترويج التعليم حول الهولوكوست، والأبحاث بشأنه وسبل إحياء ذكراه”. يعمل التحالف، في إطار مهامه، بالطبع على الترويج لمكافحة معاداة السامية، ومنذ اعتماده ما يسمى “التعريف العملي لمعاداة السامية”، عمد إلى نشره في جميع أنحاء العالم. لكن ما يثير إشكالية أكبر يتمثّل في كيفية استخدام الحكومة الإسرائيلية والمجموعات المتحالفة معها ومنظمات المناصرة لهذا التعريف والأمثلة المُلحقة به من أجل استهداف المدافعين عن حقوق الفلسطينيين، في محاولة لإسكات الأصوات المنتقدة لإسرائيل، وبالتالي تحصينها ضدّ أي مساءلة.
يونغ: ما العملية التي استند إليها التحوّل المطرد في تعريف مفهوم معاداة السامية ليشمل أي انتقادات موجهة لإسرائيل؟ وكيف يمكن التعامل مع واقع أن مؤرخين وكتّاب يهود هم من بين أشدّ منتقدي السياسات الإسرائيلية؟
فاسينا وغارسيا: صحيحٌ أن التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست بحدّ ذاته لم يتبنّ الأمثلة التي تطرح إشكالية على الإطلاق، إلا أنها تُستخدم راهنًا في مؤسسات، مثل الاتحاد الأوروبي، على أنها جزء من التعريف، ويُعتبر ذلك حصيلة سنوات من الضغوط التي مارسها داعمو نظرية “معاداة السامية الجديدة”. لقد كتب جايمي ستيرن فاينر بإسهاب عن هذه العملية . في المقابل، عمدت برلمانات أو حكومات بعض الدول صراحةً على استبعاد تطبيق الأمثلة والاكتفاء باعتماد تعريف التحالف أو المصادقة عليه. لكن المملكة المتحدة مثلًا، قررت تجاهل التحفظات الصادرة عن لجنة برلمانية تضمّ جميع الأحزاب. وأوضح الاتحاد الأوروبي، بدوره، أنه يعتبر الأمثلة المُلحقة بتعريف التحالف جزءًا لا يتجزأ منه، على الرغم من التحذيرات والمخاوف الكثيرة المتعلقة بحقوق الإنسان التي عبّر عنها أكاديميون ومدافعون عن حقوق الإنسان ومنظمات يهودية وخبراء في الأمم المتحدة ومحامون.
على الصعيد الدولي، تشمل الجهات التي تنتقد السياسات الإسرائيلية أفرادًا ومنظمات من خلفيات متنوعة من جميع أنحاء العالم. لا شكّ أن تاريخ إسرائيل يترابط مع التاريخ اليهودي في نقطة ما، وبالتالي من غير المفاجئ أن يفكّر المؤرخون والكتّاب اليهود ويكتبوا عن إسرائيل بشكل نقدي. ويشير ذلك إلى أن الالتزام بثقافة أو مجتمع يهودي يمكن فصله بالكامل عن الالتزام بالإيديولوجيا الصهيونية ودولة إسرائيل. واقع الحال أن عددًا من المؤرخين والكتّاب اليهود ملتزمون بمناهضة الصهيونية أو ينتقدون السياسات والممارسات الإسرائيلية، وغالب الظن أن صوتهم سيكون مسموعًا، بسبب خلفيتهم، أكثر من مجتمعات مضطهدة أخرى عند انتقادها لإسرائيل.
علاوةً على ذلك، عبّر عدد من المؤرخين والكتّاب اليهود عن رفضهم لتعريف التحالف لأنه يخلط بين انتقاد إسرائيل ومفهوم معاداة السامية، فضلًا عن أن هذا التعريف بحكم الأمر الواقع يُلحق الضرر بالأفراد اليهود والمنظمات اليهودية، كما سبق أن ذكرنا. ففي العام 2021، عبّر أكثر من 350 باحثًا بارزًا في أبحاث الهولوكوست ومعاداة السامية والمجالات المتعلقة بها عن رفضهم تعريف التحالف وانضموا إلى المبادرة الرامية إلى الموافقة على تعريف بديل أطلق عليه اسم إعلان القدس حول معاداة السامية . وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، حذّر 128 باحثًا متخصصًا في أبحاث الهولوكوست ومعاداة السامية والمجالات المتعلقة بها في رسالة مفتوحة من “عدم حصر الأمم المتحدة في تعريف مبهم لمصطلح معاداة السامية ويمكن استخدامه كسلاح”.
يونغ: نشرتما للتو تقريرًا عن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست وكيفية انتهاكه لحرية التعبير. ما النقاط الأساسية التي تعرضانها في تقريركما؟
فاسينا وغارسيا: يحمل التقرير الذي نشرناه للتو عنوان “قمع مناصرة حقوق الفلسطينيين من خلال التعريف العملي لمعاداة السامية الصادر عن التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست – انتهاك حرية التعبير والتجمّع في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة”. يُقدّم التقرير، استنادًا إلى 53 حالة استُخدِم فيها تعريف التحالف لاستهداف المدافعين عن حقوق الفلسطينيين بادّعاءات معاداة السامية التي ثبُت أن لا أساس لها من الصحة، أدلّةً على أن هذا التعريف يُطبَّق بطرق تكبح حرية التعبير والتجمّع، بما يتناقض مع ما تعلنه المفوضية الأوروبية منذ سنوات. تُظهر الحالات أنّ ذلك أدّى إلى رقابة ذاتية وعزّز العنصرية ضد الفلسطينيين.
على الرغم مما كرّرته المفوضية الأوروبية أيضًا، لا تُسهم حقيقة أن تعريف التحالف غير مُلزم في حماية الأفراد والمنظمات من القيود على حقوقهم. ويُظهر التقرير أن هيئات عامة وخاصة تطبّق تعريف التحالف بصورة متزايدة وكأنّه قانون، على الرغم من أنه يوصَف بأنه “غير مُلزم قانونًا”.
يواجه المدافعون عن الحقوق الفلسطينية الذين يتم استهدافهم، مجموعة من العواقب الظالمة والمؤذية، بما فيها خسارة وظائفهم وتضرّر سُمعتهم، وإلغاء الفعاليات والتظاهرات، والإقصاء من المجال الأكاديمي أو الوظيفة، وما إلى هنالك. تترك ادّعاءات معاداة السامية، حتى إذا ثبت أن لا أساس لها من الصحة، بصمات لا تُمحى في حياة الشخص، ومَن يمتلكون الموارد لرفع التحدّي بوجهها عليهم أن يسلكوا دربًا قانونيًا طويلًا وشاقًّا للقيام بذلك.
دأبت المفوضية الأوروبية، وكذلك الحكومة البريطانية، على تجاهل هذه المشاغل المتعاظمة في مجال حقوق الإنسان ورفضها، وفشلت في اتّخاذ إجراءات للحؤول دون أن تكون لها آثار مؤذية على الحقوق الأساسية. نطالب الآن السلطات المختصّة بالعودة عن سياساتها الضارة، وبالتالي وقف اعتماد تعريف التحالف، والمصادقة عليه، وتطبيقه وترويجه.
يونغ: هل تريان أي تأثير لتعريف التحالف تحديدًا على الدراسات والأبحاث حول الصراع العربي الإسرائيلي أو الفلسطيني الإسرائيلي؟ وإن كان ثمّة تأثير، هلاّ تصفانه؟
فاسينا وغارسيا: ثمة أثرٌ على الباحثين الذين يعملون على هذا الموضوع منذ سنوات عدّة. فالموظفون والطلاب الأكاديميون الذين واجهوا إجراءات تأديبية مروّعة أشبه بمحاكمات مصغّرة، تأثّروا بطرق كثيرة. فقد كان على بعضهم أخذ إجازة مرَضية لأنهم لم يكونوا قادرين على التدريس في ظل خضوعهم لهذه الإجراءات الطويلة والمرهقة، أو عانوا من مشاكل صحّية. واضطُرَّ البعض إلى الاستعانة بمحامين وسداد أتعابهم. وغادر بعضهم المجال الأكاديمي بسبب ذلك. وانسحب بعضهم الآخر من مواقع التواصل الاجتماعي. وقال لنا آخرون إنهم يمارسون الآن الرقابة الذاتية لتجنّب توجيه اتهامات غير صحيحة إليهم، ووصمهم، وحتى عزلهم عن أقرانهم. وأخبرتنا إحدى الأكاديميات أنها حذفت مقاطع كاملة من كتابها الجديد خوفًا من تعرّضها لرد فعل عنيف. يُلحق ذلك أضرارًا شديدة بالحرّية الأكاديمية. الجدير بالذكر أن 35 حادثة من أصل الحوادث الـ53 التي استندنا إليها في أبحاثنا، حصلت في بيئة أكاديمية، وكانت غالبيتها في المملكة المتحدة. من المهم الإشارة أيضًا إلى أن معظم الباحثين الذين تم استهدافهم كانوا مناهضين للاستعمار ويكتبون ويدرّسون عن فلسطين أو إسرائيل أو الشرق الأوسط. وكان معظمهم أيضًا من أصحاب البشرة الملونة أو باحثين فلسطينيين أو يهودًا، ومعظم الطلاب المستهدفين كانوا أيضًا من أصحاب البشرة الملونة، بمن فيهم الفلسطينيون.
في المملكة المتحدة، تُمارس الحكومة ضغوطًا على الجامعات لاعتماد تعريف التحالف. ونتيجةً لذلك، أدرجت أكثر من 200 جامعة بريطانية التعريف في سياساتها، وأُفيد أيضًا عن فرض قيود على الحرية والنقاش الأكاديميَّين. وهكذا، أصبح تعريف التحالف سياسة مُلزمة في جامعات كثيرة، ما أدّى إلى تعرّض الطلاب والموظّفين لإجراءات تأديبية. في معظم الحالات، يُستهدَف الطلاب والأكاديميون بشكاوى (مجهولة المصدر في معظم الأحيان) عن معاداة مزعومة للسامية، استنادًا إلى مقالات أكاديمية بأقلامهم أو منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وأحيانًا، انطلقت الشكاوى من مجرد قيام الأشخاص بمشاركة منشورات أو “وضع علامة الإعجاب” عليها. حتى لو لم يكن لمضمون المنشورات أي علاقة بالكراهية المناهضة لليهود، احتجّ المشتكون بأنها تشكّل خرقًا لتعريف التحالف، وبأنها تُعتبَر بالتالي معادية للسامية.
مع تطبيق تعريف التحالف، نشهد تبدّل الجهة التي يقع على عاتقها عبء الإثبات، حيث لم يعد المشتكي ملزمًا بأن يشرح على أي أساس يُعتبَر سلوكٌ معيّن معاديًا للسامية. يكفي أن يشير المشتكي إلى أن منشورًا على مواقع التواصل الاجتماعي أو علامة إعجاب على منشور تشكّل انتهاكًا لتعريف التحالف كي ينطلق تحقيقٌ تأديبي. في الحالات التي قمنا بتوثيقها، كانت معظم المنشورات تتعلق بالسياسات والممارسات الإسرائيلية، أو بانتقاد الصهيونية كإيديولوجيا سياسية، أو كانت عبارة عن تعليقات على السياسة الدولية أو الداخلية البريطانية (بما في ذلك حزب العمال). وقد رُفِضت كل هذه الشكاوى، أو خلصت التحقيقات إلى أنه ليس للادعاءات أساسٌ من الصحّة.
لكن ذلك يعزّز مناخًا من الرقابة الذاتية. في ألمانيا أو النمسا، استُبعِد عدد كبير من الأكاديميين من فعاليات وأبحاث، أو أُلغيت الدعوات الموجَّهة إليهم جرّاء ضغوط مارستها مجموعات ادّعت معاداتهم للسامية استنادًا إلى تعريف التحالف، ما حدّ من حرّيتهم الأكاديمية، وعلى نطاق أوسع، من حرّية التعبير لديهم. ومن الحالات اللافتة في هذا الصدد قيام أكاديمية فيينا للفنون الجميلة بإلغاء المحاضرة التي كانت الأستاذة الجامعية الفلسطينية ولاء القيسية ستلقيها فيها، قبل أيام قليلة من الموعد المقرر لمشاركتها في ندوة كانت جزءًا من برنامج فنّي يتناول الفكر المرتبط بنزع الاستعمار. وفي ألمانيا، خضعت آنا إستر يونس، وهي باحثة ألمانية فلسطينية في النظرية العرقية النقدية، للمراقبة من إدارة الأبحاث والمعلومات حول معاداة السامية، التي ترصد الممارسات المعادية للسامية، والتي أرسلت ملفًّا سريًّا إلى فرع حزب اليسار (Die Linke) السياسي في برلين يتضمّن ادّعاءات لا أساس لها من الصحة تتعلق بمعاداة السامية والتمييز الجنسي ودعم الإرهاب. ونتيجةً لذلك، أُلغيت الدعوة التي كانت قد وُجِّهت إلى يونس للمشاركة في ندوة من تنظيم حزب اليسار، ولم تتمكّن، منذ ذلك الوقت، من الحصول على وظيفة في المجال الأكاديمي.
على الرغم من هذا الاتجاه المُقلق، نحن على يقين شديد من أن تدخّلنا القانوني، وتعبئة شبكة تضامن، والعدد الكبير من القضايا التي ربحناها تردع المشتكين المعتادين من مواصلة ادّعاءاتهم التي لا أساس لها من الصحة.
يونغ: هل ثمة خطر بأن تخسر عبارة معاداة السامية معناها تدريجًا إذا جرى توسيع تعريفها إلى حد كبير، نظرًا إلى أنها قد تتعرض للتقويض بسبب السجال السياسي المثير للاستقطاب بصورة أساسية؟ بعبارة أخرى، ألن يتفكك الإجماع على مساوئ معاداة السامية عند تحميل العبارة شروطًا سياسية؟
فاسينا وغارسيا: يوسّع هذا السؤال نطاق مهمتنا، لكن معارضين كثرًا لتعريف التحالف يقولون بالفعل إنه يسيء إلى النضال ضد معاداة السامية ويشتّت الانتباه عن النظريات والجرائم الفعلية المعادية للسامية التي تتّصف بالخطورة الشديدة. فالبعض يقول إنه إذا وجب وضع تعريف لمعاداة السامية ، “ثمة تعريفات أفضل من تعريف التحالف، ويمكن استخدامها بالإضافة إليه أو بدلًا منه”. والبعض الآخر يقول إن تعريف معاداة السامية يجب ألا يضعه اليهود فحسب دون سواهم .
وقد حثّ آخرون، مثل خمس عشرة مجموعة يهودية تقدّمية من مختلف أنحاء العالم، منها منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” في الولايات المتحدة، على “الانتقال من مناقشة تعريف معاداة السامية إلى التركيز على سبل تفكيكها، إلى جانب مختلف أشكال العنصرية والتعصّب”. لهذه الغاية، نشرت هذه المجموعات 5 مبادئ لتفكيك معاداة السامية . تعتبر هذه المجموعات أن التعريفات المختلفة التي صدرت منذ وضع تعريف التحالف – ومنها هذا التعريف – تنطوي على خطر “المساهمة في الضبط الشديد للخطاب حول إسرائيل وفلسطين، وتشتيت الانتباه عن المخاطر الحقيقية التي نواجهها نحن اليهود اليوم من المتعصّبين لتفوّق البيض واليمين المتشدّد”، مضيفةً أنّ “تشريع تعريف ثابت لأيّ شكلٍ محدّد من أشكال التعصّب يُضعف الجهود التي يبذلها مجتمعنا لمحاربة التمييز في مختلف السياقات وعلى مر الأزمنة”.
في حين أن داعمي تعريف التحالف يخلطون، على نحوٍ لا أساس له من الصحّة، بين الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ومعاداة السامية، بغية إسكات الانتقادات الموجهة للسياسات الإسرائيلية، من اللافت أن المعاداة الفعلية للسامية من المتعصّبين لتفوّق البيض والنازيين الجدد يمكن أن “تُعذَر” أو أن يُسمَح بها، أو أن تبقى من دون عقاب. ففي الولايات المتحدة، شهدنا على التحالف الغريب بين إسرائيل والمتعصّبين لتفوّق البيض المعادين للسامية . في الآونة الأخيرة، قام الوزير الإسرائيلي الجديد لشؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية بالدفاع عن إيلون ماسك بعدما اتُّهِم باستحضار تعابير مجازية معادية للسامية ونظريات مؤامرة تستهدف جورج سوروس. في أوروبا، سُمِح للنازيين الجدد المتعصّبين لتفوّق البيض بتنظيم مسيرات وإطلاق هتافات معادية للسامية في برلين ومدن أخرى في ألمانيا. أما الفعاليات التي نظّمتها مجموعات فلسطينية وحلفاؤها في برلين لإحياء ذكرى النكبة (التهجير القسري للفلسطينيين ابتداءً من العام 1948 والذي لا يزال مستمرًّا حتى يومنا هذا) فقد حظرتها الشرطة مرّات عدّة ، متذرّعةً بتعريف التحالف لإضفاء الشرعية على خطوتها.
يمكننا أن نؤكّد، من وجهة نظرنا، أن هذا الاستخدام للمعركة ضد معاداة السامية خدمةً لمصالح أجندة الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك من خلال تعريف التحالف، يولّد نوعًا آخر من العنصرية: إنها العنصرية ضد الفلسطينيين التي وصفتها رابطة المحامين العرب الكنديين بأنها “شكل من أشكال العنصرية المناهضة للعرب التي تُسكت الفلسطينيين أو سردياتهم، أو تُقصيهم، أو تمحوهم أو تُلصق بهم صورًا نمطية، أو تشوّه سمعتهم أو تجرّدهم من الإنسانية”. وتكتسي هذه العنصرية أشكالًا مختلفة يعرضها تقرير رائد صادر عن رابطة المحامين العرب الكنديين ، من بينها “تشويه سمعة الفلسطينيين وحلفائهم من خلال الافتراء عليهم عبر وصفهم مثلًا بأنهم معادون للسامية بطبيعتهم، أو يشكّلون تهديدًا إرهابيًا أو متعاطفون مع الإرهاب، أو معارضون للقيم الديمقراطية”.
ملاحظة في نهاية المقال على صفحة مركز كارنيغي:
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.