الأمن الداخلي الروسي مهدد…
نزيف كوادر الشرطة وحرب أوكرانيا
سامر إلياس – باحث سياسي
10\4\2025
فيما تواصل روسيا رفع عديد الجنود في جيشها، وتستدعي أعداداً قياسية للخدمة العسكرية الإلزامية، وتقدم رواتب وتسهيلات كبيرة للمتطوعين في الحرب على أوكرانيا، تبرز مشكلة تزايد النقص في أعداد الشرطة والجهات الأمنية المكلفة بالمحافظة على الأمن الداخلي الروسي ومنع الجرائم الجنائية والاقتصادية، وحراسة السجون.
ورغم أن “نزيف” الشرطيين والموظفين في وزارة الداخلية متواصل منذ سنوات، إلا أن الحرب على أوكرانيا عمقت أزمة الكوادر في الوزارة، وجعلت الأمن الداخلي الروسي عرضة لاضطرابات، قد تزداد مع عودة مئات آلاف الجنود إلى حياتهم المدنية، مع مشكلات تتعلق بصدمة ما بعد الحرب ومشكلات نفسية.
وفي نهاية الشهر الماضي، كشف تحديث صادر عن استخبارات الدفاع البريطانية عن احتمال أن تواجه روسيا نقصاً متزايداً في أعداد الشرطة. وذكرت الاستخبارات، وقتها، أنه “جرى الإبلاغ عن أن بعض المدنيين الروس شكلوا وحدات مسلحة للدفاع عن النفس نتيجة لذلك”. ورجحت الاستخبارات أن انخفاض معدلات استقطاب عناصر جدد إلى الشرطة أو الاحتفاظ بأفراد الشرطة يعود إلى مجموعة من العوامل، أهمها “الرواتب المنخفضة نسبياً، مقابل رواتب أعلى ومكافآت تجنيد ملحوظة في الجيش والصناعات المرتبطة به”. ومع إشارة التحديث الاستخباري البريطاني إلى أن السلطات الروسية تدرك حجم المشكلة، فإنه “من المرجح أن تعتبر القيادة الروسية العليا هذه القضية مصدر قلق، خاصة مع ارتفاع معدلات الجرائم العنيفة، والمتوقع أن تزداد أكثر مع عودة الجنود الروس من الحرب ضد أوكرانيا، الذين تُوجه إليهم اتهامات واسعة بارتكاب فظائع”. لكن التحديث الاستخباري قلل من رغبة السلطات الروسية في حل هذه المشكلة، وخلص إلى أنه “من المتوقع أن تواصل القيادة تخصيص التمويل والموارد للحرب ضد أوكرانيا على حساب الشرطة على المدى القصير إلى المتوسط”.
نزيف متواصل
في 5 مارس/ آذار الماضي، كشف وزير الداخلية الروسي فلاديمير كولوكولتسيف، في اجتماع مجلس إدارة الوزارة بحضور الرئيس فلاديمير بوتين، أن إجمالي عدد الوظائف الشاغرة في وزارة الداخلية ارتفع في العام الماضي بأكثر من 33 ألف وظيفة، وتجاوز 172 ألفاً، منها 145 ألف وظيفة معتمدة. وقال كولوكولتسيف إن “ضابط شرطة واحداً من كل اثنين في المنطقة ممن خدموا أكثر من عشر سنوات استقال خلال العام الماضي”. ولفت إلى أن عمل الشرطة “أصبح أكثر صعوبة”، مشيراً إلى أن “متوسط عدد الدوريات اليومية خلال السنوات الخمس الماضية تراجع بمقدار الربع”. وذكر أنه في العام الماضي وحده، استقال موظف من كل اثنين ممن لديهم خبرة عشر سنوات أو أكثر في قسم الدوريات، لافتاً إلى أن طبيعة العمل في هذا المجال تتطلب معرفة دقيقة بالمنطقة المعنية وتواصلاً يومياً مع المواطنين، وتحتاج إلى سنوات طويلة لمعرفة الواقع كما هو وكسب ثقة السكان.
وعرض كولوكولتسيف في الاجتماع واقع الأمن الداخلي الروسي بسبب النقص في الكوادر وتأثيره على الأمن الداخلي الروسي موضحاً أن النقص في الكوادر المعتمدة في إدارة التحقيقات الجنائية بلغ 23.9%، وفي خدمة الدوريات والحراسة 31.4%، وفي وحدات مكافحة المخدرات 24.7%، وفي هيئات التحقيق الأولي 22.7%. وأشار إلى أن 39 منطقة ومقاطعة في روسيا تعاني من نقص يزيد عن 20% في الكوادر، مع عدم وجود كوادر بالمطلق في عدد من المقاطعات في قسم مكافحة المخدرات. وكشف أنه “من المهم أن 40% يتركون الخدمة قبل الحصول على حق المعاش التقاعدي، ما يجعل عمل أجهزة الشرطة معطلاً بشكل كبير”.
ويتأثر الأمن الداخلي الروسي بتراجع أعداد الشرطة منذ عدة سنوات. وكان كولوكولتسيف وصف، في أغسطس/آب 2023، النقص في عديد ضباط الشرطة والمحققين بأنه أمر بالغ الخطورة على الأمن الداخلي الروسي. فيما ذكر، في مايو/أيار الماضي، أن ضابط شرطة واحداً “يقوم بعمل أربعة”، مضيفاً: “وضعنا لم يتغير فحسب، بل ازداد سوءاً”، مشيراً إلى أن الحوافز المادية ليست كافية لتغطية النقص وتشجيع الإقبال على وظائف في الشرطة.
أدرك العديد من عناصر الشرطة أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى الجبهات طمعاً في الرواتب والمكافآت العالية
وفي تسعينيات القرن الماضي، عانى أفراد الشرطة من تراجع الرواتب، وانتقلوا إلى العمل في شركات أمنية خاصة، أو اختاروا وظائف في القطاع التجاري. وتحسن وضع المنتسبين إلى الوزارة بعد إصلاحات 2011 الجذرية، وحينها رُفعت الرواتب، وزادت الحوافز والتعويضات، ما ساهم في حل المشكلة. لكن الأزمة عاودت الظهور في 2019، حين أتى التضخم على جميع المكتسبات وزاد الضغط على عمل الشرطة والأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية. وحسب الإحصاءات الرسمية، فإن النقص يعود إلى ما قبل الحرب على أوكرانيا، لكن الحرب فاقمتها. ووفقاً لكولوكولتسيف، فإنه كان هناك، في خريف 2022، نحو 90 ألف وظيفة شاغرة في الشرطة، وبحلول ربيع 2024، ارتفع هذا العدد إلى 152 ألف وظيفة، ووصل حالياً إلى أكثر من 172 ألفاً.
تأثير نقص عديد الشرطة على الأمن الداخلي الروسي
وحسب تحقيق استقصائي نشره موقع “فاجني إستوريي” (القصص المهمة) الروسي في سبتمبر/أيلول الماضي، فإن “ما يقرب من خُمس مناصب الشرطة الروسية شاغرة، مع مواجهة ما لا يقل عن 50 منطقة روسية نقصاً حاداً في عدد الموظفين. وفي منطقتي بريمورسكي وماغادان (أقصى شرق روسيا)، هناك ما يقرب من 25% من وظائف الشرطة شاغرة، بينما في شبه جزيرة القرم، هناك حوالي ثلث الوظائف شاغرة”. وأورد التحقيق حينها أمثلة عن تأثير نقص العديد في الشرطة على الأمن الداخلي الروسي، تتمثل في عدم قدرة المواطنين بشكل متزايد على الحصول على المساعدة في المواقف التي تهدد حياتهم. ونقل التحقيق شهادات عن ضباط شرطة تؤكد أنه بسبب كثافة العمل الموكل لهم نظراً إلى النقص في العدد، فإنهم غير قادرين على التعامل مع الحالات المكلفين بمتابعتها والتي تؤثر على الأمن الداخلي الروسي والتي قد تتضمن متابعة سجناء سابقين ومدانين وضعوا تحت المراقبة، وأشخاص يعانون من إدمان المخدرات والكحول، إضافة إلى حالات الاعتداء المنزلي. ورصد التحقيق زيادة في حالات التعذيب بسبب إرهاق ضباط التحقيق والمكلفين بحراسة السجون.
الصفقة الجديدة بين ترامب وبوتين: تداعياتها على أوكرانيا والأمن العالمي
إلى الحرب درّ
يعود النقص في أعداد الموظفين في وزارة الداخلية الروسية إلى أن الشباب لا يريدون الانضمام إلى الشرطة، والضباط الأكبر سناً يتقاعدون أو يجدون وظائف أفضل. ورغم أن قرار التعبئة الجزئية في خريف 2022 جعل العمل في الشرطة خياراً أكثر جاذبية إلى حد ما، فضباط وعناصر الشرطة يمكنهم الحصول على إعفاءات من الخدمة العسكرية، وتجنب مصير قد يكون القتل، فإن النقص في أعداد الشرطة تواصل. ومنذ فتح باب التطوع للقتال في الحرب في أوكرانيا، بدا أن مزيداً من الضباط والعناصر في الشرطة، وبخاصة الوافدين من مناطق نائية، أدركوا أنه من الأفضل لهم الذهاب إلى الجبهات طمعاً في الرواتب والمكافآت العالية، مقارنة بالرواتب الضعيفة والعمل المضني في الشرطة.
يحصل المتعاقد مع وزارة الدفاع على معاش أعلى بنحو سبع مرات من الشرطي
بمراجعة قاعدة بيانات الوظائف الشاغرة الرسمية والمعاشات المطروحة، فإن رواتب ضباط الشرطة الأساسية أقل من المتوسط الوطني البالغ قرابة 60 ألف روبل. فعلى سبيل المثال، تعرض بعض الوظائف راتباً قدره 49 ألف روبل (580 دولاراً) شهرياً، في حين يُعرض على الحراس المرافقين، الذين يضمنون عدم هروب المشتبه بهم والمتهمين من الاحتجاز أثناء التحقيق، 35 ألف روبل (416 دولاراً)، أي قرابة نصف متوسط الرواتب في روسيا. وفي المقابل، وحسب البيانات المفتوحة لإعلانات التطوع في الحرب، فإن المتعاقد مع وزارة الدفاع يحصل على 210 آلاف روبل شهرياً حداً أدنى، وهو أعلى بنحو أربع إلى سبع مرات من معاشات الشرطة، ويصل الراتب حسب الخبرة إلى 350 ألفاً. ويحصل المقاتل المتطوع لمرة واحدة على دفعة من الحكومة الفيدرالية في موسكو قدرها 400 ألف روبل، ومنحة من السلطات المحلية تختلف حسب المنطقة، لكنها تقترب من مليون روبل لمرة واحدة.
وبعيداً عن رغبة بوتين في جعل المقاتلين في أوكرانيا “نخبة روسيا الجديدة”، فإن تطوع رجال الشرطة للقتال على الجبهات يقدم ضمانات كبيرة لهم ولعائلاتهم، رغم أن المخاطر باتت متساوية بين الخدمة في الشرطة في ظل النقص العددي وارتفاع معدلات الجريمة والمهام الكثيرة. وفي الخطوط الأمامية، يتقاضى المتطوعون بدلاً يومياً يتراوح بين 8 آلاف و15 ألف روبل (100-190 دولاراً)، إضافة إلى مكافآت مجزية لتدمير دبابات أو طائرات أو مروحيات العدو. وفي حال الإصابة، يحصل المتعاقدون على العلاج وبدل يتراوح بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين روبل، وخمسة ملايين روبل لعائلته في حال قُتل. ومن المزايا الإضافية، إعفاءات ضريبية وفرص تعليمية لأبنائه في أفضل الجامعات والمعاهد الروسية. وربما يعود جزء من النقص الحالي إلى رغبة عدد من عناصر وضباط الشرطة بانتهاز فترة الحرب، لجمع بعض الأموال، والعودة لاحقاً إلى جهاز الخدمة في وزارة الداخلية، في حال عودتهم أحياء وعدم تلقيهم عروضاً أفضل للعمل، خاصة أن فترة القتال في أوكرانيا تحسب ضمن سنوات الخدمة والأقدمية. وبدلاً من الانتساب إلى الشرطة، فإن الأرجح أن القادرين على العمل في المناطق النائية يفضلون العمل في مصانع وزارة الدفاع التي تعمل على مدار الساعة لتأمين الأسلحة اللازمة للجيش، وتقدم رواتب وحوافز مغرية.
ولا تقتصر مشكلة النقص في وزارة الداخلية على عناصر الشرطة والضباط في مجال الدوريات والتحقيق، بل طاولت مصلحة حماية السجون الفيدرالية. وفي مارس 2024، أفاد رئيس المصلحة أركادي غوستيف أن 19% من المناصب في الخدمة كانت شاغرة، وفي المستعمرات العقابية، حيث يُرسَل الأشخاص المدانين بجرائم بسيطة ومتوسطة الخطورة، يكون النقص أعلى من ذلك، ويصل إلى 30%، على مدى السنوات الخمس الماضية. ويتسبب النقص في تراجع القدرة على حراسة السجناء، وكذلك في زيادة العنف ضدهم وحرمانهم من حقوق كثيرة، وخلق بيئة للتطرف، ومن ضمنه الإرهابي، في صفوف السجناء. وفي العام الماضي، سُجلت أكثر من حادثة تمرد في السجون جنوبي روسيا في فولغوغراد وروستوف، قام بها متطرفون يحملون أفكار تنظيم داعش وتنظيمات متطرفة حسب تقارير السلطات الروسية. وفي الشهر الماضي، اشتكى غوستيف من أن النقص في عدد الموظفين والحراس في السجون وصل إلى 23%، وأن المصلحة تعاني من نقص في عدد الموظفين بنحو 54 ألفاً. ويمتد النقص أيضاً إلى القضاة. وفي نهاية العام الماضي، صرح رئيس الدائرة القضائية فلاديسلاف إيفانوف بأن السلك القضائي ينقصه نحو 6 آلاف و500 قاضٍ، وأن نقصهم يؤثر بشكل مباشر في عمل مصلحة السجون ومراكز الاحتجاز.