الحركة الصهيونية والهند: تحالف قديم بين التعصب والاستعمار

الحركة الصهيونية والهند: تحالف قديم بين التعصب والاستعمار

NIDA ARIF 

نشرت هذه المقالة على الرابط التالي Zionism and India: an old alliance of bigotry and colonialism، بقلم ندا عارف Nida Arif، طالبة دكتوراة في قسم اللغة الإنجليزية/ جامعة دلهي، والتي تعد أطروحتها عن أعمال غسان كنفاني.

ترجمة: محمود الصباغ – كاتب ومترجم فلسطيني

2/9/2023

تسعى هذه المقالة لتقديم قراءة أولية لكتاب آزاد عيسى: “أوطان معادية: التحالف الجديد بين الهند وإسرائيل” (Azad Essa: “HOSTILE HOMELANDS. The New Alliance Between India and Israel (2023).

وآزاد عيسى صحفي من دولة جنوب إفريقيا قام بتغطية الأحداث في فلسطين وكشمير على نطاق واسع، وهما موضوع كتابه الجديد هذا، الذي يعد بمثابة عمل تضامني هائل مع شعوب هذين الوطنين، أي الكشميريين والفلسطينيين. ويكشف فيه عن التاريخ المشترك بين إسرائيل والهند، وعن ملامح التشابه بين الإيديولوجيات البغيضة التي تحكمهما وتدعم مشاريعهما القومية. كما يقدم فيه أحد أكثر الروايات شمولًا التي ظهرت في السنوات الأخيرة حول التحالف “الجديد” بين الهند وإسرائيل. ويؤكد فيها أن إسرائيل باتت تمثل حجر الزاوية في السياسة الخارجية الهندية بسبب التشابه الكبير في تعامل الحكومة مع إقليم كشمير مع المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين.

يتتبع الكتاب الاتصالات القليلة الأولى بين الحركة الوطنية الهندية والحركة الصهيونية؛ بدءً من خطاب جواهر لآل نهرو في العام 1936 (كان حينها أحد زعماء الحركة الوطنية الهندية) والذي أدان فيه بشدة النزعات الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية؛ غير أنه هو نفسه سيحاول، بصفته أول رئيس وزراء للهند المستقلة، التواصل غير الرسمي مع إسرائيل، بل حتى سيحاول دعوتها إلى مؤتمر “باندونغ” في العام 1955. وتكمن الإجابة على هذه التناقضات في الإيديولوجية القومية الهندوسية المعروفة باسم “هندوتفا – Hindutva”، والتي برغم تبنيها موقفاً علمانياً في إطار الحركة الوطنية الهندية (ولاحقاً في جمهورية الهند)، فقد ظلت هذه الإيديولوجية (هندوتفا) تهيمن على النظام السياسي الهندي. وكان العديد من القادة الهنود الذين ناضلوا ضد الاستعمار في الهند من الشخصيات المعادية للإسلام “Islamophobia” بشكل واضح، وقد عبروا عن إعجابهم بالحركة الصهيونية من هذا الباب.

كانت ظاهرة “الإسلاموفوبيا” عميقة الجذور والمتأصلة في الحركة الوطنية في الهند سبباً في ازدياد حدة التوترات وانعدام الأمن لدى المسلمين الهنود الذين يمثلون أكبر أقلية دينية في البلاد. وأدى هذا، بدوره، إلى واحدة من أقسى عمليات ترحيل “ترانسفير” في التاريخ الحديث وأكثرها وحشية، ونقصد بها تقسيم الهند البريطانية إلى جمهوريتي الهند وباكستان. والآن؛ وبعد خمسة وسبعين عاماً من الاستقلال والتقسيم، لم تقم الهند بما يمكن ذكره للاعتراف بهذا الجانب المخزي من تاريخها أو حتى التصدي له ومراجعته، وتمكنت خلال الجزء الأكبر من تاريخها الحديث من الحفاظ على صورة الديمقراطية العلمانية الحديثة. ولم تصبح ظاهرة “الإسلاموفوبيا” بادية للعيان لمن هم خارج شبه القارة الهندية، إلا مع صعود النظام الحالي. لكن القومية الهندوسية “الهندوتفا” لا تتعلق فقط بـ “الإسلاموفوبيا”، بل تتعلق بدرجة من الأهمية مع نظام التقسيم الاجتماعي الطبقي ” casteism”.

التقسيم الاجتماعي الطبقي والهندوتفا والصهيونية

يقصد بالنظام الاجتماعي الطبقي” casteism”  في الهند، تلك البيئة الاجتماعية الهرمية المهيمنة على جميع ملامح النظام السياسي الهندية والتي ينضوي تحت لوائها الأفراد منذ ولادتهم. وهو نظام فريد من نوعه في شبه القارة الهندية، بحيث هناك القليل من القواسم المشتركة مع أي مظاهر تشبهه في مناطق أخرى من العالم. ويعيش المجتمع الهندي هذه الحالة من “الطبقية الاجتماعية” منذ حوالي ألفي عام على الأقل، وينقسم وفقاً لذلك إلى أربع طبقات: البراهمة “Brahmin“ (الطبقة الكهنوتية)، و الكشاتريا “Kshatriya“ (المحاربون)، والفايشيا “Vaishya“ (التجار، والحرفيون، والباعة، والمزارعون)، والشودرا “Shudra“ (الطبقة العاملة). وتنقسم هذه الطبقات الأربع إلى فئات محلية فريدة، في شبه القارة الهندية الشاسعة، تدعى جاتي “jati”؛ كما يُطلق على الأشخاص المولودين خارج النظام الطبقي الاجتماعي اسم المنبوذين، أو كما يسمون أنفسهم “الداليت – Dalit“، وهم أعداد غفيرة من أبناء القبائل المنتشرة في البلاد. وعاشت شرائح الشودرا والداليت، على مدى القسم الأعظم من تاريخ الهند في الألفي عام الماضية، تحت سيطرة الطبقات العليا الوحشية، باستثناء حالات قليلة للغاية نجحت في تحدي الوضع السياسي القائم؛ غير أن هذا لا ينفي رسوخ إرث طويل ومتقادم من تحدي الهيمنة الروحية للطبقات العليا (البراهمة)، وبرغم هذا فمازال الواقع المادي البائس للطبقات الدنيا والمنبوذين يدعو إلى الأسف. ومن المهم الإشارة بعدم اقتصار التقسيمات الطبقية الاجتماعية في الهند على الهندوس فقط؛ بل يمارسها أتباع الديانات الأخرى، كالمسيحية والإسلام، بيد أنها تحتفظ بقيمتها الجوهرية اللاهوتية في كتب الهندوس المقدسة وتشكل مصدر قوتها وسيطرتها المتواصلة.

لم تظهر تحديات ملموسة ضد هيمنة الطبقة العليا في التراتبية الهندوسية إلا في ظل الحكم البريطاني فقط، من خلال سبل جديدة تبناها الحراك الاجتماعي بدأت تتنامى مع ظهور نظام تعليم حديث. وكان الرد على تحدي الهيمنة الطبقية ظهور منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ  (RSS – Rashtriya Swayamsevak Sangh)، وهي بمنزلة الهيئة الأم للحزب الحاكم الحالي في الهند “بهاراتيا جاناتا” (BJP Bharatiya Janata Party).

لا تعتبر منظمة “راشتريا” قوة انتخابية، بمعنى أنها لا تخوض الانتخابات باسمها، غير أنه لا يمنع انتشار فروعها السياسية في أرجاء البلاد، مثل حزب “بهاراتيا جاناتا”، الذي ينافس في الانتخابات بدلاً منها. وتعتبر منظمة “راشتريا” الهيئة الأكثر تنظيماً وحنكة وتأثيراً في الهند. ويشغل أعضاؤها مناصب مهمة في جميع فروع سلطات الدولة الهندية الثلاثة: القضائية والتنفيذية والتشريعية.

أما بالنسبة للصهيونية، فهي -مثلها مثل الطبقية الاجتماعية في الهند- إيديولوجية تفَوُّق مُتَعصّبة تمنح أشخاصاً معينين حقوقاً حصرية على أساس الدين؛ وإقامة دولة يهودية إثنية، أو “أرض إسرائيل”، في فلسطين التاريخية، بحيث تكون خالية من إثنيات أو أديان أخرى. وهو ما تأمل به أيضا النزعة القومية الهندوسية “هندوتفا” في إقامة دولة تقوم على الأمة الهندوسية، أو كما يدعوها “هندو راسترا –  Hindu Rasthra”، في شبه القارة الهندية، حيث يُمارس النظام الاجتماعي الطبقي دون تحديات يفرضها نظام التعليم الحديث ونظام الحكم السياسي.

وتشترك الإيديولوجيتان في الكثير من القواسم المشتركة، ولعل هذا ما جعلهما حليفتين طبيعيتين. ويظهر الكتاب براعة تدعو للإعجاب عندما يدرس هذا التداخل بين “الهندوتفا” و “الصهيونية” في ساحة تم تجاهلها في النظام السياسي الهندي، ونقصد بها “الشتات” الهندي في الولايات المتحدة.

ويوضح آزاد عيسى، بعناية فائقة، التكوين الطبقي لهذه المجموعة، علاوة على تفصيلات معينة حول صياغة قادة الشتات الهندي هياكل اللوبيات الناجحة على غرار “آيباك – AIPAC” (مجموعة اللوبي الإسرائيلي الرائدة). وفي الواقع ساعد قادة “آيباك”، دون كلل، المركز الأميركي الهندي للعمل السياسي (IACPA) لنسخ وتقليد بنية “آيباك” وطريقة عملها.

كشمير وفلسطين

يناقش الكتاب في الفصلين الرابع والخامس، سبعة عقود من تاريخ الهند وكشمير المضطرب. حيث يحمل هذا الإقليم أوجه تشابه قوية مع المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، وكثيراً ما أشار إلى ذلك الكشميريين والفلسطينيين على حد سواء. وبينما تاريخ فلسطين معروف للكثيرين تقريباً، فإن تاريخ كشمير يعاني من التغييب.

أصبحت كشمير -ذات الأغلبية المسلمة- جزءً من الهند في العام 1947 عندما حصلت البلاد على استقلالها. وكان انضمامها إلى الهند محل نزاع كبير ولم يتم اتخاذ أي إجراءات من قبل الدولة المستقلة آنذاك لضمان الإرادة الشعبية. ولعل هذا ما دفع كشمير للتحالف مع دولة باكستان المسلمة بدلاً من الهند ذات الأغلبية الهندوسية. لم يتم إجراء استفتاء قط حول هذه المسألة؛ أو أية محاولة لمراعاة الإرادة الشعبية. وأصبحت كشمير ومقاطعتان أخريان: “جامو” و “لاداخ” ولاية واحدة في أقصى شمال الهند، بإسم “جامو وكشمير”، ومنحت ترتيبات خاصة بموجب أحكام المادة 370 من الدستور الهندي، والتي ضمنت درجة معينة من الحكم الذاتي. إلا أنه تم تفريغ هذه الترتيبات من محتواها بشكل منهجي في العقود القليلة الماضية، وكانت الضربة القاضية في العام 2019، حين سحبت الحكومة الهندية برئاسة ناريندرا مودي جميع الترتيبات والأشكال الخاصة بنظام الحكم الذاتي من كشمير، ليتحول الإقليم إلى ولاية تسيرها الحكومة الفيدرالية دون النظر إلى المادة 370 من الدستور المتعلقة بترتيبات الحكم الذاتي.

وتعد كشمير الآن أكثر منطقة عسكرة في العالم، ويظهر فيها بوضوح بادٍ للعيان التعاون العسكري الوثيق بين الهند وإسرائيل والدروس المستفادة منه؛ فكل ما تجربه إسرائيل على الفلسطينيين تعيد الهند اختباره على الكشميريين.

يطرح الكتاب تساؤلات عدة حول سرديات الإبادة الجماعية للكشميريين “genocide”،  والتي غالباً ما تستخدم لتبرير العمليات العسكرية الهندية المتزايدة هناك، وسحق أي مطلب محلية للحكم الذاتي. وقد مثلت مطالب الكشميريين هذه الدعامة الأساسية لأي خطاب قومي هندوسي يتمحور حول الإقليم، لا سيما في السنوات القليلة الماضية، وساعد هذا الخطاب تأجيج المشاعر الشعبية ضد كشمير. ولمعالجة الأمر بمقتضاه، فقد بات من الضروري أن يعرف الهنود عدم قيام حكومتهم بأي تحقيق رسمي في عمليات “الإبادة الجماعية”، لأنها أصلاً لم تسمح بذلك، فضلاً عن تسهيلها لعمليات النزوح الجماعي.

ويشرح الفصل الأخير عملية الاستيلاء السريع على الأراضي والانتهاكات العديدة لحقوق الإنسان في الإقليم منذ العام 2019. وينتهي بسرد قصير عن حالات قمع الاحتجاجات الشعبية التي أعقبت إقرار قانون آخر مناهض للديمقراطية، وهو قانون تعديل المواطنة ” Citizenship Amendment Act (CAA)”، الذي يحمل أوجه تشابه مذهلة مع قانون يهودية الدولة القومي في إسرائيل.

وباعتباري كنتُ، على صعيدي الشخصي، جزءً من تلك الاعتصامات وشاهدةً على العنف الوحشي المستخدم لكبحها، فقد وجدتُ في تلك الاحتجاجات آمالاً عريضة أعلقها عليها.

مازلنا نتمسك بذلك … بحقنا … أما بالنسبة لأشخاص مثلي يعيشون القصة التي يرويها عيسى، فالأمل لا يمكنه أن يكون إلا فعلاً وعملاً.