العالم في حقبة التجريب
فراس بورزان
6\10\2024
مع نهاية الحرب الباردة، بدا واضحا أن النظام الدولي لم يعد يتشكل من خلال ديناميكيات المنافسة بين القوى الكبرى. فرضت الهيمنة الأمريكية عالما أحاديا، مارست فيه واشنطن نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا غير مسبوق. هذه الحقبة الأمريكية انتهت، وبدأ النظام الدولي يدخل تدريجيا مرحلة جديدة تتسم بعدم اليقين والتعقيد. وأهم ما تتسم به هذه المرحلة هو الضبابية التي تلف ديناميكيات القوة، فلم تعد تلك الديناميكيات بالوضوح الذي كانت عليه في السابق.
بات من الواضح بشكل متزايد بالنسبة للعديد من اللاعبين الرئيسيين، صعوبة ترجمة التفوق العسكري إلى نتائج سياسية ملموسة، إن لم يكن أصبح مستحيلاً. فلم تفض الحروب التي شنتها القوى الكبرى خلال العقد الماضي إلى أهدافها، بل أوجدت حالة من عدم الاستقرار، وخلفت أوضاع أكثر تعقيد وهشاشة.
أظهرت نتائج التجارب الأمريكية والروسية تلاشي القناعة بأن الإمكانيات العسكرية للقوى الكبرى كفيلة بتحقيق نفوذ سياسي حاسم. الحملات الأمريكية في العراق وأفغانستان وليبيا كانت مدعومة بقوة عسكرية ساحقة، ولكن لم يحقق أي منها حلولًا سياسية مستقرة أو نفوذًا طويل الأمد. يمكن قول الشيء نفسه عن الصراع المستمر لروسيا في أوكرانيا، حيث لم تترجم القوة إلى نصر استراتيجي. الرسالة واضحة: القوة العسكرية وحدها لم تعد تضمن النجاح في تحقيق الأهداف السياسية المطلوبة.
على عكس حقبة الحرب الباردة، حين كانت قواعد اللعبة أكثر وضوحًا، جزء من الصعوبة الآن يكمن في عدم اليقين بشأن ديناميكيات القوة الفعلية في الوقت الحالي. باتت اليوم الأمور أكثر غموضًا. القوة الاقتصادية، العسكرية، وحتى النفوذ السياسي لم تعد تترجم إلى سيطرة واضحة. لا تزال القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، الصين، وروسيا مؤثرة، لكن قدرتها على إعادة تشكيل السياسة العالمية بالطريقة التي فعلتها الولايات المتحدة في التسعينيات تتضاءل.
علاوة على ذلك، فإن النفوذ المتزايد للقوى الإقليمية مثل تركيا، إيران، والهند يضيف طبقة أخرى من التعقيد. هؤلاء اللاعبون الإقليميون ليسوا قوى كبرى عالمية، لكنهم يمتلكون ما يكفي من النفوذ لتعطيل التوازنات الإقليمية، مما يجعل من الصعب على أي قوة كبرى فرض إرادتها.
التجريب هي استراتيجية تطبع الحقبة الجديدة، حيث تتبنى القوى الكبرى استراتيجيات لممارسة النفوذ دون الانخراط في صراع مباشر. مبادرة الحزام والطريق الصينية واستخدام روسيا للحرب الهجينة هي أمثلة على الأساليب غير التقليدية لتوسيع النفوذ. تعكس هذه الأساليب حقيقة أن المواجهة المباشرة بين القوى الكبرى تظل غير مرجحة إلى حد بعيد، بسبب الردع النووي الذي يجعل التدمير المتبادل يحوم فوق كل صدام محتمل، ببساطة، الحروب الشاملة أصبحت خيار انتحاري.
غياب الحروب الشاملة لا يعني نهاية الصراع، بل تتحول المواجهة إلى أشكال أكثر استراتيجية. الحرب السياسية، التخريب، الهجمات السيبرانية، والمعركة المستمرة للهيمنة على السرد الإعلامي، كلها أصبحت مركزية في الصراع الحديث. الحروب بالوكالة والتمردات، التي تدعمها القوى الكبرى في كثير من الأحيان، تشّكل مناطق مثل الشرق الأوسط، أوروبا الشرقية، وجنوب شرق آسيا.
هذه الصراعات مدفوعة بذات الأهداف التي شكّلت دائمًا المنافسة بين القوى الكبرى: الرغبة في النفوذ والسيطرة والهيمنة. ومع ذلك، بدلاً من الحروب المفتوحة، تتجلى هذه المنافسة بطرق أكثر خفية، ولكن أكثر تدميرا للمجتمعات الإنسانية.
لكن لا شيء بدون عواقب، فالتجريب والمنافسة غير المباشرة لهما مخاطر ملموسة. بينما تختبر القوى الكبرى حدود النفوذ من خلال وسائل غير عسكرية، تزداد عسكرة البيئات الإقليمية. يزيد صعود نفوذ القوى الإقليمية الطموحة من المخاطر والتوترات، فالقوى الإقليمية عادة ما تكون أكثر استعدادًا للانخراط في مغامرات عسكرية.
من جانب آخر، لا يوجد ما يعيق القوى الإقليمية من اتباع نفس النهج الذي تسلكه القوى الكبرى، وتقليد أساليبها التجريبية. ما سيؤدي إلى دخول الساحات الإقليمية في حلقة مفرغة جديدة، مضيفًا مستوى آخر من التعقيد والمخاطر، ويغرقها في دوامة العنف نتيجة التشظي والتوترات. التدخل الإيراني في سوريا والحروب الإسرائيلية يُظهران بوضوح أن القوى الإقليمية ليست في وضع أفضل من القوى الكبرى، إذ هي الأخرى عاجزة عن تحقيق الحسم وترجمة التفوق العسكري إلى نتائج سياسية ملموسة.
كما أن صعود نفوذ القوى الإقليمية وزيادة قوتها العسكرية يمنحها مساحة أوسع للمناورة والمساومة، مما يضع عبء على عاتق القوى الكبرى، ويزيد من تعقيد التجريب واستراتيجيات المنافسة غير المباشرة، وقد ينتهي بجرها الى الغرق في الرمال المتحركة لصراعات إقليمية مستنزفة لها.
في غياب قواعد واضحة تنظم هذه التفاعلات، والقدرة على الحسم، سيواجه العالم خطر التصعيد المستمر. وهذا يطرح سؤال هل من المحتمل أن تظهر قواعد جديدة بعد سلسلة من الأزمات بسبب الإنهاك والحاجة إلى منع صراعات أكبر؟