العدالة الدولية تواجه الكنيست وسط رفض عالمي لشرعنة الاستيطان

العدالة الدولية تواجه الكنيست وسط رفض عالمي لشرعنة الاستيطان

العدالة الدولية تواجه الكنيست وسط رفض عالمي لشرعنة الاستيطان

تم النشر في مجلة “مسارات” – السودان

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

26\10\2025

شهدت الساعات الأخيرة تصعيدًا دبلوماسيًا وقانونيًا حادًا إثر مصادقة الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يهدف إلى فرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية المحتلة. القرار تحوّل إلى ملف دولي معقّد خاضع لمعايير القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، وأثار موجة بيانات استنكار وإدانة من عواصم عربية وإقليمية وغربية، ما أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدبلوماسية والحقوقية الدولية.

وفي تطور قضائي لافت، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارًا جماعيًا بالإجماع يدين إسرائيل على خلفية انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين الفلسطينيين، مؤكدة أن دولة الاحتلال أخفقت في تنفيذ التزاماتها القانونية. وشمل القرار إدانة خطط الضم والاستيطان، واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، وسياسة التهجير القسري، ما يضفي على المشهد بعدًا قانونيًا جديدًا ويمنح الدول والمنظمات الحقوقية أرضية صلبة للمساءلة الدولية. هذا الحكم القضائي الدولي يعزز من شرعية المواقف الرافضة ويضع إسرائيل أمام تحديات قانونية متصاعدة في المحافل الدولية.

السردية الفلسطينية في ظل التحول العالمي: من التهميش إلى مركزية العدالة

المواقف الرسمية الصادرة عن دول الخليج والأردن وتركيا، وما تبعها من مواقف غربية، لم تكن مجرد ردود فعل عابرة أو بيانات بروتوكولية، بل عكست قلقًا استراتيجيًا متراكمًا وتحولًا في ميزان المصالح الإقليمية والدولية. هذا الإجماع الظاهر يستند إلى ركيزتين أساسيتين: أولًا، رفض قاطع لأي محاولة لفرض سيادة أحادية أو تغيير للحدود يتعارض مع مبادئ القانون الدولي وقرار مجلس الأمن رقم 2234؛ وثانيًا، إدراك عميق لحساسية الأوضاع الإقليمية وخطورة أي خطوة قد تشعل فتيل الانفجار الأمني والسياسي في بيئات هشة مثل غزة والضفة الغربية.

غير أن هذا الإجماع لا يعني بالضرورة وحدة كاملة في الوسائل أو الأهداف. فبينما تدفع بعض العواصم باتجاه تصعيد الضغوط الدبلوماسية وتفعيل القرارات الأممية، تفضّل أخرى تجنّب المواجهة المباشرة حفاظًا على قنوات التواصل ومصالحها الثنائية. هذا التباين يعكس توازنات داخلية وإقليمية معقدة، تشمل اعتبارات استقرار الحدود، وتشابك العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية، فضلًا عن حسابات السياسة الداخلية التي تحدد هامش الحركة لكل دولة. عمليًا، يشكّل هذا الموقف الجماعي “صندوق أدوات دبلوماسي” متنوع يمكن تفعيله تدريجيًا: من بيانات مشتركة ومبادرات في الجمعية العامة ومجلس الأمن، إلى مقاطعات رمزية أو سحب سفراء، مرورًا بدعم قانوني وحقوقي لتوثيق الانتهاكات، وصولًا إلى تنسيق عقوبات انتقائية. وتبقى فعالية هذه الأدوات مرهونة بقدرة الدول على الانتقال من مستوى الإدانة الخطابية إلى مستوى الإجراءات الملموسة والمنسقة، بما يوازن بين الضغط السياسي وضبط مخاطر التصعيد.

إلى جانب ذلك، يبرز دور الفاعلين غير الحكوميين كعنصر حاسم في تشكيل البيئة الدولية للضغط؛ فالمؤسسات الحقوقية، ووسائل الإعلام العابرة للحدود، والجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج، كلها قادرة على تحويل الزخم السياسي إلى قوة دفع مستمرة، تُبقي القضية حاضرة في الرأي العام العالمي وتدفع الحكومات نحو مواقف أكثر صرامة. وهكذا، فإن الإجماع الإقليمي الراهن ليس نهاية المطاف، بل نقطة انطلاق قابلة للتوسيع أو الانكماش تبعًا لتوازن المصالح والأولويات الاستراتيجية لكل دولة.

في هذه اللحظة المفصلية، جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية ليضع ملف الضم الإسرائيلي في مسار قضائي دولي واضح وحاسم. فقد قضت المحكمة بإدانة شاملة، مؤكدة أن دولة الاحتلال أخفقت في الوفاء بالتزاماتها القانونية، ومشددة على محاور أساسية شملت إدانة خطط الضم والاستيطان في الضفة الغربية، وإدانة الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين، وإدانة سياسة التهجير القسري بحق الشعب الفلسطيني. هذه الإدانة، الصادرة بالإجماع، منحت القرار ثقلًا قانونيًا وسياسيًا مضاعفًا أمام المحافل الدولية، ورسخت شرعية الموقف الرافض للضم على المستويين الإقليمي والعالمي.

إن وجود قرار جنائي دولي بهذا الوضوح يغيّر قواعد اللعبة على عدة مستويات: أولًا، ينقل القضية من دائرة السجال السياسي إلى إطار المساءلة الجنائية الدولية، بما يفتح المجال أمام الدول والمنظمات الحقوقية لتتبع المسؤولية الفردية والمؤسسية عن الانتهاكات. ثانيًا، يعزز شرعية الإجراءات الدبلوماسية والعقابية التي قد تتبناها الدول الرافضة للضم، إذ يربط بين الوقائع الميدانية والخروقات القانونية الموثقة أمام هيئة قضائية دولية. ثالثًا، يرفع كلفة المخاطر السياسية على أي طرف يسعى لتقنين الضم عبر تشريعات داخلية، إذ يجعل مثل هذه الخطوات عرضة لتداعيات قضائية ودبلوماسية طويلة الأمد.

أما على صعيد التنفيذ، فإن قرار المحكمة لا يعني بالضرورة تحركًا فوريًا على الأرض، إذ تبقى فعالية آليات العدالة الدولية رهينة بتوافر الإرادة السياسية والتعاون الدولي لتفعيل أدوات مثل أوامر التوقيف أو إحالة الملفات إلى محاكم مختصة. ومع ذلك، فإن صدور إدانة صريحة وشاملة من أعلى هيئة قضائية دولية يزوّد المدّعين والجهات الحقوقية بقاعدة قانونية صلبة لتقديم شكاوى ومطالبات بالمساءلة، ويضع عراقيل جدية أمام محاولات طمس الانتهاكات أو تطبيعها سياسيًا.

من الناحية القانونية، تُعد أي محاولة لفرض السيادة على أراضٍ احتُلت بعد عام 1967 انتهاكًا مباشرًا لمبدأ راسخ في القانون الدولي، وهو مبدأ عدم جواز اكتساب السيادة عبر الاحتلال أو استخدام القوة. ويأتي قرار مجلس الأمن رقم 2234 ليؤكد هذا المبدأ بوضوح، إذ يدين الاستيطان الإسرائيلي ويجزم بعدم شرعيته، ليشكّل بذلك مرجعًا قانونيًا صلبًا تستند إليه الاعتراضات الرسمية والحقوقية على مشروع الضم. كما أن اتفاقيات جنيف، بما تحمله من التزامات تجاه السكان المدنيين في الأراضي المحتلة، تضع على عاتق القوة القائمة بالاحتلال مسؤوليات مضاعفة تتعلق بحماية المدنيين وضمان وصولهم إلى الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، وهو ما يجعل أي إخلال بهذه الالتزامات جريمة موصوفة في القانون الدولي الإنساني.

إن تحويل تشريع داخلي إلى واقع ميداني عبر سياسات ضم واستيطان ممنهجة لا يقتصر على كونه خرقًا سياسيًا، بل يفتح الباب أمام مسارات مساءلة متعددة في المحافل الدولية: من تقديم شكاوى أمام الهيئات الأممية، إلى طلبات تحقيق دولي، وصولًا إلى مقاضاة أمام مؤسسات قضائية دولية مختصة. وتأتي الإدانة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لتضاعف من قوة هذه المسارات، إذ تمنحها غطاءً قضائيًا دوليًا يعزز من جدية الضغوط القانونية والدبلوماسية، ويجعل من الصعب على الاحتلال الاستمرار في فرض وقائع جديدة على الأرض دون مواجهة تبعات قانونية متصاعدة.

سياسيًا، يفتح القرار الباب أمام تصعيد دبلوماسي متدرج قد يشمل سحب السفراء، وتقديم مبادرات في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وربما الدفع نحو فرض تدابير اقتصادية أو عقوبات انتقائية، في ظل تزايد الانتقادات الدولية. وعلى الصعيد الأمني، فإن سياسات الضم لا تقتصر على تكريس واقع استيطاني غير شرعي، بل تسهم في تفجير بؤر توتر جديدة على الأرض، وتعرقل أي ترتيبات تهدئة هشة في غزة، وتغذي مناخات العنف والتطرف بما يهدد الاستقرار الإقليمي برمته.

أما البعد الإنساني، فهو الأكثر إلحاحًا وقسوة؛ إذ تتجلى تداعيات الضم في هدم المنازل وتشريد الأسر، وفرض قيود خانقة على الوصول إلى المياه والدواء والخدمات الصحية، فضلًا عن تعريض الصحفيين والعاملين الطبيين لمخاطر متزايدة. وفي هذا السياق، تكتسب إدانة المحكمة الجنائية الدولية أهمية مضاعفة، إذ توفر إطارًا قانونيًا لتوثيق هذه الانتهاكات وربطها بمسؤوليات جنائية محددة، ما يعزز حجج المدافعين عن حقوق المدنيين، ويمكّن من تحويل المعاناة الإنسانية إلى ملفات قابلة للمساءلة الدولية، ويمنع محاولات تهميشها أو تطبيعها سياسيًا.

السابع من أكتوبر: انهيار فكرة «إسرائيل» القديمة

إن فعالية مواجهة مشروع الضم تظل رهينة بقدرة الأطراف الرافضة على توحيد أدوات الضغط وتكاملها. فالمطلوب ليس الاكتفاء ببيانات الإدانة، بل الانتقال إلى تنسيق دبلوماسي موحد يترجم إلى مبادرات عملية في المحافل الدولية، مدعومًا بجهد قانوني متماسك يفتح ملفات المساءلة، وضغط إعلامي متواصل يفضح الانتهاكات، إلى جانب شراكات مع منظمات حقوق الإنسان لتوثيق الجرائم وتثبيتها في السجلات الدولية. وعلى الدول المنددة أن تحوّل خطابها السياسي إلى خطوات مدروسة ومتدرجة: تبدأ ببيانات مشتركة، ثم تتحول إلى تحركات في الجمعية العامة ومجلس الأمن، وصولًا إلى إجراءات دبلوماسية واقتصادية انتقائية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قنوات تفاوضية مفتوحة لتفادي انفجار أمني شامل قد يفاقم الأوضاع.

أما المنظمات الحقوقية والجهات القضائية الدولية، فإنها تمتلك اليوم فرصة غير مسبوقة للاستفادة من حكم المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة قضايا جنائية ضد أفراد وهيئات متورطة في الانتهاكات، بما يعزز مناخ المساءلة ويحد من الإفلات من العقاب. وفي الموازاة، ينبغي للحلفاء الإقليميين أن يركزوا على آليات حماية إنسانية عاجلة، تضمن وصول المساعدات الطارئة إلى المدنيين المحاصرين وتخفف من معاناتهم اليومية، في مواجهة سياسات الحصار والتجويع التي تُستخدم كسلاح حرب.

إن تصاعد حدة المواجهة حول مشروع مصادقة الكنيست لا يعكس مجرد خلاف سياسي عابر، بل يكشف عن صراع أعمق يتعلق بجوهر النظام الدولي ومعايير القانون التي تنظّم شرعية الاحتلال والاستيطان. فإدانة المحكمة الجنائية الدولية أعادت القضية الفلسطينية إلى مسار قانوني دولي ذي آثار ملموسة، ومنحت المواقف الإقليمية والدولية قاعدة صلبة لتوسيع دائرة المساءلة ومواجهة محاولات فرض الأمر الواقع. التحدي الجوهري اليوم يتمثل في قدرة المجتمع الدولي على ترجمة هذا الإجماع السياسي والإطار القضائي إلى إجراءات عملية وملموسة: آليات حماية للمدنيين، خطوات دبلوماسية منسقة، وضغوط اقتصادية وقانونية تردع الانتهاكات وتعيد التوازن إلى مسار تفاوضي عادل ودائم. إن الطريق نحو ذلك طويل ومعقد، لكنه يظل حاسمًا لمنع تآكل قواعد القانون الدولي الإنساني، وللحفاظ على ما تبقى من فرص السلام العادل والشامل، باعتباره الخيار الوحيد القادر على إنهاء دوامة العنف وإعادة الاعتبار لحقوق الشعوب وكرامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *