بين “هوس النصر” و”ثقافة الموت”: كيف تكرّس روسيا ذاكرة الحرب لخدمة الأجندة القومية والعدوانية؟

بين “هوس النصر” و”ثقافة الموت”:

كيف تكرّس روسيا ذاكرة الحرب لخدمة الأجندة القومية والعدوانية؟

ايغور سيميفولوس - مدير مركز دراسات الشرق الاوسط

ايغور سيميفولوس – مدير “مركز دراسات الأوسط” في أوكرانيا

7\5\2025

في 9 مايو من كل عام، تحتفل روسيا بما يُعرف بـ”عيد النصر” في “الحرب الوطنية العظمى 1941-1945”. لوقت طويل، كان هذا هو الاسم الرسمي لهذا العيد. لكن من منظور المؤرخين، فإن الفترة 1941-1945 هي جزء من الحرب العالمية الكبرى الممتدة من 1939 إلى 1945، والمعروفة بالحرب العالمية الثانية. ما يطرح تساؤلًا مشروعًا حول سبب إصرار روسيا على تخصيص تلك السنوات فقط وإبرازها على نحو مستقل. السبب الجوهري يكمن في أن الاتحاد السوفييتي والنازية الألمانية كانا حليفين خلال العامين الأولين من الحرب، اثر توقيع اتفاق مولوتوف – ريبنتروب الشهير عام 1939، والذي يتجنب الخطاب الرسمي الروسي الحديث الإشارة إليه.

اللافت أن الاحتفال بهذا اليوم في روسيا اليوم بات أكثر صخبًا واحتفاءً مما كان عليه حتى في الحقبة السوفيتية. ويُرجع كثيرون هذا التحول إلى ما يُعرف بثقافة “الپُوبيِدوبِيسْيِه (победобесие)“، وهي ظاهرة اجتماعية انتشرت في المجتمع الروسي خلال العقدين الأخيرين.
فما معنى هذا المصطلح؟

الپُوبيِدوبِيسْيِه” هو نحت لغوي روسي يجمع بين كلمتي “نصر“(победа)  و “جنون/هوس شيطاني (“(бесие (من كلمة “بِيس (Бис)” أي الشيطان)، ويمكن ترجمته حرفيًا بـ “هوس النصر” أو “جنون النصر”، إلا أن معناه أعمق وأكثر خصوصية في السياق الروسي. حيث يشير إلى تمجيد مفرط وغير عقلاني لانتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وهو تمجيد أصبح أداة مركزية في الدعاية الرسمية في روسيا المعاصرة. هذا التمجيد تجاوز حدود الفخر التاريخي المشروع وتحول إلى طقس عسكري عدواني يُستخدم لتبرير النزعة القومية، والسلطوية، بل وحتى العدوان العسكري، كما في حالة الحرب ضد أوكرانيا. وهذه الظاهرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدعاية الرسمية، والأسطرة التاريخية، وعملية تسييس الذاكرة الجماعية. ليصبح طقسًا سياسيًا واجتماعيًا يُفرض على المجتمع بكافة مؤسساته، وتَستَخدم فيه الدولة أدوات ضخمة مثل الإعلام الرسمي، التعليم، الكنيسة الأرثوذكسية، والعروض العسكرية، لترسيخ سردية الدولة باعتبارها “الوريثة الشرعية للبطولة السوفييتية”، والمُنقذ الأبدي للبشرية من “النازية”.

الأمن الداخلي الروسي مهدد … نزيف كوادر الشرطة وحرب أوكرانيا

السمات الرئيسية لهذه الظاهرة تشمل:

  1. أسطرة النصر والانفراد بالمجد: يتم تقديم انتصار 1945 على أنه إنجاز حصري “للشعب الروسي”، مع تهميش أو تجاهل تام لدور باقي شعوب الاتحاد السوفييتي السابق، أو حتى دول الحلفاء الغربيين. ويُحذف من الخطاب الرسمي أي ذكر للحقائق التاريخية المُحرجة، مثل توقيع اتفاق مولوتوف–ريبنتروب، أو الجرائم التي ارتكبها النظام الستاليني، أو مساهمة الولايات المتحدة في دعم الاتحاد السوفييتي من خلال قانون “ليند-ليز (Lend-Lease Act) – الإعارة والتأجير)” الذي تم توقيعه عام 1941، وبلغ إجمالي قيمة المساعدات الأمريكية للاتحاد السوفييتي خلال الحرب نحو 11.3 مليار دولار، أي ما يعادل وفقًا لمعايير اليوم ما بين 180 إلى 220 مليار دولار أمريكي تقريبًا.
  2. طقوسية الذاكرة والمسرحة الدعائية: يتحول يوم النصر إلى عرض مسرحي ضخم، تبدأ به الدولة في وقت مبكر من كل عام، وتبلغ ذروته في استعراضات عسكرية، ومسيرات “الفوج الخالد”، حيث يحمل المشاركون صور أقاربهم الذين قاتلوا في الحرب. إلى جانب رموز مثل “شريط القديس غيورغي” الذي أصبح رمزًا للتسلح العدواني ويدل على دعم الحرب ضد أوكرانيا. هذه الطقوس لم تعد تعبيرًا شعبيًا عفويًا، بل أصبحت أحداثًا مُعلبة ومُسيّسة، تُستخدم لتغذية المشاعر القومية ودعم الخطاب الرسمي.
  3. الخطاب العدواني والقمع الرمزي واللفظي للمخالفين: كل من يُحاول مساءلة الرواية الرسمية أو تقديم قراءة نقدية للتاريخ يُتهم بتزييف التاريخ، أو بـ “العداء لروسيا” و “الروسوفوبيا”. أصبح انتقاد مظاهر هذا الاحتفال أو التشكيك في جدواه تهمة اجتماعية وربما جنائية، بعدما فُرضت قوانين تُجرّم “الإساءة لرموز المجد السوفييتي”.
  4. أدلجة الماضي لتبرير الحاضر وتوظيف النصر في الحروب الحديثة: الأهم من ذلك، أن ثقافة “الهوس بالنصر” باتت تُستخدم لتبرير الحروب الروسية المعاصرة، لا سيما العدوان على أوكرانيا منذ 2014، وتصاعدًا بعد الغزو الشامل في 2022. الدولة الروسية تُقدّم غزوها العسكري على أنه “امتداد للمعركة ضد النازية”، وتصوّر أوكرانيا كنسخة حديثة من ألمانيا الهتلرية، في عملية تزييف تاريخي فجّ واستغلال مباشر للذاكرة الجماعية.
  5. كهنة الحرب الجدد: من “الأجداد الذين قاتلوا” إلى “الأحفاد الذين يغزون: تُستغل صورة “الجد المحارب” كمصدر شرعية رمزية لجيل جديد من الجنود، يُطلب منهم “تكرار البطولة”. لكن الدولة الروسية الحالية، في الوقت ذاته، تتجاهل واقع معاناة المحاربين القدماء، وتُهمّش أُسرهم، مكتفية باستخدامهم كرموز إعلامية لا أكثر. ويُستخدم شعار “الأجداد قاتلوا” كمبرر للطموحات الإمبريالية المعاصرة.
  6. الرومانتيكية القاتلة: من “تمجيد النصر” إلى “ثقافة الموت”
    تقترن هذه الثقافة بشيء أعمق وأشد خطورة، “ثقافة الموت، وهي ظاهرة ثقافية روسية تاريخية تعظّم قيمة الاستشهاد والتضحية بالنفس في سبيل الوطن أو “الفكرة الكبرى”. مثل تمثيل الأطفال في رياض الأطفال اقتحام “الرايخستاغ”، أو بيع سلع في المتاجر مزينة برموز “النصر”، أو تنظيم “فلاش موب” وطني كجزء من الحياة اليومية. تستند هذه الفكرة إلى عناصر دينية وأدبية تعود إلى الأرثوذكسية الروسية وأدب القرن التاسع عشر، وتم إحياؤها سياسيًا في روسيا المعاصرة.

كل هذا يُكرّس تصور روسيا كدولة “منتصر أبدي” لها الحق في فرض إرادتها، ويعزز كراهية الأجانب والشوفينية، خاصة بين الشباب، عبر برامج عسكرية مثل “جيش الشباب”، ويربط بين الطاعة للنظام والانتماء الوطني. فالنقد يُعد خيانة لـ”النصر”.

في هذا السياق، يُروَّج لموت الجنود الروس – لا سيما في أوكرانيا – كـ”بطولة مقدسة”. يُصوَّر القتلى على أنهم “شهداء الأمة”، وتُمنح عائلاتهم تعويضات ضخمة في مقابل صمتهم. تُدرّس للأطفال دروس بعنوان “أحاديث عن الأمور المهمة”، يُمجد فيها الموت في ساحات القتال. ويُروّج لرموز مثل حرف “Z” على أنها شعارات “القتال المقدس”.

الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ممثلة بالبطريرك كيريل، تُضفي على الحرب طابعًا لاهوتيًا، واصفة إياها بـ”المقدسة”، واعدة الجنود المقتولين بـ”الخلاص الأبدي”. هذه الثنائية بين “هوس النصر” و”ثقافة الموت” تؤسس لفلسفة خطيرة: أن الحياة لا تساوي شيئًا أمام المجد، وأن الموت لأجل الدولة ليس فقط مقبولًا، بل هو أشرف المصائر.

خمس مفاجآت للعام الأول للحرب الإسرائيلية على غزة

وهوس النصر هذا يرتبط بظاهرة ثقافية روسية أعمق: “ثقافة الموت”.
هذه الثقافة المزدوجة، المتجذرة في الأيديولوجيا الروسية والتي تمجّد النصر وتمزج المجد بالموت، أدّت إلى تسليع الحياة وتهميش الكرامة الإنسانية. حيث يتم تطبيع فقدان عشرات الآلاف من الأرواح، ولا يُعدّ ذلك سببًا للغضب أو التظاهر، بل يُقدَّم كقدر وطني. جيلٌ كامل ينشأ اليوم في روسيا وهو يتلقى رسائل مباشرة مفادها أن عليه أن يكون مستعدًا للقتال والتضحية بالنفس، والمعاناة، والموت من أجل “هدف أسمى”، كالدولة أو الإيمان أو الفكرة. هذه العبادة تتغذى اليوم من الدعاية الرسمية التي تُجمل موت الجنود وتُبرر الخسائر الجماعية. يتم تلقينه بأن الوطن “دائما منتصر”، وأن كل تراجع أو نقد هو “خيانة” لدماء الأجداد.

تعود جذور هذه الثقافة إلى الأرثوذكسية الروسية والتقاليد الإمبراطورية والفكر الأدبي الروسي. فقد مجدت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تاريخيًا الشهادة والمعاناة كطريق للخلاص. وهذا واضح في أدب دوستويفسكي، والأيقونات الدينية، وفكرة التضحية من أجل “القيصر والوطن” التي كانت محورًا في أيديولوجية الإمبراطورية الروسية ثم السوفيتية. وقد أصبحت عبادة الأبطال الذين “ضحوا بأرواحهم لأجل الوطن” حجر الزاوية في الدعاية. ثقافة الموت كأسمى أشكال الوطنية تخترق الأدب (مثل شعر بوشكين وتفاردوفسكي) والسينما الروسية.

أوكرانيا.. هل ينجح رهان بوتين على التقدم العسكري للقوات الغازية؟

في روسيا الحديثة، يتجلى هذا في تمجيد قتلى غزو أوكرانيا.
في سياق الحرب ضد أوكرانيا (منذ 2014، وخصوصًا بعد 2022)، يُوصَف الجنود الروس الذين قُتلوا بأنهم “أبطال”، ويتم تصوير موتهم كـ “عمل بطولي”. الدعاية الروسية تُروّج لفكرة “الموت من أجل روسيا”.
حرف “Z” رمز الحرب، أصبح يُجسد الاستعداد للتضحية والقتال “المقدس”. ويتم تلقين الأطفال أن الموت في سبيل الدولة هو شرف عظيم. دروس مثل “أحاديث عن الأهم” تُكرّس تمجيد القتلى في ما تطلق عليه روسيا “العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا”. كما يُستخدم خطاب “أمهات الأبطال” دعائيًا، فالدولة تقدم تعويضات مالية لعائلات القتلى، لكنها تُخفي الحجم الحقيقي للخسائر.
الكنيسة الأرثوذكسية الروسية منخرطة في هذا أيضا، حيث تُعزز هذا الخطاب، واصفة الحرب بأنها “مقدسة”، وتَعِد القتلى بـ”خلاص الروح”. حتى أن البطريرك كيريل حثّ الجنود على عدم الخوف من الموت.

كل ذلك يؤدي إلى تفريغ الحياة من معناها، وعسكرة الوعي، وتدمير نفسي لأجيال كاملة. فثقافة الموت تجعل المجتمع غير مبالٍ بآلاف القتلى.

التقارير الرسمية تقلل من حجم الخسائر في أوكرانيا، والتقديرات تشير إلى عشرات الآلاف من القتلى دون إثارة غضب شعبي. الشباب يُربى على الاستعداد للحرب والموت، بدعم من الترويج لصورة “روسيا القوية” التي “نهضت من الركوع”. رومانسية الموت تُناقض المآسي الحقيقية لعائلات المفقودين، لكن أصواتهم تُقمع بواسطة الدعاية الاعلامية.

“هوس النصر” و “ثقافة الموت” يشتركان في جوهر واحد: كلاهما قائم على عسكرة المجتمع، وتمجيد الدولة كقيمة عليا تستحق كل التضحيات. يَستغِل “هوس النصر” النصر عام 1945 ليضفي الشرعية على “موت الأجداد البطولي”، كمبرر للحروب المعاصرة. أما “ثقافة الموت” فتصور الموت في الحرب كغاية سامية ومشرّفة. كلا الظاهرتين تُحرّفان التاريخ وتروّجان لأسطورة “روسيا المتألّمة دومًا، لكنها لا تُهزم”.
وفي السياق الأوكراني، يُستخدم “هوس النصر” لتبرير العدوان عبر خطاب “تكرار بطولة الأجداد”، فيما تجعل “ثقافة الموت” الخسائر مقبولة اجتماعيًا.

النتائج المأساوية: تآكل المعنى وتحطم الإنسان

في النهاية، تقودنا هذه الظاهرة إلى فهم أعمق لكيفية تحول الذاكرة الجماعية إلى أداة طيعة في يد الأنظمة الاستبدادية، تُستخدم لإعادة كتابة التاريخ، وصياغة الحاضر، وتوجيه المستقبل، تحت راية “النصر” و”الشهادة”، ولكن على حساب الحقيقة، والحياة، والإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *