تآكل الدرع الجوي الروسي
تحولات جيوسياسية تُعيد تشكيل سباق التسلح العالمي والإقليمي
اعداد مركز “فيجن” للدراسات الاستراتيجية
29\6\2025
لم تعد منظومات الدفاع الجوي الروسية، التي لطالما شكلت ركيزة أساسية للعقيدة العسكرية لموسكو ومصدر نفوذ جيوسياسي، عصية على الاختراق. إن موجة الانتقادات العلنية من حلفاء مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والخسائر المتزايدة في ساحات القتال بأوكرانيا، بالإضافة إلى فعالية الكيان الإسرائيلي في اختراق هذه الدفاعات في الشرق الأوسط، ترسم صورة قاتمة لمستقبل الصناعات الدفاعية الروسية. هذا التآكل في السمعة والموثوقية لا يضعف مكانة روسيا كقوة عسكرية فحسب، بل يُشكل تحولًا عميقًا في ديناميكيات سوق الدفاع الجوي العالمي، ويدفع دولاً رئيسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل إيران والجزائر، إلى البحث عن بدائل استراتيجية جديدة لتعزيز ترسانتها العسكرية، تبرز فيها الصين كلاعب محوري.
تآكل الثقة في المنظومات الروسية: الدروس القاسية من الميدان
إن السمعة التي بنتها روسيا لمنظوماتها الدفاعية الجوية S-300 وS-400 على مدار عقود، على انها “أسلحة لا مثيل لها”، تنهار تدريجياً أمام الحقائق الميدانية القاسية:
خسائر S-400 وS-300 في أوكرانيا:
لقد كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا عن ثغرات واضحة في منظومة الدفاع الجوي الروسي. على الرغم من القدرات النظرية لهذه الأنظمة، فقد تعرضت وحداتها لضربات متكررة خلال فترة الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. على سبيل المثال خلال الأشهر الستة الأخيرة (منذ أواخر 2024 وحتى منتصف 2025): تم تدمير رادارات S-400 في القرم (26 يونيو 2025) تمكنت القوات الأوكرانية، في ضربة نوعية، من تدمير راداريّ 91N6E “Big Bird“ الرئيسيين لمنظومة S-400 في شبه جزيرة القرم المحتلة. هذه الرادارات حاسمة للقيادة والتحكم وتحديد الأهداف بعيدة المدى. خسارة هذه المكونات الحيوية تُعد بمثابة شلل جزئي لقدرة المنظومة على الكشف والتوجيه الفعال، مما يؤكد أنها ليست منيعة أمام الهجمات الصاروخية الدقيقة والذكية. كذلك أظهرت صور الأقمار الصناعية (أواخر 2024) تعرض منظومة دفاع جوي روسية قرب بيلغورود لأضرار بالغة، يُعتقد أنها شملت مكونات من S-300 أو S-400. هذا يشير إلى استمرار قدرة أوكرانيا على اختراق الدفاعات الروسية حتى داخل الأراضي الروسية. أيضا استهدفت القوات الأوكرانية (أوائل 2025) وحدات رادار متنقلة مرتبطة بأنظمة S-300 في مناطق مثل خيرسون وزابوريجيا، مما أثر على قدرة روسيا على اكتشاف التهديدات الجوية وتتبعها في هذه المحاور الحيوية.
اختراق S-300 الإيرانية بواسطة الكيان الإسرائيلي:
في سياق الحرب الجوية بين الكيان الإسرائيلي وإيران، أفادت تقارير موثوقة بنجاح الكيان في تعطيل أو تدمير جزء من كبير منظومة S-300 الإيرانية بالقرب من منشأة نطنز النووية (منذ أبريل 2024، مع تصاعد المواجهات اللاحقة). هذا الاختراق يُسلط الضوء على نقاط ضعف هيكلية في التصميم الروسي، حيث انه على الرغم من أن S-300 هي جيل أقدم من S-400، فإن نجاح الهجوم يثير تساؤلات حول نقاط ضعف هيكلية مشتركة محتملة في تصميم الشبكات الدفاعية الروسية، أو في تكتيكات نشرها وتشغيلها من قبل الدول التي تقتنيها.
هذه الحوادث المتكررة تُقوض السرد الروسي حول تفوق منظوماتها الدفاعية، وتُشير إلى أنها ليست منيعة أمام التهديدات المتطورة والتكتيكات الهجومية المبتكرة.
إعلان سياسي – عسكري تركي يعكس تحولاً استراتيجياً
تجاوزت انتقادات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمنظومة S-400 الروسية الجانب الفني، لتُصبح إعلانًا سياسيًا وعسكريًا يعكس إدراك أنقرة لمتغيرات المشهد الأمني الإقليمي والدولي. حيث كان تصريح الرئيس أردوغان واضحا وقويا: “لقد رأى مجتمعنا هذا بوضوح. إن أنظمة S-400 التي اشتريناها من روسيا لا يمكنها توفير الحماية الكافية لبلدنا في ظل التطورات الأخيرة بين إسرائيل وإيران. نحن بحاجة إلى منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات. الـ 2.5 مليار دولار التي استثمرناها في S-400 لم تمنحنا ضمانة أمنية، بل فقط سببًا للتفكير. إن التقدم التركي في مجال الدفاع الجوي لا يزال غير كافٍ، والآن نراهن على تطوير أنظمتنا الخاصة مثل Siper وKorkut وHisar وSungur. هذه الأنظمة لم تكن لتظهر لو أن بلدنا ظل “جالسًا في مكانه” ويواصل شراء الأسلحة من الخارج”.
هذه التصريحات تعطي العديد من الدلالات الاستراتيجية، في مقدمتها خيبة الأمل من الاستثمار الجيوسياسي، حيث مثّل شراء S-400 تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة وحلف الناتو، وكلف تركيا استبعادها من برنامج F-35. اليوم، يبدو هذا الاستثمار، الذي كان يُنظر إليه كعلامة على استقلالية القرار التركي وتقاربه مع روسيا، أقل جدوى في عيون القيادة التركية، خاصة بعد أن أظهرت “التطورات الأخيرة” هشاشة هذه الأنظمة في مواجهة تهديدات حقيقية. كذلك تعكس كلمات الرئيس أردوغان رؤية واضحة لتعزيز القدرات الدفاعية التركية الذاتية. هذا المسعى للاكتفاء الذاتي ليس مجرد طموح صناعي، بل هو ضرورة استراتيجية لتقليل التبعية لمصادر السلاح الأجنبية وضمان المرونة في التعامل مع المتغيرات الجيوسياسية. بالإضافة الى ذلك قد يكون هذا التصريح أيضًا بمثابة إشارة للغرب، وخاصة الولايات المتحدة وحلف الناتو، بأن تركيا تعيد تقييم خياراتها الدفاعية. في ظل التوترات المتصاعدة، قد تسعى أنقرة لإعادة بناء الثقة مع حلفائها الغربيين.
تحولات سوق الدفاع الجوي العالمي: تراجع روسي وصعود صيني
يقدر حجم سوق أنظمة الدفاع الجوي العالمي بنحو 48.32 مليار دولار في عام 2025، ومن المتوقع أن ينمو بشكل كبير. في هذا السوق المتغير، تواجه روسيا مأزقًا حادًا. إذ انخفضت صادرات الأسلحة الروسية بنسبة 47% منذ عام 2022، وتراجعت حصتها في سوق مبيعات الأسلحة العالمية من 9.2% في عام 2021 إلى 4.6% بحلول عام 2024. هذا الانخفاض يعكس تآكل ثقة العملاء وانخفاض الطلبات من دول رئيسية مثل الهند والصين. كذلك تُشير عدة تقارير إلى أن روسيا تُزوّد العملاء الأجانب بنسخ “مبسطة” أو “محدودة القدرات” من أنظمة S-400. هذا التكتيك، إذا ثبت، يُعمّق من عدم الثقة بين العملاء وروسيا.
في المقابل تستفيد الصين بشكل كبير من تراجع الثقة في الأنظمة الروسية. لا تُقدم بكين فقط أنظمة دفاع جوي متطورة (مثل سلسلة Hongqi) وتكنولوجيا الطائرات المسيرة، بل أصبحت أيضًا موردًا رئيسيًا للمقاتلات المتقدمة. هذا التوسع الصيني يُنافس الهيمنة الغربية والروسية التاريخية، ويُقدم خيارات “أقل قيودًا” للعديد من الدول.
ديناميكيات سباق التسلح الإقليمي: الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على المحك
تُعيد هذه التحولات تشكيل سباق التسلح في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتُثير مخاوف استراتيجية عميقة.
الدول التي اعتمدت أو كانت ستعتمد على المنظومات الروسية ستُعيد تقييم خياراتها، وتُوجه أنظارها نحو أنظمة الدفاع الجوي الغربية (باتريوت، SAMP/T)، بالإضافة الى الأنظمة الإسرائيلية (القبة الحديدية، مقلاع داود) التي لم تكن ذات فعالية مطلقة، فقد تمكنت العديد من الصواريخ الإيرانية من اختراق الدفاعات المتعددة الطبقات. كذلك ستُركز الدول على بناء شبكات دفاع جوي متكاملة متعددة الطبقات وقادرة على التعامل مع الطائرات المسيرة الرخيصة والوفيرة، والأسلحة فرط الصوتية.
وبعد الضربات التي أضرت بقدرات إيران العسكرية (سلاح الجو والدفاع الجوي)، تسعى طهران لتعويض خسائرها. القلق الإسرائيلي يتصاعد من احتمال حصول إيران على طائرات J-10C الصينية. هذه المقاتلات من الجيل 4.5، المجهزة برادار AESA وصواريخ PL-15 بعيدة المدى، يمكن أن تُغيّر بشكل جذري موازين القوة الجوية في المنطقة وتُعقد أي عمليات جوية إسرائيلية مستقبلية. كذلك تُشير تقارير استخباراتية وتحليلات عسكرية إلى أن الجزائر، التي تُعد تقليديًا من أكبر مشتري الأسلحة الروسية، تُظهر اهتمامًا كبيرًا بالحصول على طائرات J-10CE الصينية، وربما حتى مقاتلات الجيل الخامس FC-31 (J-35). إذا تم هذا الشراء، سيكون له تداعيات كبيرة على التوازن العسكري في شمال إفريقيا. الجزائر تسعى لتحديث أسطولها الجوي وتنويع مصادرها بعد أن أظهرت الحرب الروسية على أوكرانيا قيودًا على التوريدات الروسية، كما أن الجودة التكنولوجية الصينية تُقدم بديلاً جذابًا. هذا من شأنه أن يعزز قدرة الجزائر الجوية بشكل كبير ويثير مخاوف لدى جيرانها الأوروبيين والإقليميين.
إن هذه الشراكات العسكرية بين الصين ودول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعيد رسم قواعد الاشتباك. بكين تُقدم بديلاً ذا جودة عالية وأقل قيودًا سياسية مقارنة بالغرب، مما يُمكن الدول من تعزيز قدراتها العسكرية دون التوافق مع أجندات سياسية معينة.
خارطة دفاع عالمية وإقليمية متغيرة
إن تآكل سمعة الدفاعات الجوية الروسية ليس مجرد مشكلة تقنية لموسكو، بل هو زلزال استراتيجي يُعيد تشكيل خارطة سباق التسلح في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الدول الآن تبحث عن حلول دفاعية أكثر موثوقية وتنوعًا، وتُعيد تقييم تحالفاتها، بينما تُقدم قوى صاعدة مثل الصين بديلاً استراتيجيًا يمتلك القدرة على تغيير موازين القوى الإقليمية بشكل جذري.
روسيا، من جانبها، تواجه تحديًا صعبًا لصناعتها الدفاعية. سيتعين عليها إما تحديث أنظمتها بشكل جذري وإثبات فعاليتها في بيئات قتالية حقيقية، أو المخاطرة بفقدان المزيد من حصتها السوقية ونفوذها الجيوسياسي. هذه التغيرات لا تُهدد مكانة روسيا كـ “قلعة حصينة” في مجال الدفاع الجوي فحسب، بل تُعيد تشكيل خارطة التحالفات وموازين القوى في مناطق حيوية، مما قد يؤدي إلى سباقات تسلح جديدة وديناميكيات أمنية أكثر تعقيدًا.