تمرد “فاغنر” …. كيف، ولماذا، وماذا بعد؟
بالتعاون بين مركز “فيجن” للدراسات الاستراتيجية – كييف
ومركز دراسات الشرق الأوسط – كييف
6/7/2023
مساء 23 يونيو 2023، اتهم زعيم مرتزقة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، وزارة الدفاع الروسية بشن هجوم صاروخي على المعسكرات الخلفية للمرتزقة. وبسبب هذا، أعلن الحرب على وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
ماذا حدث في روسيا في عملية شد الحبل بين يفغيني بريغوجين وفلادمير بوتين؟
ان الذي حدث في روسيا يمكن تصنيفه كعملية “عصيان عسكري”، قادها رئيس وقائد ميليشيا “فاغنر” العسكرية، يفغيني بريغوجين، ضد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة أركان القوات الروسية، غيراسيموف، وليس تمرد او محاولة انقلاب على النظام والإطاحة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كان هذا واضحا منذ البداية من خلال التصريحات الكثيرة ليفغيني بريغوجين، التي كان يتهم فيها وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان بعدم تزويدهم بكميات كافية من الذخائر والأسلحة مما أدى الى عرقلة احتلال مدينة باخموت الأوكرانية، وسقوط اعداد كبيرة من القتلى في صفوف “فاغنر”. وتفاقم الامر بعد التطورات الأخيرة، حيث فرضت وزارة الدفاع الروسية على جميع عناصر الميليشيات التابعة للشركات العسكرية، ومن ضمنها طبعا ميليشيا “فاغنر”، توقيع عقود مباشرة مع وزارة الدفاع الروسية والخدمة في الجيش الروسي كمتعاقدين مع وزارة الدفاع. علما ان هذه الشركات العسكرية تم تأسيسها تحت ضغط السلطات الروسية.
اعتبر يفغيني بريغوجين ان توقيع العقود مباشرة مع وزارة الدفاع الروسية هو محاولة للسيطرة المباشرة على مرتزقته والسيطرة على شركته التي تدر عليه مليارات الدولارات، من خلال تواجد مرتزقته في العديد من دول افريقيا (السودان، الجزائر، ليبيا، مالي، بوركينا فاسو…. الخ) والسيطرة على مواردها الطبيعية ومناجم الذهب والألماس واليورانيوم والنفط.
بالإضافة الى ان وزارة الدفاع الروسية لم تقم بتسديد مستحقات شركة “فاغنر” العسكرية، البالغة 4 مليار دولار نقدا (ليس عبر تحويلات بنكية).
تذرع بريغوجين بعملية قصف لمعسكر يتواجد فيه عناصر ميليشياته، ليقوم بتحريك قواته والسيطرة على مدينة روستوف، المحاذية لإقليم دونيتسك الاوكراني، و على مركز قيادة الحرب الروسية على أوكرانيا، بدون أي مقاومة عسكرية على الاطلاق من قبل عناصر الجيش الروسي، وأيضا، يمكن القول، قام بـ “أسر” نائب وزير الدفاع الروسي ونائب قائد هيئة الأركان الروسية، وظهر في فيديو معهم وهو يقول لهم انه يريد ان يحاسب وزير الدفاع ليرد عليه نائب وزير الدفاع “اذهب واعتقله”.
توجهت أيضا بعض القوات مباشرة نحو موسكو التي تبعد عن روستوف نحو 1000 كم. وسيطرت في طريقها على مدينة فورونيج، وجميع القواعد العسكرية للجيش الروسي والحرس الوطني فيها، بدون أي مقاومة. ووصلت ميليشيا “فاغنر” الى مشارف العاصمة الروسية موسكو.
كل ما ذكر أعلاه يذكرنا بصراع بين “مافيات” تحاول السيطرة على تجارة تدر الكثير من الأموال، كما كان يحدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانتشار الجريمة المنظمة حينها.
من خلال هذا التحرك العسكري الذي قام به رئيس شركة “فاغنر” ومرتزقته يمكن الوصول الى بعض الاستنتاجات:
- ضعف روسيا وبريغوجين وبوتين – سيناريوهات سيئة بنفس القدر، لن يكون هناك استقرار فيما لو انتصر “المتمردون”، وأيضًا مع بقاء بوتين.
يعتبر تمرد بريغوجين العسكري ضد الرئيس بوتين عاملاً مزعزعًا للاستقرار داخل وخارج روسيا. حيث اظهر أن القوة الهرمية للحكم في روسيا هشة وضعيفة، وقيادة الدولة غير قادرة على حل النزاعات الداخلية، حيث يلجأ بوتين إلى الدول الشريكة للمساعدة: كازاخستان، بيلاروسيا، إلخ. ومع ذلك، بدلاً من إيقاف مرتزقة “فاغنر”، فر بوتين من موسكو، وبعد مفاوضات بين رئيس بيلاروسيا الكساندر لوكاشينكو ويفغيني بريغوجين، أسقط جميع التهم الموجهة ضد الأخير، الامر الذي يشير الى خوف الرئيس الروسي بوتين وفقدان مكانة “الزعيم العظيم” التي صنعها على مدار عقود طويلة.
قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني إن الأحداث الأخيرة أثبتت أن “روسيا العظيمة والموحدة”، التي يجب على العالم أن يخشاها، لا تملك حتى الاحتياطيات الداخلية لمنع أو وقف تمرد عسكري محتمل. تم إلقاء المجندين والعمال المجتمعيين والمجموعات الصغيرة من الحرس الروسي، الذين لم يتمكنوا حتى من إيقاف مجموعة عسكرية قوامها 5000 فرد، للدفاع عن موسكو. لم تسقط موسكو فقط لأن بريغوجين أوقف الهجوم ووجه القافلة العسكرية في الاتجاه المعاكس.
علاوة على ذلك، سحب بوتين جميع “الاحتياطيات” لحماية العاصمة، وتم السيطرة على مناطق أخرى دون قتال، وهو ما يثبت ببلاغة أن روسيا غير قادرة على حماية أراضيها.
كتب معهد دراسات الحرب أنه كان من الصعب على الكرملين تنسيق استجابة سريعة فعالة لمواجهة تقدم “فاغنر”، وهذا يوضح نقاط ضعف قوى الأمن الداخلي، ربما بسبب الإجراءات غير المتوقعة للمرتزقة وعواقب الخسائر الفادحة في أوكرانيا.
إن وصول بريغوجين إلى السلطة وحكم روسيا هو سيناريو سلبي ليس فقط لأوكرانيا، ولكن أيضًا للمنطقة. نتيجة لذلك، ستبدأ الحركات المزعزعة للاستقرار ضد السكان المدنيين داخل روسيا وفي حملات عسكرية خارج روسيا، حيث تتواجد شركة “فاغنر”.
- هياكل السلطة والسكان ليسوا مستعدين للمحاربة من أجل بوتين، وروسيا شريك لا يمكن التنبؤ به.
في بداية “مسيرتهم” إلى موسكو، دخل مرتزقة شركة “فاغنر” مدينة روستوف دون عوائق تقريبًا، وكما أعلن بريغوجين، سيطروا على منشآت عسكرية هناك، بما في ذلك مقر مجموعة القوات الجنوبية. ثم انطلقوا في قافلة عبر عدة مناطق روسية، دون مواجهة مقاومة جدية. القوات الأكثر قدرة التي يمكن أن تصد مرتزقة “فاغنر” هي الآن على خط الجبهة في اوكرانيا، والقوات الأمنية التي بقيت في روسيا أثبتت عدم قدرتها على مقاومة المرتزقة المسلحين المتجهين إلى العاصمة بالدبابات.
تبين ان خطر الموقف لم يكن وجود شخص ما دعم المتمردين، وانما عدم وجود أحد مستعد للدفاع علنًا عن الوضع الراهن. ممثلو النخب الروسية والسلطات المحلية تصرفوا بشكل سلبي: لم يتخذ أحد أي جانب معين. طبعا بعد خطاب بوتين كانت هناك تصريحات تدعمه، لكن لم يبادر أحد للتحدث نيابة عنه. لم يُظهر رؤساء بلديات المدن، ولا رؤساء المناطق أنفسهم، بأي شكل من الأشكال، ان هناك شيء ما يحدث في أراضيهم، يعبرون عن قلقهم، ويطلبون من الجميع البقاء بعيدًا عن الأحداث قدر الإمكان، لكن لم تكن هناك خطوات سياسية من قبلهم.
وفقًا لأندري يوسوف، ممثل الإدارة العامة للاستخبارات في وزارة الدفاع الأوكرانية، العمليات الداخلية مستمرة في روسيا، وهذه الصراعات هي عواقب غزو أوكرانيا. تمرد بريغوجين ليس الحالة الأولى وليست الأخيرة لمثل هذه “الانتفاضات” ضد نظام بوتين. ووفقا له، فإن محاولة تمرد بريغوجين أظهرت بوضوح عدم رغبة قوات الأمن الروسية والمسؤولين من مختلف الرتب للدفاع علنا عن نظام بوتين، ولن يرغب أحد في العمل مع “القادة” إذا لم يسيطروا على الوضع في بلادهم.
وعلقت وزارة الخارجية الصينية على الأحداث غير المستقرة في روسيا: “هذه مسألة داخلية لروسيا. باعتبارها جارة صديقة لروسيا وشريكا استراتيجيا شاملا لتنسيق العصر الجديد، تدعم الصين روسيا في الحفاظ على الاستقرار الوطني وتحقيق التنمية والازدهار”.
نظرًا للعلاقة الوثيقة بين روسيا والصين، علق المصدّرون في بكين توريد البضائع إلى روسيا نظراً للأحداث الغير متوقعة. على الرغم من أن الأزمة قد خفت حدتها، إلا أن البعض يحاول البقاء بعيدا، لأنهم غير متأكدين مما سيحدث بعد ذلك.
- لذلك، من الضروري قبول انضمام أوكرانيا إلى الناتو، لتحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال ردع روسيا، وليس بالتكيف مع قادتها، والتفكير في المستقبل في كيفية حرمانها من الأسلحة النووية.
قال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي “في الكرملين، يمكنهم اللجوء إلى أي إرهاب، ويمكنهم اللجوء إلى أي غباء، لكنهم لا يستطيعون توفير حتى نسبة مئوية ضئيلة من السيطرة اللازمة. أوكرانيا ستكون بالتأكيد قادرة على حماية أوروبا من أي قوات روسية، ولا يهم من يقودها. يعتمد أمن الجناح الشرقي لأوروبا على الدفاع الأوكراني فقط. وهذا هو السبب في أن كل مظهر من مظاهر الدعم لهذا الدفاع هو دعم للدفاع الأوروبي أيضًا، للجميع في العالم الحر”.
إن الناتو هو ضمانة موثوقة للجميع بعدم تدمير السلام. بدون أوكرانيا، فإن هذه الضمانات لا قيمة لها. إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو، فإن الوضع سيتغير جذريًا. ستفهم روسيا، إذا جاز التعبير، أن “القطار قد غادر” وأن أوكرانيا لا يمكنها، بشكل نهائي، العودة إلى منطقة نفوذها. وعلى الأرجح، سوف يتراجع التوتر، لأن المهمة الرئيسية لروسيا الآن هي جعل عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي وتوسع الناتو باتجاه الشرق أمرًا مستحيلًا. لكن طالما أن روسيا يحكمها أولئك الذين يحكمونها الآن، فسيظل التهديد قائمًا. وسيواصلون بالطبع محاولة زعزعة استقرار الوضع، لكنهم ما زالوا يراجعون بشكل كبير استراتيجيتهم فيما يتعلق بأوكرانيا. لأن معظم نواياهم الآن تستند إلى حقيقة أن الكرملين حاليًا واثق من أنه لا يزال بإمكانه منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، وتحويلها إلى بيلاروسيا رقم 2، وهو الهدف الرئيسي لروسيا.
يجب إيقاف روسيا في أسرع وقت ممكن، لأنها يمكن أن تتعافى وتحاول الاستيلاء على كل أوكرانيا، وكذلك شن حرب ضد جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. لقد توصلت العديد من الدول الأوروبية بالفعل إلى مثل هذا الرأي. على وجه الخصوص، تستعد ألمانيا لنشر لواء دائم من حوالي 4000 فرد في ليتوانيا، حيث يعيد الناتو تقييم التهديد المحتمل الذي تشكله روسيا على الجناح الشرقي للحلف. ستساهم هذه الخطوة في تحديث أوسع للوضع الدفاعي لحلف الناتو في الشرق، وتعكس مخاوف دول البلطيق. يتعلق الأمر بحقيقة أن روسيا قد تحاول إعادة أراضي إستونيا وليتوانيا ولاتفيا بالقوة. وتجدر الإشارة إلى أن ليتوانيا، الواقعة بين مقاطعة كالينينغراد الروسية وجمهورية بيلاروسيا، معرضة للخطر بشكل خاص.
المعلومات المتعلقة بنشر ميليشيا “فاغنر” العسكرية على أراضي بيلاروسيا قد لا تهدد أوكرانيا فحسب، بل قد تهدد أيضًا بيلاروسيا نفسها والدول المجاورة الأخرى. قال الرئيس البولندي أندريه دودا “إن وجود مرتزقة من المجموعة الإرهابية الروسية وزعيمها يفغيني بريغوجين في بيلاروسيا هو “قضية خطيرة للغاية” تتطلب ردا قويا من الناتو وسيتم النظر فيها في قمة فيلنيوس”.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التمرد غير المكتمل الذي قامت به شركة “فاغنر” في روسيا جعل من الممكن إلقاء نظرة فاحصة على ضعف السيطرة في الكرملين، وإحدى القضايا التي تثير قلق اللاعبين الجيوسياسيين هي الترسانة النووية والسيطرة عليها. الترسانة الضخمة من الأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا تسمح للكرملين بتهديد العالم بشكل مستمر باستخدامها. وقد استخدم هذا الابتزاز لشن الغزو الشامل لأوكرانيا، ويبدو أن العدوان الروسي المستمر يؤثر على قرار الغرب بدعم كييف في مواجهتها مع موسكو. حيث أعربت دول مجموعة السبع عن قلقها، على وجه الخصوص، بشأن كيف يمكن أن يؤثر تخفيف سيطرة الرئيس فلاديمير بوتين على قوات الأمن والقوات المسلحة على استقرار الدولة، فضلاً عن المخاطر على المخزونات النووية الروسية. لذلك، يجب على الدول الحليفة لأوكرانيا أن تنظر في كل احتمالات حرمان روسيا من الأسلحة النووية حتى لا يؤدي الوضع غير المستقر والهش داخل الدولة إلى اتخاذ قرارات رهيبة في الكرملين.