دبلوماسية الفشل الاستراتيجي

دبلوماسية الفشل الاستراتيجي:

قمة بودابست تنكشف على “التعنت الروسي” وظهور خطة الـ 12 نقطة

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

25\10\2025

لقد شكلت القمة المتوقعة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، في بودابست، محاولة دبلوماسية عاجلة، كانت تهدف إلى إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا بـ “اتفاق سريع”، إلا أن هذه المساعي سرعان ما اصطدمت بالواقع الجيوسياسي لتنتهي بـ الإلغاء الفعلي للقمة. إن هذا الفشل لم يكن مجرد إخفاق لوجستي، بل جاء ليؤكد أن الدبلوماسية السريعة لا تستطيع تجاوز الشروط الروسية المتشددة التي أصرت عليها موسكو، وهي شروط ترتقي إلى مستوى التعنت الاستراتيجي. فقد رفضت موسكو رفضاً قاطعاً أي وقف فوري لإطلاق النار، معتبرةً أن ذلك يتناقض مع “اتفاق ألاسكا” ويهدف للسماح لحلفاء أوكرانيا باستغلال الهدنة لزيادة تسليحها؛ بل وأصرت روسيا على مطالب تتعلق بـ “إزالة الأسباب الجذرية” للصراع، والتي تضمنت المطالبة بإسقاط الحكومة الأوكرانية وفرض حياد البلاد بشكل دائم، وهو ما يُعد تجاوزاً سافراً لسيادة أوكرانيا ورفضاً لأي مرونة تفاوضية.

وفي ضوء هذا التعنت، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنفسه إلغاء القمة، مشدداً على أنه “لا يريد إضاعة الوقت في اجتماعات بدون نتائج ملموسة”. وقد أشار ترامب إلى أن التعثر في المحادثات الأولية مع موسكو هو الدافع وراء هذا القرار، مؤكداً أنه يتطلع إلى عقد اجتماع في المستقبل حين يرى أن الوقت “مناسب” ويمكن أن “يُسفر عن نتيجة إيجابية”. وعزز هذا الموقف، بحدة غير معهودة، رفض وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، متابعة أي محادثات هاتفية مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، مؤكداً أن “الأفعال تتحدث أصدق من الكلمات” بعد تمنع موسكو عن أي مرونة. هذا الرفض من روبيو كان بمثابة إشارة واضحة من الإدارة الأمريكية على أن جهود التمهيد الدبلوماسي قد وصلت إلى طريق مسدود بسبب المطالب الروسية.

رداً على هذا التعثر الدبلوماسي وغياب الجدية الروسية في التمهيد لمحادثات مثمرة، تحول الغرب بشكل حاسم إلى “الطريق الطويل” لممارسة الضغط. وعلى الفور، بادرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض حزم عقوبات قوية استهدفت بشكل خاص شركتي النفط العملاقتين “روس نفط” و “لوك أويل”. لقد كان هذا التصعيد الاقتصادي، المتمثل في حزم العقوبات، بمثابة خطأ استراتيجي مُكلِف لموسكو، حيث أثبت قدرة الغرب على توحيد صفوفه واتخاذ خطوات مؤثرة وضاغطة، حتى في غياب أي تقدم على طاولة المفاوضات.

وعلى صعيد موازٍ، ساهمت عوامل الضغط الأوروبي المتزايد والعوائق القانونية الحاسمة في تعقيد المشهد الدبلوماسي بشكل لافت. فقد أعلنت العواصم الأوروبية عن استياء عميق من استبعادها من التحضيرات الأولية للقمة، ورفضت بشكل قاطع القبول بأي تنازلات قسرية قد تُفرض عليها. وفي هذا الإطار، سارعت قيادات أوروبية بارزة إلى التعبير عن ارتياحها الضمني لإلغاء القمة؛ حيث أكد مسؤولون في بروكسل أن القمة المرتقبة كانت تشكل لهم “كابوساً سياسياً”، فيما أشار وزير الخارجية الألماني تحديداً إلى أن “وحدة الموقف الغربي لا يمكن أن تكون رهناً لاتفاق ثنائي متسرع”، في إشارة إلى المخاوف من صفقة منفردة بين ترامب وبوتين. وفي الوقت ذاته، مثّلت العوائق القانونية، التي تتصدرها مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس بوتين، عقبة وجودية حقيقية أمام انعقاد القمة في بودابست. لقد أدت هذه العوامل المتضافرة إلى تقويض كامل لأي احتمال للتوصل إلى “اتفاق سريع”، وفي المقابل، عززت من استقلالية أوكرانيا في قرارها السيادي ودفعت الكتلة الأوروبية بقوة نحو بلورة مسار استراتيجي بديل أكثر تماسكاً، متمثلاً في خطة الـ 12 نقطة التي طرحتها لإنهاء الصراع.

كيف دفع بوتين وبلاطه ترامب إلى فرض العقوبات

في أعقاب إلغاء القمة وما تلاه من فرض حزم عقوبات غربية جديدة ومؤثرة، أظهرت روسيا رد فعل مزدوجاً، يجمع بين التملص الدبلوماسي الحذر الذي يهدف إلى الحفاظ على المرونة، وبين التحدي الاقتصادي المعلن لتعزيز صورة “الصمود” والتماسك على الساحة الداخلية. وفي هذا السياق، اعتمد الكرملين استراتيجية رسمية للتملص من خلال الإنكار غير المباشر لإلغاء القمة؛ حيث أعلن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف أن القمة “لم تُلغَ” رسمياً بالمعنى الحرفي، بل “لا يوجد جدول زمني دقيق” لانعقادها بعد، مؤكداً بلهجة دبلوماسية أن “الإعداد الجدي يتطلب وقتاً” وأن روسيا “غير مهتمة باجتماعات بدون نتائج”، في محاولة واضحة للحفاظ على ماء وجه الرئيس بوتين ومرونته الدبلوماسية، مع إلقاء اللوم الضمني على عدم جاهزية الجانب الغربي.

وقد صاحب هذا التملص الدبلوماسي خطاب حاد ورافض للواقع الذي فرضه الغرب. فقد أدلى وزير الخارجية سيرغي لافروف بتصريحات واصفاً فيها الإلحاح الأمريكي على وقف النار بأنه “غير واقعي” و “يتناقض مع اتفاق ألاسكا”، بما يعزز السردية الروسية الأساسية بأن أي وقف فوري “سيسمح للغرب بتسليح كييف” وزيادة قدرتها على المواجهة. وفي سياق متصل، اتهمت المتحدثة باسم الوزارة، ماريا زاخاروفا، الإعلام الغربي بـ “نشر أخبار كاذبة” حول “الإلغاء”، متهمةً أوروبا بشكل خاص بأنها “تسعى لإفشال المفاوضات” لتحقيق مصالحها الخاصة. هذه التصريحات المزدوجة – التي تمزج بين الإنكار الرسمي وإلقاء اللوم على الأطراف الغربية – تُعد جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية متكاملة لتعزيز الدعاية الداخلية، حيث سارعت وسائل إعلام روسية رسمية إلى التأكيد على أن “ترامب خُدع من قبل النخبة الأوروبية المعادية لروسيا”، مما يخدم هدف التقليل من الضغط الداخلي الموجه نحو القيادة الروسية.

لم يقتصر الرد الروسي على التملص الدبلوماسي، بل امتد ليُظهر تحدياً اقتصادياً واضحاً في مواجهة حزم العقوبات الغربية الجديدة التي استهدفت الكيانات الاقتصادية الأكثر حيوية في روسيا، وعلى رأسها شركتا النفط العملاقتان “روس نفط” و “لوك أويل”، إضافة إلى الحزمة الأوروبية التاسعة عشرة التي فرضت قيوداً صارمة، كان أبرزها حظر استيراد الغاز الطبيعي المسال الروسي ابتداءً من عام 2027، ومنع معاملات العملات المشفرة (الكريبتو) للروس، مما يقطع قناة مهمة لـ “المحفظة الرمادية” للأفراد الروس.

في خطاب التحدي الرسمي، وصف الرئيس بوتين هذه الإجراءات بأنها “عمل عدائي”، لكنه سارع في المقابل إلى التقليل من شأنها، مؤكداً أنها “لن تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الروسي”. وقد شدد بوتين على أن “الاقتصاد الروسي قوي بما يكفي للصمود”، واستند في ذلك إلى نجاح روسيا في فتح أسواق بديلة للطاقة، مؤكداً أن أسواقاً كبرى مثل الصين والهند ستواصل شراء النفط الروسي، وهو ما يخدم رواية “الصمود” الداخلية في مواجهة الضغط الغربي المتواصل. لكن الصدمة الاقتصادية الأكبر لموسكو جاءت من الشرق، حيث تزامن هذا التحدي مع إعلان كل من الهند والصين عن توقف مفاجئ لاستيراد النفط الروسي، استجابةً للضغوط الدولية المتزايدة والمخاطر الثانوية للعقوبات الغربية.

وعلى النقيض من الخطاب الرسمي المتفائل، أظهرت الأسواق تأثيراً فورياً، حيث شهدت أسهم “روس نفط” و “لوك أويل” انخفاضاً بنسبة تتراوح بين 5% و7% في بورصة موسكو، وهو ما يشير إلى أن العقوبات ضربت بشكل مباشر أكبر شركتين نفطيتين تمثلان نحو نصف إجمالي صادرات النفط الخام. وتشير التحليلات الغربية إلى أن التكلفة السنوية لهذه العقوبات على روسيا قد تبلغ ما بين 70 إلى 105 مليارات دولار سنوياً وفق بعض التقديرات المتخصصة، مما يعزز الضغط الداخلي الموجه نحو النخبة والأوليغارشيا المرتبطة بالكرملين.

استراتيجياً، كان الرد الروسي يهدف إلى إطالة أمد الصراع لاستنزاف أوكرانيا والوحدة الأوروبية، مع التعويل على الدعم الصيني لتعويض الخسائر الناجمة عن العقوبات الأوروبية. إلا أن هذا التعويل اصطدم بالواقع؛ حيث أظهرت بيانات الجمارك الصينية تراجعاً في حجم التبادل التجاري الثنائي بنسبة 9.4% خلال الأشهر الثمانية الأولى من عام 2025. هذا الفشل في إجبار الرئيس ترامب على تقديم تنازلات فورية، وتخلي الشركاء الآسيويين الرئيسيين عن النفط الروسي، يعزز من وحدة الغرب، ويهدد بمزيد من تصعيد العقوبات المستقبلية، ويقوض من قدرة روسيا على الصمود الاقتصادي طويل الأمد.

المسار البديل والتداعيات الجيوسياسية: ظهور “خطة الـ 12 نقطة” كاستراتيجية للردع

في أعقاب الجمود الدبلوماسي والتعنت الروسي، والذي تجلّى بوضوح في فشل انعقاد اللقاء المرتقب بين الرئيسين ترامب وبوتين، ظهر “اقتراح أوروبا وأوكرانيا المشترك من 12 نقطة” كآلية استراتيجية متكاملة تهدف إلى إنهاء الصراع وبلورة مسار سلام لا يقوم على منطق الإذعان. لقد برز هذا الاقتراح كمسار دبلوماسي بديل مصمم بذكاء لملء الفراغ السياسي الذي خلفه التعثر الرئاسي، معتمداً على مزيج دقيق من الأدوات الاقتصادية القسرية والحوافز السياسية.

تُعد هذه الخطة إعلاناً واضحاً عن رفض مبدأ “السلام مقابل الأرض”، حيث ترتكز على الرفض القاطع لأي تنازلات إقليمية لروسيا، وتشدد على ضرورة احترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها كشرط مسبق لأي تسوية دائمة. وفي جوهرها، تُركز الخطة على إلزام روسيا بالخطوط الحالية من خلال الدعوة إلى وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط يسبق جلوس روسيا وأوكرانيا على طاولة المفاوضات، ويلتزم فيه الطرفان بعدم التقدم الإقليمي. أما الركيزة الأكثر تأثيراً فتتمثل في تقديم حل مبتكر لتمويل إعادة الإعمار، حيث تقترح استخدام الأصول الروسية السيادية المجمدة نفسها، التي تُقدر قيمتها الإجمالية بحوالي 300 مليار دولار، منها نحو 210 مليار يورو محتجزة في أوروبا. وتنص الخطة بشكل محدد على استخدام ما يقارب 140 مليار يورو من هذه الأصول كضمانة لتمويل قرض ضخم لأوكرانيا، مما يحول الأصول إلى أداة تمويل رئيسية لـ إعادة إعمار أوكرانيا وكـ أداة ردع قوية ومباشرة ضد موسكو. واستباقاً للفشل التاريخي الذي مثلته “مذكرة بودابست” لعام 1994، تتضمن الخطة آليات لتقديم ضمانات أمنية واستباقية غربية قوية تشمل التزامات دفاعية جماعية وخطوات تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من “مسار لا رجعة فيه” لعضوية الناتو، لزيادة قوة الردع الأوروبي. ولضمان الدعم الأمريكي، تضمنت الخطة إغراءً سياسياً واستراتيجياً يستهدف إشراك الرئيس ترامب عبر اقتراح أن يتولى دور رئيس لمجلس سلام دولي يشرف على التنفيذ، مما يمنحه منصة عالمية ويُشبع طموحه المعلن في الحصول على جائزة نوبل للسلام، كل ذلك دون تحميل واشنطن تكاليف مالية مباشرة. تُشكل هذه الخطة بذلك خارطة طريق متماسكة تسعى إلى تحويل نقاط الضعف الدبلوماسية إلى نقاط قوة، وترتكز على مبدأ أن السلام العادل والمستدام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال موازنة دقيقة بين القوة الاقتصادية والالتزام السياسي الراسخ.

مناورات الناتو «الظهيرة الصامدة»: نظرة استراتيجية شاملة لتحول الدفاع الأوروبي

إن الموقف الروسي الحالي، الذي يتسم بالتملص والتحدي الصريح للعقوبات الغربية، لا يقتصر تأثيره على الاقتصاد الروسي وحده، بل يعزز بدوره حالة التوترات الجيوسياسية القائمة مع الكتلة الغربية ككل. هذا التصعيد المستمر يدفع أوروبا بشكل متزايد نحو تحقيق استقلال دفاعي واستراتيجي أكبر، وهو ما يتجلى بوضوح في قرارات تاريخية لزيادة الإنفاق العسكري الأوروبي إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب الباردة، والتركيز على تعزيز القدرات الذاتية لمنطقة اليورو في مجالات التسليح والتكنولوجيا الدفاعية. وفي الوقت ذاته، فإن هذا الاستقطاب الثنائي الحاد قد يعزز من دور القوى غير الغربية الكبرى، لا سيما جمهورية الصين الشعبية، لتبرز كـ وسيط محتمل رئيسي يسعى لملء الفراغ الدبلوماسي الذي خلفه انعدام الثقة بين موسكو والغرب. يعتمد الموقف الصيني على موازنة استراتيجية دقيقة ومعقدة بين علاقتها الوثيقة بروسيا كشريك استراتيجي في مواجهة الهيمنة الغربية، وبين مصالحها الاقتصادية العالمية ومبادئها المعلنة في الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن بكين ترفض بشكل مستمر إدانة الغزو الروسي وتصر رسمياً على احترام مبادئ السيادة، إلا أن الممارسة الفعلية تشير إلى دعم عملي غير معلن لموسكو. ففي حين تمتنع عن الانضمام للعقوبات، تعمل الصين على تعميق شراكتها الاقتصادية، خاصة في قطاع الطاقة، مما يسمح لها بتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا من خلال استمرار شراء منتجات الطاقة الروسية. كما أن بكين تقوم بتزويد روسيا بالتكنولوجيا اللازمة للتصنيع العسكري، مما يقوي قدرة موسكو على الصمود في ظل القيود الغربية. من هذا المنطلق، تحاول بكين أن تستغل موقعها الفريد لتعزيز نفوذها العالمي، بتقديم نفسها كقوة قادرة على التواصل مع طرفي النزاع، وبالتالي ملء أي فراغ دبلوماسي أو تفاوضي، مما يمنحها ثقلاً جيوسياسياً إضافياً على الساحة الدولية.

بالنسبة لأوكرانيا، هذا المسار الدبلوماسي البديل يعني استمرار الدعم العسكري والمالي الغربي الحيوي، لكنه في الوقت ذاته ينذر بإطالة أمد الحرب وزيادة معاناة الشعب الأوكراني. عموماً، يؤكد رد الفعل الروسي على الصمود الظاهري وإظهار القوة، لكنه يخفي في العمق ضعفاً داخلياً يمكن للضغط الغربي المتوازن والمستمر أن يستغله بفعالية؛ خاصة عبر العقوبات الموجهة والاستخدام الحاسم للأصول المجمدة. هذا الضغط الممنهج من شأنه أن يدفع موسكو نحو مرونة أكبر في مواقفها، وربما يقودها في نهاية المطاف إلى القبول بمسار تفاوضي أكثر واقعية.

تداعيات الجمود الروسي والضغط الاقتصادي المضاعف

إن إلغاء اللقاء الثنائي بين الرئيسين ترامب وبوتين وما تلاه من تصعيد في حزم العقوبات وظهور مسار دبلوماسي جديد ومتماسك عبر “خطة الـ 12 نقطة”، يؤكد بشكل قاطع أن المواجهة قد دخلت مرحلة جديدة تتطلب استراتيجية طويلة الأمد، تقوم على ضغوط متواصلة وتوازناً دقيقاً بين الردع القوي والحوافز المدروسة.

يُعد استمرار التعنت الروسي عاملاً مباشراً في إطالة أمد الصراع وتصعيد الخسائر الفادحة. ففي أوكرانيا، تتواصل المعاناة الإنسانية والاقتصادية، حيث لا يزال نزوح ولجوء الملايين يُلقي بظلاله، في حين يُسجَّل في الذاكرة الاقتصادية انكماش تاريخي وفادح بلغ نحو 29% في العام الأول من الغزو. وعلى الرغم من هذه الصدمة، تظهر المؤشرات مرونة لافتة مدعومة بالتكيف الاقتصادي والدعم الغربي، حيث تُشير التوقعات الحالية إلى أن الاقتصاد الأوكراني سيحقق نمواً إيجابياً ومتواضعاً يناهز 1.9% لهذا العام. في المقابل تتزايد تكلفة الصمود على روسيا ذاتها. تُقدر الخسائر السنوية التي يتكبدها الاقتصاد الروسي نتيجة للعقوبات الغربية بنحو 50 مليار دولار من عائدات التصدير، يضاف لها الخسائر الناجمة عن العقوبات الجديدة، مما يفرض ضغوطاً مالية غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن موسكو خصصت إنفاقاً عسكرياً قياسياً لعام 2025 يقارب 126 مليار دولار (أي نحو 32.5% من إجمالي الإنفاق الحكومي)، إلا أن هذا الإنفاق الهائل الذي يوجه الموارد نحو المجهود الحربي لم يمنع تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لهذا العام إلى اقل من 1.5% فقط. وتتجلى حدة الضغط في ميزانية الدولة، حيث سجل العجز الفعلي خلال النصف الأول من عام 2025 ما يقارب 42 إلى 47 مليار دولار، وهو ما يوازي تقريباً المستوى المستهدف للعجز لكامل العام، مما يؤكد التأثير العميق والمستمر للعقوبات على استدامة المالية الروسية.

ومن جهة أخرى، فإن فشل الدبلوماسية المرتقبة في بودابست ورفض “المطالب الروسية الجذرية” يعزز من التوترات الجيوسياسية الراهنة، ويزيد من خطر سباق نووي محتمل في المنطقة، خاصة في ظل اهتزاز الثقة الدولية الناجم عن الفشل التاريخي لمذكرة بودابست لعام 1994 في توفير الأمن لأوكرانيا.

وفيما يتعلق بـ سيناريوهات السلام المستقبلية، فإن تحقيق السلام يبقى معلقاً على مدى قدرة الغرب على ممارسة ضغط متوازن وفعال على موسكو. هناك احتمال لـ “السلام الهش” الذي يتمثل في وقف إطلاق نار مؤقت وتجميد الجبهات مقابل رفع جزئي للعقوبات، وهذا السيناريو يوفر متنفساً ضرورياً لإعادة الإعمار (بتمويل جزئي من الأصول الروسية المجمدة)، ولكنه يحمل مخاطر عالية لانهيار السلام لعدم معالجته لجذور العدوان الروسي ومطامع روسيا التوسعية. أما المسار الأكثر استقراراً، فهو إطار سلام شامل بضمانات، وهذا يتطلب ضغطاً عسكرياً واقتصادياً غير مسبوق لإجبار روسيا على انسحاب جزئي وكامل، مقابل ضمانات أمنية دولية قوية لأوكرانيا، تكون شبيهة بالمادة الخامسة من حلف الناتو. هذا هو المسار الذي يسعى إليه الغرب لضمان استقرار طويل الأمد يتجاوز التجميد المؤقت للصراع.

أكدت التطورات الأخيرة أن تحقيق سلام مستدام يتجاوز طموحات الدبلوماسية السريعة. وتُقدم خطة الـ 12 نقطة الآن كاستراتيجية متكاملة تعتمد على مزج الضغط الاقتصادي الصارم مع الحوافز الدبلوماسية وإشراك القوى الكبرى. ومع ذلك، بدون معالجة جذرية للمطامع التوسعية الروسية والفشل في توفير ضمانات دولية لا تقبل التراجع، فإن مخاطر التصعيد والتوتر الجيوسياسي ستبقى قائمة على المدى الطويل.

تؤكد التطورات الجيوسياسية الأخيرة، بدءاً من تعثر لقاء بودابست وصولاً إلى تصعيد العقوبات، على حقيقة راسخة مفادها أن تحقيق سلام مستدام وشامل يتجاوز طموحات الدبلوماسية السريعة واللقاءات العاجلة. ولهذا السبب تحديداً، تُقدم خطة الـ 12 نقطة الآن كاستراتيجية متكاملة وضرورية، تعتمد في جوهرها على المزيج الفعّال بين الضغط الاقتصادي الصارم على موسكو، وبين تقديم الحوافز الدبلوماسية المشروطة، مع السعي الحثيث لإشراك القوى الكبرى والجهات الفاعلة الرئيسية في عملية المراقبة والتنفيذ. ومع ذلك، يجب الإقرار بوضوح بأن هذا المسار، رغم أهميته، يبقى محفوفاً بالمخاطر؛ إذ أنه بدون معالجة جذرية وحاسمة للمطامع التوسعية الروسية، والفشل في توفير ضمانات أمنية دولية قوية لأوكرانيا لا تقبل التراجع أو التفسير، فإن مخاطر التصعيد والتوتر الجيوسياسي ستبقى قائمة ومهددة للاستقرار الإقليمي على المدى الطويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *