رغم القمع والزمن.. ستظل الشعوب العربية عصية على التطبيع مع الاحتلال
نبيل السهلي – كاتب فلسطيني
3/6/2024
التطبيع في اللغة يعني العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها، وتم الترويج لمصطلح التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بشكل قوي بعد انعقاد مؤتمر مدريد للتسوية في نهاية عام 1991، وكان الهدف من وراء ذلك تحويل حرب التحرير بين العرب والاحتلال الإسرائيلي إلى صراع سياسي، وجعل “إسرائيل” من دولة الاحتلال إلى دولة طبيعية في المنطقة لها سيادة ووزن شرق أوسطي كبير وفاعل.
تبعاً لذلك سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد انعقاد مؤتمر مدريد إلى عقد مؤتمرات شرق أوسطية حضرها الاحتلال الإسرائيلي وبعض الدول العربية لرفع المقاطعة العربية تدريجياً عن الاحتلال، ومن ثم محاولة الوصول إلى نظام إقليمي جديد له مؤسساته عوضاً عن مؤسسات الجامعة العربية المختلفة، خاصة الاقتصادية منها. وبهذا يمكن الاعتراف بإسرائيل دولة طبيعية في المنطقة رغم أنها أُنشئت في ظروف دولية استثنائية على حساب الشعب الفلسطيني وأرضه.
صحيح أن الإدارات الأمريكية سخّرت جلّ جهدها لفرض التطبيع العربي بعد مؤتمر مدريد للتسوية، لكن اللافت أيضاً أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إنشاء الاحتلال دولته في العام 1948 لم تتوقف عن سعيها لرفع المقاطعة العربية، واتبعت سياسات لحمل الحكومات العربية على إنهاء مقاطعتها التجارية للاحتلال.
ورغم استمرار المقاطعة الشعبية العربية للاحتلال إلى الآن، إلا أن ثمة مؤشرات على وجود تطبيع اقتصادي لبعض الدول العربية مع الاقتصاد الإسرائيلي لكنها بقيت محدودة للغاية؛ وفي هذا السياق تؤكد مراكز البحث الإسرائيلية المختلفة أن خسائر الاحتلال من جراء المقاطعة العربية يصل إلى نحو ملايين الدولارات سنوياً.
ولم تقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة جراء ذلك، بل سعت لترويج خطاب لكسر المقاطعة العربية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، فراحت من خلال خطابات وممارسات كثيرة تروّج أن التطبيع الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية يخدم المصالح العربية الاستراتيجية خاصة الاقتصادية منها.
ومن خلاله هدفت لتطبيع أعمق بين العرب وإسرائيل ليتخطى إقامة علاقات تجارية أو دبلوماسية، أملاً منها ليشمل مراجعة لمفاهيم مسار الصراع وجذوره الاحتلالية الصهيونية لفلسطين، لصنع عملية قلب جذرية للنظرة العربية تجاه كل ما يحيط بالاحتلال الإسرائيلي، وتجاهل الشعب الفلسطيني وقضيته.
رغم ذلك، لم تفلح اتفاقيات التطبيع الرسمي العربي، كتلك الموقعة بين كل من مصر والأردن وإسرائيل؛ إذ لم تستطع حتى أن تضمن اعترافاً للاحتلال بسيادته على الأراضي الفلسطينية بالكامل، وعلى رغم توسع التطبيع الاقتصادي بين بعض الدول العربية وإسرائيل، لم يستطع أن يصل التطبيع للشعب العربي ولو بجزء صغير.
فرغم مرور عقود على معاهدة السلام ومسارات التطبيع، ظلت الشعوب العربية رافضة لفكرة قبول الاحتلال أو التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، وظلت فلسطين هي البوصلة الجامعة للشعوب العربية كافة.
فعلى سبيل المثال، الشعب المصري، وكذلك الأردني، رغم وجود اتفاقيات رسمية بين كل من مصر وإسرائيل والأردن مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 ووادي عربة في عام 1994، ظل الشعبان المصري والأردني رافضين للتطبيع مع دولة الاحتلال، وحتى اليوم نرى تعبيراً ليس فقط في الثقافة أو المخيلة الشعبية، بل نجده في أفعال كثيرة فنجد شاباً في مقتبل العمر يدعى “محمد صلاح”، يقضى فترة خدمته العسكرية الإجبارية على الحدود المصرية والأراضي المحتلة، يقرر أن ينفذ عملية ويقتل خلالها 3 من قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي ويصيب 2 آخرين قبل أن يُستشهد، وأشارت حينها تقارير إعلام الاحتلال إلى أنه لم يتلقّ أية مساعدة من أحد، ولم تكن تربطه أية روابط فكرية أو تنظيمية، بل كان قراره من نفسه، ووضع خطته وحدد موعد تنفيذ العملية، كما أنه لم يكتفِ بما حققه في الاشتباك الأول بقتل 3 جنود، بل انتظر وصول قوة عسكرية أخرى ليشتبك معها ويحدث فيها خسائر هي الأخرى، لم يكن محمد صلاح الأول ولن يكون الأخير، فبالأمس استشهد جندي مصري آخر “عبد الله رمضان” برصاص الاحتلال على الحدود الفلسطينية المصرية، بعد أن فتح النار على القوات الإسرائيلية التي ترتكب المجازر في حق الفلسطينيين في غزة.
إن الشعوب العربية لم ولن تطبع، وعجلة التطبيع الرسمي العربية ستتوقف وتسقط يوماً ما قريباً لا محاله؛ وستكون للشعوب العربية وحركاتها ورفضها للاحتلال الإسرائيلية كلمة الفصل حتى وإن قمعت لسنين، فرغم ما تشهده الدول العربية من حالة إحباط سياسي تظل فلسطين هي القادرة على جمعهم واستنهاض رغبتهم في العدالة والحرية.