مفاوضات إسطنبول – تحليل التعثر وآفاق الحرب الروسية على أوكرانيا

مفاوضات إسطنبول - تحليل التعثر

مفاوضات إسطنبول – تحليل التعثر وآفاق الحرب الروسية على أوكرانيا

تقرير سياسي استراتيجي

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

16\5\2025

من التصعيد الميداني إلى محاولة الحوار المتعثرة

في ظل تصاعد الهجمات الروسية على خط الجبهة، انتقلت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى ساحة جديدة مع انطلاق جولة مفاوضات مباشرة في إسطنبول يوم 16 مايو 2025، لنشهد معركة دبلوماسية بين الطرفين. تأتي هذه الجولة بعد توقف دام أكثر من ثلاث سنوات، وسط ضغوط اوروبية وامريكية على الطرفين لإحياء المسار التفاوضي.

برزت جولة مفاوضات إسطنبول المباشرة بين روسيا وأوكرانيا كبارقة أمل لكسر حلقة الحرب المفرغة. إلا أن الآمال سرعان ما تبددت مع التعليق المفاجئ للمحادثات إثر جلسة وحيدة لم تتجاوز الساعة وأربعين دقيقة. كشف هذا التعثر عن عمق الهوة الاستراتيجية بين الطرفين المتحاربين وأبرز محدودية الوساطة الإقليمية في ظل غياب توافق دولي أوسع وإرادة سياسية حقيقية للتوصل لحل، في ظل رفض موسكو أي تدويل فعلي للعملية التفاوضية.

المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا في إسطنبول – تقييم للفرص والتحديات

الإعداد للمفاوضات وتشكيل الوفود: رسائل القوة والنوايا

قبيل انعقاد المحادثات، صدرت إشارات متباينة عكست نوايا كل طرف. ففي 11 مايو، أعلن الكرملين عن استعداده لجولة تفاوضية ثنائية دون شروط مسبقة، محددًا 15 مايو موعدًا، قبل أن يتم التأجيل إلى 16 مايو بذريعة ترتيبات لوجستية، وما بدا أنه خلافات مبكرة حول مستوى التمثيل الدبلوماسي وأجندة التفاوض.

  • الوفد الأوكراني: استبق الرئيس فولوديمير زيلينسكي المفاوضات بإصدار مرسوم في 15 مايو، بتشكيل وفد رفيع المستوى مكون من 12 عضوًا، برئاسة وزير الدفاع الأوكراني، رستم أوميروف. تشكل الوفد من شخصيات ذات خلفيات أمنية وعسكرية ودبلوماسية وقانونية، مما عكس سعي كييف لتعزيز موقفها في الملفات المتعلقة بالسيادة، والشرعية الدولية، والمسائل الأمنية والعسكرية. ضم الوفد سيرهي كيسليتسيا (النائب الأول لوزير الخارجية)، وأوليكساندر بوكلاد (نائب رئيس جهاز أمن أوكرانيا – SBU)، وأوليه لوهوفسكي (النائب الأول لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية)، وفاديم سكيبيتسكي (النائب الأول لرئيس مديرية الاستخبارات الرئيسية بوزارة الدفاع – GUR)، وأوليكسي شيفتشينكو (النائب الأول لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية)، ويفهين شينكاريوف (النائب الأول لرئيس أركان قيادة القوات الجوية للقوات المسلحة الأوكرانية)، وأوليكساندر دياكوف (النائب الأول لرئيس أركان قيادة القوات البحرية الأوكرانية)، وأوليكسي مالوفاتسكي (رئيس قسم القانون الدولي والعملياتي بالإدارة القانونية المركزية لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية)، وأوليكساندر شيريخوف (ضابط كبير في المديرية التنفيذية الرئيسية بهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية)، وهيورهي كوزميتشوف (ضابط بروتوكول في مكتب دعم القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية)، وأوليكساندر بيفز (مستشار لرئيس مكتب رئيس أوكرانيا). كما لوحظ تواجد وتنسيق من قبل أندري يرماك (مدير مكتب الرئيس الأوكراني) ووزير الخارجية أندري سيبيغــا في تركيا خلال فترة المحادثات، مما يشير إلى مستوى عالٍ من الإشراف السياسي على الوفد.
  • الوفد الروسي: ترأس مساعد الرئيس الروسي، فلاديمير ميدينسكي، وفدًا ضم مسؤولين وخبراء، وذلك بعد اجتماع تحضيري عقده الرئيس فلاديمير بوتين مع كبار المسؤولين في 14 مايو 2025 لمناقشة الاستعدادات. عكس هذا التمثيل سعي موسكو لفرض رؤيتها القائمة على الأمر الواقع الميداني، وتأمين مكاسبها دون تقديم تنازلات استراتيجية جوهرية. تشكل الوفد من:
  • ميخائيل غالوزين (النائب الأول لوزير خارجية روسيا).
  • ألكسندر فومين (النائب الأول لوزير الدفاع الروسي).
  • إيغور كوستيوكوف (رئيس المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية – GRU).
  • الوسطاء والمراقبون: تولت تركيا، ممثلة بوزير خارجيتها هاكان فيدان ونائبه أحمد أوزجان، دور المضيف والوسيط الرسمي. وحضر عن الجانب الأمريكي مايكل أنطون (مدير تخطيط السياسات في البيت الأبيض) وسوناتا كولتر (مساعدة وزير الخارجية لشؤون أوروبا) بصفة مراقبين، وذلك بعد اعتراض روسي على توسيع دائرة المبعوثين الدوليين.

تباين المطالب ووقائع الجلسة الوحيدة: صدام الإرادات وتعثر الحوار

انطلقت الجلسة التفاوضية الوحيدة ظهر يوم 16 مايو بتوقيت إسطنبول، في قصر دولما بهتشه التاريخي، وسط تدابير أمنية مشددة. لم تستمر الجلسة الأساسية سوى حوالي ساعة و40 دقيقة، وانتهت دون التوصل إلى بيان مشترك أو أي تقدم جوهري، باستثناء اتفاق مبدئي على تبادل 2000 أسير حرب (1000 من كل جانب)، وهي خطوة إنسانية رحب بها البعض، لكنها لم تمس جوهر النزاع.

شكلت المطالب المتبادلة جوهر الخلاف وعكست تباينًا جذريًا في الأهداف الاستراتيجية لكلا الطرفين.

من جانب موسكو، تمثلت المطالب الرئيسية في الانسحاب الفوري للقوات الأوكرانية من كامل أراضي منطقتي دونباس وخيرسون وزابوريجيا (بما يشمل أيضا المناطق التي لم تحتلها بعد)، وإقرار أوكرانيا بحياد دائم والتخلي عن أي طموحات للانضمام إلى حلف الناتو أو أي تحالفات عسكرية غربية، والاعتراف الدولي بشرعية ضم روسيا للأراضي الأوكرانية التي تحتلها، وأخيرًا استبعاد أي دور لممثلي الولايات المتحدة وتركيا من جوهر المفاوضات المباشرة.

في المقابل، تركزت مطالب كييف على الوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار لمدة لا تقل عن 30 يومًا كبادرة حسن نية، والانسحاب الروسي الكامل من جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة منذ عام 2014 بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وحصول أوكرانيا على ضمانات أمنية دولية ملزمة على غرار النماذج المطبقة مع اليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى الرفض القاطع لأي تغييرات حدودية مفروضة بالقوة والتأكيد على وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها.

وصفت كييف الشروط الروسية بأنها “مهينة وغير واقعية وتتعارض مع القانون الدولي”، معتبرة إياها محاولة لفرض الاستسلام. في المقابل، اتهمت موسكو الوفد الأوكراني بـ”التبعية للغرب” واستغلال الجوانب اللوجستية كذريعة لإبطاء الحوار وتجنب اتخاذ قرارات صعبة.

العقبة الرئيسية: إصرار روسيا على الثنائية ورفض الوساطة الفعالة

أحد أبرز العوامل التي أدت إلى التعثر السريع للمفاوضات هو تمسك الوفد الروسي برفض أي صيغة لوقف إطلاق النار قبل تحقيق انسحاب أوكراني واسع النطاق من المناطق التي لم تحتلها بعد في الأقاليم الأربعة التي قامت بضمها من خلال استفتاءات غير شرعية، إلى جانب إصراره القاطع على مبدأ “الثنائية المطلقة” للمفاوضات. رفض الوفد الروسي أي مشاركة فعالة لممثلي الولايات المتحدة أو تركيا في صلب المناقشات الجوهرية للقضايا السياسية والأمنية الرئيسية. ورغم أن ممثلين أمريكيين كانوا حاضرين بصفة “مراقبين”، إلا أن روسيا أبدت تحفظًا خاصًا ومشددًا على دور أي مبعوث أمريكي يحمل صفة تفاوضية أو يسعى للتدخل في جوهر الحوار الثنائي المباشر مع الوفد الأوكراني.

يُفسر هذا الموقف الروسي المتصلب بشأن الوساطة والمشاركة الخارجية الفعالة بعدة أبعاد استراتيجية وتكتيكية:

  • فرض الثنائية: سعت موسكو لتأكيد أن الحل يجب أن يكون روسيًا-أوكرانيًا مباشرًا، بهدف تهميش وتقليل النفوذ الغربي (خاصة الأمريكي والأوروبي) على مسار ومخرجات التفاوض.
  • السيطرة على السردية: خشيت روسيا من أن يتحول الحوار إلى منصة لإدانتها دوليًا أو تسليط الضوء على انتهاكاتها المحتملة بحضور أطراف غربية أو تركية يمكن أن تتعاطف مع الموقف الأوكراني أو تحمل أجندات خاصة.
  • خلفية المواقف الدولية: ارتبط الموقف الروسي من واشنطن بدعمها العسكري والسياسي القوي لأوكرانيا، مما يجعلها طرفًا غير مرغوب فيه كـ “وسيط فعال” في نظر موسكو. أما الدور التركي، ورغم أن أنقرة المضيفة والوسيط، فقد يُنظر إليه بحذر نظرًا لعضوية تركيا في حلف الناتو، الذي تعتبره موسكو خصمًا أساسيًا.
  • تكتيك تفاوضي: هدف هذا الإصرار إلى عزل كييف ودفعها نحو تقديم تنازلات مباشرة تحت ضغط الأمر الواقع الميداني، دون وجود أطراف داعمة يمكن أن تقوي موقفها أو تقدم ضمانات بديلة.

هذا الحاجز الذي وضعته روسيا أمام أي شكل من أشكال الوساطة الفعالة في جوهر النقاش أفرغ المفاوضات من جزء كبير من زخمها المحتمل، وساهم في إنهاء الجلسة الوحيدة دون أي تقدم جوهري.

عقب الجلسة، أعلنت وكالة “أوكرينفورم” و”سكاي نيوز” بنسختها الأوكرانية عن انتهاء الجولة رسميًا. في المقابل، وصف الكرملين الأمر بأنه مجرد “استراحة تقنية”، مما عكس التباين في تفسير مآل المفاوضات وحالة من عدم اليقين حول إمكانية استئنافها قريبًا، وإن كانت المؤشرات الأولية توحي بجمود وشيك.

السياق المحيط: ردود الفعل، التغطية الإعلامية، والرأي العام

تباينت ردود الفعل الدولية والإقليمية على تعليق المفاوضات بين الأمل الحذر وخيبة الأمل الواضحة. اعتبر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التعليق دليلاً إضافيًا على عدم جدية موسكو، بينما اتهم الكرملين أوكرانيا بـ”المسرحية الإعلامية”. أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن أسفه مجددًا واستعداد بلاده للوساطة واقترح البدء بتنفيذ اتفاق تبادل الأسرى. بينما عبرت دول غربية كألمانيا وبريطانيا عن خيبتها ولوّحت بعقوبات إضافية. في المقابل، أشار البعض في الولايات المتحدة إلى أن أي اختراق قد يتطلب حوارًا مباشرًا على أعلى مستوى.

تحليل الرصد الإعلامي الموسع قبل وأثناء المفاوضات:

عكست التغطية الإعلامية لجولة إسطنبول، حتى قبل انطلاقها رسميًا، الاستقطاب الحاد والانقسامات الدولية، حيث انخرطت مختلف وسائل الإعلام في حرب سرديات مصاحبة لفرض رؤى ومواقف الأطراف المختلفة:

  • الموقف الأوكراني: ركزت وسائل الإعلام الأوكرانية بشكل كبير على شروط الرئيس فولوديمير زيلينسكي المسبقة لوقف إطلاق النار، والتي تم التأكيد فيها على ضرورة حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً للمفاوضات كإشارة على الجدية، وإيقاف الهجمات الجوية الروسية المكثفة التي استهدفت مؤخراً كييف ومناطق أوكرانية أخرى كبادرة حسن نية لا غنى عنها. أشارت تقارير إلى أن أوكرانيا تستعد تقنيًا للمفاوضات لكنها تحمل شكوكًا عميقة في نوايا روسيا الحقيقية، خاصة بعد الهجمات الأخيرة على البنية التحتية المدنية التي اعتبرتها كييف محاولة روسية للضغط قبيل المحادثات. أكد الرئيس زيلينسكي مرارًا، ونقلت وسائل الإعلام ذلك، أن أي اتفاق يجب أن يشمل ضمانات أمنية دولية ملزمة لأوكرانيا وانسحابًا روسيًا كاملًا وغير مشروط من جميع الأراضي المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي احتلتها وضمتها روسيا في 2014، مما عكس موقفًا تفاوضيًا صارمًا يرفض التنازل عن السيادة الوطنية.
  • الموقف الروسي: نقلت وسائل الإعلام الروسية الرسمية تصريحات الكرملين التي أكدت أن روسيا “ستدرس” المقترحات الأوكرانية المتعلقة بوقف إطلاق النار، في محاولة لإظهار قدر من المرونة، لكنها في الوقت ذاته رفضت بشكل قاطع ما وصفته بـ “لغة الإنذارات” القادمة من الغرب. الرئيس بوتين لم يؤكد أو ينفِ حضوره شخصيًا، تاركًا الباب مفتوحًا للتكهنات، لكن مسؤولين روس بارزين، ووسائل الإعلام التابعة للدولة مثل روسيا اليوم وتاس، أشاروا إلى أن المفاوضات قد تركز في الغالب على تجميد الوضع العسكري الحالي على خطوط التماس القائمة، مع التأكيد على أنه لن تكون هناك أي تنازلات حول المناطق التي ضمتها روسيا. اتهمت روسيا أوكرانيا وحلفاءها الغربيين بـ “تعطيل السلام” عبر استمرار الهجمات العسكرية والامتناع عن قبول “الواقع الجديد” على الأرض، بينما أكدت أنها تلتزم من جانبها بـ “الهدنة المؤقتة” التي أعلنت عنها أحاديًا في بعض المناطق، وهو ما نفته أوكرانيا.
  • الموقف الأمريكي والأوروبي: في الولايات المتحدة، ومع اقتراب موعد المفاوضات، أبدت الإدارة (خاصة تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، الذي كان دوره محل ترقب) استعدادًا للإشراف على أي اتفاق لوقف إطلاق النار، لكنها ربطت ذلك بتحذيرات شديدة اللهجة من عقوبات “قاسية وغير مسبوقة” إذا انتهكتها روسيا. على الجانب الأوروبي، دعا الاتحاد الأوروبي، بضغط وتنسيق من قوى رئيسية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إلى هدنة إنسانية شاملة لا تقل مدتها عن 30 يومًا كخطوة أولى ضرورية، مع تكرار التهديدات بفرض حزمة جديدة من العقوبات على قطاعي الطاقة والبنوك الروسية الحيوية في حال رفض موسكو لهذا النداء أو إفشالها للمفاوضات. أشارت بعض التقارير الإعلامية الغربية، نقلاً عن مصادر مطلعة، إلى أن الرئيس ترامب قد يطرح خطة سلام مثيرة للجدل تتضمن اعترافًا أمريكيًا بضم القرم لروسيا مقابل تجميد القتال في الشرق والجنوب، وهو ما أثار قلقًا بالغًا في كييف التي اعتبرته تجاوزًا لخطوطها الحمراء.
  • الموقف التركي: سلط الإعلام التركي الرسمي والخاص الضوء بشكل مكثف على دور أنقرة كوسيط “نزيه” و”فاعل” بين الطرفين المتحاربين، مع التذكير بنجاحها السابق في تسهيل اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود كدليل على قدرتها على إحداث اختراق. نقلت تقارير عن مسؤولين أتراك مقربين من الرئاسة أن الرئيس أردوغان يدفع بقوة نحو التوصل إلى “خروج مشرف” للطرفين من الحرب، يراعي هواجس كل منهما، لكنها أكدت أن العقبة الرئيسية والأكثر تعقيدًا تبقى مستقبل شبه جزيرة القرم والمناطق التي سيطرت عليها روسيا في دونباس وخيرسون وزابوريجيا.
  • الموقف الصيني: دعت الصين، عبر قنواتها الإعلامية الرسمية وبيانات وزارة الخارجية، إلى حل سلمي للأزمة عبر الحوار، مع التأكيد على ضرورة التزام جميع الأطراف بالهدوء وتجنب التصعيد الذي قد يضر بالاقتصاد العالمي. لوحظ غياب تغطية مكثفة وتفصيلية في الإعلام الصيني للمفاوضات نفسها مقارنة بالإعلام الغربي والروسي والتركي، مما عكس تحفظ بكين على الانخراط المباشر في الصراع أو الوساطة، مفضلة التركيز على موقف عام يدعو للسلام والاستقرار دون اتخاذ مواقف حادة تجاه أي من الطرفين المتحاربين بشكل علني.

الهدنة الروسية والوساطة الأمريكية: تحولات الحرب الروسية على أوكرانيا في ضوء المصالح السياسية

عكست هذه التغطيات الإعلامية المتضاربة التحديات الجذرية التي تواجه أي مسار تفاوضي، والتي يمكن تلخيصها في شروط أوكرانيا الصارمة التي ترفض التنازل عن السيادة، ورفض روسيا التخلي عن الأراضي التي ضمتها أو احتلتها فعليًا، بالإضافة إلى الانقسام الغربي حول مدى وطبيعة الضغط الواجب ممارسته على موسكو، وموقف تركيا كلاعب وسيط يسعى لإحداث اختراق في ظل هذه التعقيدات.

كذلك كشفت استطلاعات الرأي التي سبقت أو تزامنت مع المفاوضات عن توجهات داخلية مؤثرة تضيق هامش المناورة على القادة السياسيين. في أوكرانيا، أظهرت النتائج أن 87% من المستطلعة آراؤهم يرفضون أي تنازلات إقليمية لروسيا، بينما شكك 72% في جدية موسكو في التوصل إلى سلام. في روسيا، كان الرأي العام منقسمًا، حيث أيد 45% استمرار “العملية العسكرية الخاصة”، مقابل 33% فضلوا التوصل إلى حل سياسي عبر التفاوض. وفي أوروبا، أيدت أغلبية كبيرة بلغت 68% استمرار العقوبات على روسيا حتى اعترافها الكامل بسيادة أوكرانيا وانسحابها من أراضيها. تشير هذه الأرقام إلى ضيق هامش المناورة المتاح للقادة السياسيين، خاصة في أوكرانيا، وإلى استمرار انقسام الرأي العام في روسيا وأوروبا حول سبل إنهاء النزاع.

تقييم استراتيجي وتوقعات مستقبلية: جمود طويل الأمد أم تصعيد وشيك؟

كشفت جولة مفاوضات إسطنبول بوضوح عن الهوة السحيقة التي تفصل بين المواقف الاستراتيجية لموسكو وكييف، وأظهرت محدودية تأثير الوساطة الإقليمية في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية وضغوط دولية منسقة. لا تزال موسكو متمسكة بمبدأ فرض الأمر الواقع العسكري كقاعدة لأي تسوية، بينما تصر كييف على استعادة كامل سيادتها ووحدة أراضيها كشرط غير قابل للتفاوض.

إن الوضع الراهن ينذر بجولات جديدة من التصعيد العسكري والدبلوماسي. من المرجح أن يستمر الجمود التفاوضي ما لم تقدم موسكو تنازلات جوهرية أو تحدث متغيرات ميدانية أو دولية كبرى. قد تلجأ روسيا إلى تكثيف عملياتها العسكرية خلال فصل الصيف لتعزيز موقفها التفاوضي.

يبدو أن التوصل إلى سلام عادل ودائم يتطلب أكثر من مجرد لقاءات بروتوكولية؛ إنه يستدعي مقاربة دولية متكاملة تجمع بين الضغط السياسي والاقتصادي، وتقديم ضمانات أمنية ذات مصداقية، وتصميم سيناريوهات تفاوضية جديدة ترتكز على مبادئ القانون الدولي، وتضمن حماية سيادة أوكرانيا وتحقيق استقرار مستدام للمنطقة بأسرها. تبقى الحاجة ماسة إلى وساطة متعددة الأطراف ومعززة تشمل أطرافًا فاعلة كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع الجهود التركية. كما تظل المبادرات الإنسانية المرحلية ضرورة ملحة للتخفيف من وطأة الصراع على السكان المدنيين.

الخلاصة:

مفاوضات بلا أفق تستدعي مقاربة دولية جديدة للبحث عن سبيل لإنهاء الحرب التي لا تزال تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. يُتوقع أن تستمر التصريحات المتبادلة والتحركات الميدانية على حساب التقدم الدبلوماسي لحين تحديد موقف الرئيس بوتين النهائي وتأثر المواقف الغربية بالمتغيرات الداخلية والدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *