منعطف لندن الاستراتيجي: صراع الإرادات لتأمين مستقبل أوكرانيا في مواجهة الابتزاز الجيوسياسي

منعطف لندن الاستراتيجي صراع الإرادات لتأمين مستقبل أوكرانيا في مواجهة الابتزاز الجيوسياسي

منعطف لندن الاستراتيجي

صراع الإرادات لتأمين مستقبل أوكرانيا في مواجهة الابتزاز الجيوسياسي

مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

د. سعيد سلّام – مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية

8\12\2025

شكلت القمة الرباعية المصغرة، التي انعقدت بشكل عاجل واستثنائي في مقر رئاسة الوزراء البريطانية “داونينغ ستريت” يوم الثامن من ديسمبر 2025، نقطة ارتكاز جيوسياسية فاصلة ومفصلية في مسار الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث تحول هذا الاجتماع من مجرد لقاء تشاوري إلى “مجلس حرب دبلوماسي أوروبي” يهدف إلى توحيد وتكثيف الضمانات الأمنية الأوروبية لكييف في مواجهة ضغط مزدوج ووجودي يهدد بإعادة تشكيل خريطة الأمن القاري. الضغط الأول يأتي من الميدان الروسي، حيث يستهدف التصعيد العسكري البنية التحتية الحيوية بشكل ممنهج، مما أدى إلى تدمير ما يزيد عن 40% من قدرات الطاقة الأوكرانية، في استراتيجية روسية واضحة “لاستخدام البرد كسلاح” والحرمان من الطاقة والتدفئة لكسر الإرادة المدنية؛ بالإضافة إلى التصعيد الهجين وغير التقليدي الذي شمل تهديدات بمسيرات تخريبية قبالة المياه البريطانية والأيرلندية، مما دفع بريطانيا إلى تعزيز دفاعاتها البحرية ضمن برنامج “حصن الأطلسي” لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة للكابلات البحرية والتحتية الحيوية. أما الضغط الثاني، والأكثر إلحاحاً، فيأتي من المحور الأمريكي بقيادة الرئيس دونالد ترامب عبر مبعوثيه الخاصين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، حيث يسعى البيت الأبيض لفرض “صفقة سريعة” لإنهاء الحرب، وهي خطة تقلصت بنودها من 28 إلى 19 بنداً، مع التركيز على تجميد الحرب دون تقديم ضمانات أمنية ذات مصداقية، وهو ما ترفضه كييف والشركاء الأوروبيون، في تفسيرهم بأن هذه الصفقة تحوّل الحرب إلى “فرصة تجارية”، لا تسعى لسلام عادل بل لإيقاف القتال بأي ثمن. وقد عبر ترامب علناً عن إحباطه من أن الرئيس زيلينسكي “لم يقرأ الاقتراح بعد”، رغم زعمه أن “روسيا راضية عنه”، وفقاً لتصريحاته لوسائل الإعلام في 7 ديسمبر، مما يعزز الشكوك حول طبيعة التفاهمات بين موسكو وواشنطن على حساب السيادة الأوكرانية، خاصة مع تقارير تفيد بأن الخطة تطالب كييف بالتنازل عن أراض إضافية في الشرق، وتقييد حجم جيشها، وتغييب طموحاتها في الانضمام إلى الناتو، حيث ينظر اليها كانعكاس لأهداف الكرملين الرئيسية دون مقابل ملموس من موسكو.

هدف اجتماع لندن، الذي اتسم بالسرية والإيجاز الشديدين والمغادرة السريعة للقادة، كان تحصين الموقف التفاوضي لكييف بشكل كامل قبل الدخول في المنعطف الأخير لما بات يُعرف بـ “سيناريو تجميد الحرب”، وسط تباين واضح وعميق في الرؤى بين “السلام العادل والمستدام” الذي تنشده العواصم الأوروبية، الذي يشمل ضمانات أمنية جماعية وتمويل طويل الأمد، و”الصفقة السريعة” التي يسعى البيت الأبيض لفرضها، مدفوعة بمخاوف من “تفكك غير منضبط للدولة الروسية” يؤدي إلى فوضى نووية أو هيمنة صينية على أوراسيا. حيث يُعتقد أن اندفاع ترامب ينبع جزئياً من “هوسه بالربح المادي”، مع ربط المفاوضات بمصالح تجارية أمريكية محتملة في إعادة الإعمار. ومع ذلك، ترى التحليلات الغربية أن هذه الصفقة قد تطيل أمد الحرب بدلاً من إنهائها.

قمة لندن: تحصين الجبهة الأوروبية وخطة مضادة للمقترحات الأمريكية

انطلقت الفعاليات الدبلوماسية لهذا اليوم بوصول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى لندن، في مشهد حمل دلالات رمزية عميقة، إذ كان في استقباله عند سلم الطائرة السفير الأوكراني لدى المملكة المتحدة والقائد العام السابق للقوات المسلحة فاليري زالوجني، مما أرسل رسالة قوية حول تماسك القيادة السياسية والعسكرية في الخارج، خاصة في ظل التقارير الاستخباراتية البريطانية التي كشفت عن تصعيد روسي ملحوظ في المياه الإقليمية البريطانية والأيرلندية، يشمل احتمال إطلاق مسيّرات تخريبية من سفن تابعة لأسطول الظل الروسي، مما شكّل تهديداً مباشراً لسلامة الطائرة الرئاسية الأوكرانية التي كانت تحلّق في طريقها إلى دبلن قبل أيام قليلة فقط. هذه التطورات دفعت بريطانيا إلى تفعيل فوري لبرنامج “حصن الأطلسي” لحماية البنية التحتية البحرية والجوية في سياق مواجهة التهديدات الهجينة الروسية المتزايدة.

عقب الوصول، توجه زيلينسكي مباشرة لعقد القمة الرباعية التي ضمت مضيفه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد هدف الاجتماع إلى توحيد الموقف التفاوضي وإعداد “خطة سلام أوكرانية-أوروبية” جاهزة للمشاركة مع الجانب الأمريكي في غضون أيام، خاصة بعدما وصفت كييف المحادثات مع مبعوثي ترامب بأنها “بناءة لكنها ليست سهلة”، مع التركيز على قضايا حساسة مثل السيطرة على “دونباس” والضمانات الأمنية.

وقد افتتح ستارمر القمة بتصريحات حاسمة وواضحة، أكد فيها أن الاجتماع يأتي في “مرحلة حرجة وحاسمة” من الصراع، مشدداً على مبدأين لا حياد عنهما في العقيدة البريطانية الحالية: الأول هو أن أي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون “عادلاً ودائماً” وليس مجرد هدنة تكتيكية تمنح روسيا فرصة لإعادة التسلح، كما حدث في اتفاقيات سابقة فشلت في منع التصعيد؛ والثاني هو الرفض المطلق لأي إملاءات خارجية على كييف، مؤكداً أن القرارات المصيرية المتعلقة بمستقبل البلاد تُتخذ حصرياً “من أجل أوكرانيا وبواسطة أوكرانيا”. وفي تصريح قبل القمة، أكد ستارمر على ضرورة “ضمانات أمنية حادة الحدود” لأوكرانيا، مشدداً على تعزيز القدرات الصاروخية طويلة المدى، وأضاف في سياق الاجتماع “نحن نقف إلى جانب أوكرانيا، وإذا كان يجب أن يكون وقف إطلاق النار، فيجب أن يكون عادلاً ومستداماً، ولهذا السبب من المهم جدًا أن نؤكد مرارًا أن القضايا المتعلقة بأوكرانيا هي قضايا يتم حلها بواسطة أوكرانيا، ونحن هنا للدعم في الحرب وفي المفاوضات وضمان تسوية عادلة ودائمة إذا تمكنا من تحقيق ذلك”، ومؤكداً التزام بلاده بـ “قوات حفظ سلام أوروبية” للعب دور حيوي في ضمان الأمن الأوكراني ما بعد الحرب، وأضاف ستارمر أن “القارة الأوروبية تقف إلى جانب أوكرانيا، وأن أي صفقة يجب أن تشمل ضمانات أمنية حادة الحدود لمنع أي عودة للعدوان”.

من جانبه، طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رؤية أوروبية استراتيجية تقوم على مبدأ “تكامل أوراق الضغط”، حيث أشار بثقة إلى أن أوروبا لا تقف مكتوفة الأيدي، بل تمتلك “الكثير من الأوراق الرابحة” التي يمكن استخدامها لتعديل ميزان القوى، وتشمل هذه الأوراق التمويل المستدام وطويل الأمد، الذي يصل إلى 90 مليار يورو من خلال قروض مضمونة بأصول روسية مجمدة، وتوريد المعدات العسكرية المتطورة مثل أنظمة الدفاع الجوي، وبرامج التدريب المكثفة للجيش الأوكراني، بالإضافة إلى الورقة الاقتصادية الحاسمة المتمثلة في العقوبات التي بدأت تؤتي ثمارها بوضوح وتخنق الاقتصاد الروسي، حيث انخفضت عائدات النفط بنسبة 27% وارتفع التضخم إلى أكثر من 16%، وداعياً إلى ضرورة تحقيق “تقارب في المواقف المشتركة” وتنسيق دقيق بين الأوروبيين والأوكرانيين والأمريكيين لإنهاء الحرب وفق “أفضل الظروف الممكنة” التي تضمن الأمن الجماعي للقارة بأسرها. وقد حذر ماكرون بكلمات قوية خلال اتصال سري سابق من أن هناك “فرصة لأن تخون الولايات المتحدة أوكرانيا” بشأن التنازلات الإقليمية دون وضوح في الضمانات الأمنية، معتبراً أن الخطر كبير جداً. وأكد في تصريحاته أن “أن هذا اللقاء سيأخذ في الاعتبار الوضع والمفاوضات الجارية في إطار الوساطة الأمريكية”، محذراً من “مسار التصعيد الروسي”. وأضاف في تصريحاته خلال القمة أن “لدينا الكثير من الأوراق الرابحة في أيدينا، تمويل وتوريدات ومعدات، ما يجعل أوكرانيا تواصل المقاومة في هذه الحرب، وكذلك أن الاقتصاد الروسي يبدأ في الشعور بالصعوبات، خاصة بعد العقوبات الأخيرة لنا وللولايات المتحدة، والآن أعتقد أن السؤال الرئيسي هو تحقيق موقف مشترك بيننا نحن الأوروبيين وأوكرانيا والولايات المتحدة لإكمال هذه المفاوضات السلمية ثم الانتقال إلى مرحلة جديدة في أفضل الظروف الممكنة لأوكرانيا وللأوروبيين وللأمن الجماعي، هذا يمكن أن يكون لحظة حاسمة للجميع، نحن نواصل دعم أوكرانيا كما تعلمون، ومن ناحية أخرى نتابع المفاوضات والاستشارات في موسكو”.

مناورات الناتو «الظهيرة الصامدة»: نظرة استراتيجية شاملة لتحول الدفاع الأوروبي

أما المستشار الألماني فريدريش ميرتس، فقد كان الأكثر صراحة وجرأة في التعبير عن القلق الأوروبي من التحركات الأمريكية، حيث أقر علناً وأمام الكاميرات بـ “تشككه في بعض التفاصيل” الواردة في الوثائق والمقترحات التي تصل من الجانب الأمريكي، مثل غياب آليات تلقائية للتدخل العسكري في حال الانتهاكات الروسية، لكنه استدرك بموقف مبدئي صارم مؤكداً أن “مصير أوكرانيا هو مصير أوروبا”، وأن التخلي عنها يعني انهيار الأمن القومي الألماني والأوروبي، خاصة مع تقارير عن تعزيز بريطانيا لدفاعاتها البحرية ضد تهديدات التخريب الروسي للكابلات البحرية. وفي تصريحاته خلال القمة وبعدها، أكد المستشار الألماني فريدريش ميرز موقفاً صلباً لا لبس فيه، قائلاً: أنا أتطلع إلى سماعك يا رئيس زيلينسكي بشأن ما دار في تلك المحادثات، ونحن نبقى بقوة إلى جانب أوكرانيا، ندعم بلدكم لأننا جميعاً ندرك أن مصير أوكرانيا هو مصير أوروبا ذاتها، ولهذا نحن هنا لنفهم ما يمكن فعله، ولا يجوز لأحد أن يشك لحظة في دعمنا لأوكرانيا، ولهذا نقف بثبات إلى جانبكم. ثم أضاف بصراحة: نتيجة المفاوضات ليست واضحة بعد، وأنا أبدي تشككي في بعض التفاصيل الواردة في الوثائق القادمة من خارج الولايات المتحدة، لكننا بحاجة ماسة إلى مناقشتها بعمق. وختم مؤكداً أن الدعم الألماني والأوروبي لكييف لن يتزعزع تحت أي ظرف، خاصة في ظل تقارير تفيد بأن ترامب يسعى “لإعادة بناء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا” كهدف أساسي لاستراتيجيته الجديدة، وأن الأوروبيين لا يمكنهم ترك قرار مصير الأصول الروسية المجمدة لـ “دول غير أوروبية”.

وقد اختتم زيلينسكي التصريحات العلنية بالتأكيد على أن “الوحدة” هي السلاح الأقوى في هذه المرحلة، مشيراً بواقعية سياسية إلى أن هناك قضايا لا يمكن حلها دون انخراط واشنطن، وأخرى لا يمكن إدارتها دون الدعم الأوروبي، مما يستدعي اتخاذ قرارات مصيرية وحساسة للغاية في الأيام المقبلة، وقال لـ “بلومبرغ” إن “المحادثات مع الولايات المتحدة كانت بناءة لكنها ليست سهلة”، مضيفاً أن “هناك قضية أريد الإجابة عليها: إذا بدأت روسيا حرباً أخرى، ماذا سيفعل شركاؤنا؟”. وأكد في سياق القمة أن “الأمر المهم حقاً اليوم هو الوحدة بين أوروبا وأوكرانيا، وكذلك الوحدة بين أوروبا وأوكرانيا والولايات المتحدة، لأن هناك أمور لا يمكننا القيام بها بدون الأمريكيين، وهناك أمور لا يمكننا القيام بها بدون أوروبا، لذلك نحن بحاجة إلى اتخاذ عدة قرارات مهمة، نحن جميعاً ندعم أوكرانيا، وجميعنا ندعم السلام والمفاوضات السلمية لتحقيق سلام مستدام ودائم”. وقد اختتم زيلينسكي تصريحاته مؤكداً سعيه لـ “سلام كريم” يعتمد على ضغط جماعي على روسيا، قبل أن يغادر مسرعاً لاستكمال جولته في بروكسل وروما، مما يعكس ضغط الوقت الهائل، خاصة مع اجتماع المجلس الأوروبي المقرر في 18 ديسمبر لإقرار آليات التمويل.

ومع ذلك، رفض جميع القادة الأربعة الإجابة على أسئلة الصحفيين، محصورين في بيانات قصيرة تدعم أوكرانيا، بينما يستمر زيلينسكي وستارمر في مفاوضات ثنائية لتعميق التنسيق.

وفي سياق هذه المفاوضات، أكد الأمين العام لمجلس الأمن القومي الأوكراني رستم أوميروف أن الوفد الأوكراني قضى عدة أيام في الولايات المتحدة يعمل جنباً إلى جنب مع ممثلي الرئيس ترامب، مشيداً بالعمل البناء الذي تم، ومشدداً على أن الأولوية كانت الحصول على معلومات شاملة بشأن مفاوضاتهم في موسكو وكل مسودات العروض الحالية لمناقشتها بالتفصيل مع الرئيس زيلينسكي، مضيفاً أنه يجب بذل كل الجهود مع جميع الشركاء لإنهاء هذه الحرب بطريقة لائقة تحفظ الكرامة والأمن. وأوضح أوميروف أن تقريراً مفصلاً سيُقدم اليوم للرئيس يغطي كافة جوانب الحوار مع الجانب الأمريكي إلى جانب الوثائق المتعلقة. ويأتي ذلك في أعقاب ماراثون مفاوضات يومي في ميامي انطلق يوم الخميس الماضي بين المبعوثين الأمريكيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر والمسؤولين الأوكرانيين أوميروف وأندريه غناتوف، حيث سيقدم الأول شخصياً لزيلينسكي تفاصيل الاتفاقات التي تم التوصل إليها في الولايات المتحدة. وبعد فضيحة تسرب محادثات مساعد بوتين يوري أوشاكوف ومبعوث الكرملين كيريل ديمترييف مع ويتكوف، قرر الوفد الأوكراني تقييد مناقشة المواضيع الأكثر حساسية باللقاءات الشخصية المباشرة فقط. وفي سياق أوسع، أعرب زيلينسكي خلال مقابلة مع وكالة بلومبرغ عن استمرار الخلافات في المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا بشأن مصير إقليمي دونيتسك ولوهانسك، مشدداً على إصرار كييف على التوصل إلى اتفاق منفصل يضمن ضمانات أمنية قوية من الحلفاء الغربيين وخاصة الولايات المتحدة. ويُذكر أن هذه المفاوضات تأتي عقب سلسلة من المناقشات مع ممثلي واشنطن حول الخطة السلمية، بما في ذلك مكالمة هاتفية نهائية استمرت ساعتين في السادس من ديسمبر بين زيلينسكي وويتكوف وكوشنر، حيث تركزت على أصعب القضايا مثل الأراضي والضمانات الأمنية.

كواليس “خطة ترامب”: طريق مسدود بين التنازلات الإقليمية والضمانات الزائفة

في فلوريدا، شهدت الأيام الأخيرة ماراثون مفاوضات شاق بين مبعوثي ترامب الشخصيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، والوفد الأوكراني برئاسة رستم أوميروف والجنرال أندريه غناتوف. الخطة الأمريكية المعدلة، التي تقلصت من 28 بنداً إلى نحو 19-20 بنوداً، تواجه عقبات وجودية تهدد بإفشالها تماماً، وتتركز هذه العقبات في نقطتين رئيسيتين؛ اولها مصير الأراضي المحتلة ومحطة زابوريجيا النووية، حيث تطالب الخطة كييف بالتنازل عن مناطق إضافية في الشرق، تقييد حجم جيشها إلى 800 ألف جندي في زمن السلم، وتجميد طموحاتها في الانضمام إلى الناتو، وهي شروط تُعتبر انعكاساً مباشراً لأهداف الكرملين دون مقابل ملموس من موسكو. زيلينسكي رفضها قاطعاً، مؤكداً أن “لا حل وسط بشأن الأراضي” وأن أي اعتراف قانوني بـ “الأراضي المسروقة” يشكل سابقة خطيرة؛ والنقطة الثانية طبيعة الضمانات الأمنية، التي وصفها التحليل الأمني الأوكراني بأنها “زائفة وهشة” تماماً، إذ تخلو الوثيقة من أي آلية تحفيز تلقائي تلزم واشنطن بالتدخل العسكري المباشر في حال خرق روسيا للاتفاق، وتقتصر على وعود فضفاضة بـ “التشاور” فقط. هذا دفع كييف إلى المطالبة بضمانات “حديدية” مكتوبة ومصادق عليها من الكونغرس لضمان ديمومتها.

ويتكوف-غيت: عندما يُدار البيت الأبيض من الكرملين

مصادر روسية أكدت أن مفاوضات ميامي استندت مباشرة إلى النتائج التي حققها ويتكوف وكوشنر في موسكو، حيث أجروا لقاءات “أساسية وموضوعية” بناءً على خطة “اعتمدها بوتين تقريباً”، مما يعزز الشكوك حول صفقة ثنائية أمريكية-روسية على حساب السيادة الأوكرانية. ترامب عبر عن إحباطه العلني من أن زيلينسكي “لم يقرأ المقترح بعد”، رغم زعمه أن “روسيا راضية عنه”. فيما اعتبرت كييف هذا التصريح تكتيكاً للضغط، مستخدمة توزيع الأدوار بين الوفد التقني (الذي يبدي مرونة) والرئيس (الذي يحتفظ بحق الرفض السياسي) لكسب الوقت.

المكالمة الهاتفية التي استمرت ساعتين في 6 ديسمبر بين زيلينسكي وويتكوف وكوشنر، وصفت رسمياً بأنها “مثمرة”، لكنها لم تحقق اختراقاً، وأكد زيلينسكي لاحقاً أن المفاوضات وصلت إلى “طريق مسدود”، خاصة في قضيتي الأراضي والضمانات. هذا الجمود يؤكد أن الخطة الأمريكية، رغم محاولتها الإسراع بتجميد الحرب، تبقى غير متوازنة وتُطيل أمد الحرب بدلاً من إنهائها بشكل عادل ومستدام. وتشير التحليلات النفسية والسياسية إلى أن اندفاع ترامب نحو هذه الصفقة نابع من دافعين رئيسيين: الأول هو “هوسه بالربح المادي” ورؤيته للعلاقات الدولية بمنظور الصفقات التجارية البحتة، كما يظهر في استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي تُقلل من تهديد روسيا للتركيز على الغرب الأوسط والمحيط الهادئ، والثاني هو خوفه الاستراتيجي العميق من سيناريو “التفكك غير المنضبط لروسيا”، الذي يعتقد أنه قد يؤدي إلى فوضى نووية عالمية أو يتيح للصين “التهام” الموارد الروسية والهيمنة على أوراسيا.

ووصل التوتر داخل المعسكر الأمريكي ذروته حين هدد دونالد ترامب جونيور علناً بانسحاب والده من المفاوضات وإغلاق الملف نهائياً ما لم تقدم أوكرانيا تنازلات فورية، فاستقبل الجانب الأوكراني هذا التهديد ببرود واضح وتحدٍ صلب، مؤكداً أنه يدافع عن وجوده الوطني لا عن مصالح تفاوضية عابرة.

في المقابل، يرى محللون غربيون أن هذه المناورات قد تكون مجرد غطاء لصفقة سرية بين ترامب وبوتين، تمنح موسكو مكاسب إقليمية دائمة مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، مما يُطيل أمد الصراع بدلاً من إنهائه بشكل جذري.

وفي تعليق لافت لرئيس هيئة الأركان في البيت الأبيض أليكس غراي، أعرب عن أمله في أن “يدرك الأوروبيون أن اللعب على الرئيس ترامب سيؤدي إلى نتائج كارثية لهم ولأوكرانيا معاً”، مؤكداً أن دونالد جونيور محق تماماً في حدته، لأن الرئيس “يملك قلباً كبيراً تجاه الذين يعانون في مناطق النزاعات”، وقد نجح في إنهاء أكثر من ثماني حروب في أقل من عام. لكنه أوضح الواقع الجديد بصراحة: “الرئيس يعيد ترتيب الأولويات؛ الرهان الآن على نصف الكرة الغربي وآسيا، وليس لدينا موارد للانغماس إلى ما لا نهاية في مفاوضات طويلة الأمد”. وختم غراي بملاحظة قاسية: “لو كان بإمكان الرئيس الضغط على بوتين بتسليم صواريخ توماهوك وباتريوت في غضون ستة أسابيع، لتراجع الكرملين فوراً؛ فالأداء العسكري الروسي في السنوات الأربع الأخيرة كشف أنها ليست سوى نمر من ورق، وقوة في تراجع مستمر”.

المناورة الروسية: طلب “الصمت” ومخاوف الانهيار الاقتصادي

على الجانب الروسي، حاول الكرملين الظهور بمظهر المسيطر والمتحكم في مسار الأحداث، حيث صرح المتحدث باسمه دميتري بيسكوف أن الوفد الأمريكي ويتكوف وكوشنر أجرى في موسكو عملاً شاملاً وموضوعياً، وأنه عمل بناءً على الخطة التي “اعتمدها الرئيس بوتين تقريباً”، مطالباً بلهجة حادة بأن تجري المفاوضات “في صمت تام” وبعيداً عن الإعلام، وأن تتم مناقشة العملية السلمية حصرياً في “غرف مغلقة”، مؤكداً تعنت موسكو بأنها “لن تقبل أي تعديلات” على الخطة خارج الشروط التي وضعها بوتين، مثل الاعتراف بالأراضي المحتلة والانسحاب الأوكراني. وأضاف أن الوفد الأمريكي عمل مع الوفد الأوكراني في ميامي بناءً على النتائج المحققة في موسكو، وأن “الأطراف الآن تفهم أكثر أن العمل يجب أن يتم في صمت”، مما يعكس رغبة الكرملين في إخفاء التفاصيل حتى التوقيع، وهو ما يُفسر كمحاولة لفرض شروط بوتين دون تدخل إعلامي يفضح التنازلات.

لكن خلف هذه الغطرسة الدبلوماسية، ترسم التقارير الاقتصادية صورة قاتمة للغاية للداخل الروسي؛ إذ تشير البيانات إلى أن روسيا تواجه كارثة اقتصادية وشيكة، حيث انخفضت عائدات النفط والغاز، التي تشكل عصب الميزانية، بنسبة 27%، وارتفع التضخم الحقيقي بشكل جنوني وأسعار الفائدة 16%، مع استنزاف أكثر من نصف الأصول السائلة في الصندوق السيادي الوطني منذ عام 2022، واضطرار موسكو لبيع نفطها للصين والهند بخصومات قياسية، مما حولها فعلياً من قوة عظمى إلى “شريك تابع” لبكين، خاصة مع خطط أوروبية لإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي بحلول 2027. حيث يُتوقع انخفاض النمو الاقتصادي إلى اقل من 1% في 2025، مع عجز ميزانية يصل إلى 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي تحليل معمق نشرته “الغارديان” مؤخراً، وصف الكاتب سيمون تيزدال الحرب كـ “كارثة اقتصادية ومالية وجيوسياسية وإنسانية لروسيا، تتفاقم يوماً بعد يوم”، مشيراً إلى أن بوتين “يدمر بلاده نظامياً”، وأن تدخل ترامب يُقدم له “يد الإنقاذ”، لكنه رفضها، قائلاً إن “هذين الغبيين يستحقان بعضهما البعض”، مضيفاً أن الصفقة كانت ستكافئ عدوان روسيا بتسليم أراض أوكرانية كبيرة، وتهدد استقلال كييف، وتضعف دفاعاتها، وتشق الصفوف بين الولايات المتحدة وأوروبا، وتُقوض الناتو، وتدعم الاقتصاد الروسي، وربما تسقط حكومة زيلينسكي، وهي أهداف الحرب الروسية الرئيسية، لكن بوتين يعتقد أنه يمكن أن يحصل على المزيد بالاستمرار في القتال، محذراً من أن “الاستراتيجية الأمريكية غير المتوازنة” تطيل الحرب، ويجب على ترامب التراجع قبل إلحاق ضرر أكبر، وداعياً أوروبا والناتو إلى تقديم المزيد من الأسلحة والقروض المضمونة بأصول روسية مجمدة، وتشديد العقوبات على قطاع الطاقة، واتخاذ إجراءات أمنية أقوى ضد التخريب والحروب الإلكترونية، لإنهاء “عصر إرهاب بوتين”.

كييف تسيطر على عمق روسيا وتعلن حرب تدمير اللوجستيات الاستراتيجية

كما حذرت مؤسسة “تشاتام هاوس” من أن استمرار العقوبات سيدفع بالاقتصاد الروسي إلى حافة الانهيار، حيث يتجاوز التضخم الحقيقي بكثير الرقم الرسمي (8%)، ويتفاقم عجز الميزانية، ويُستنزف أكثر من نصف الصندوق السيادي، وترتفع تكاليف الواردات الاستراتيجية بنسبة 122%، وتزداد الضرائب بشكل قاسٍ، حتى أسعار الخمور قفزت 5%. وتعاني عملاقتا النفط “روس نفط” و”لوك أويل” من تجنب المشترين الآسيويين للعقوبات الأمريكية الثانوية، بينما تفقد موسكو نفوذها الجيوسياسي في سوريا وإيران وفنزويلا، لتتحول فعلياً إلى “شريك أصغر تابع” لبكين. وهذا الضعف الاقتصادي المتسارع يفسر التزام أوروبا المتزايد بدعم أوكرانيا، كرد فعل مباشر على الضغوط الروسية، خاصة بعد أن بدأت كييف تستهدف نقاط الضعف الروسية بنجاح: مصافي النفط، وخطوط الأنابيب، وأسطول الظل للناقلات، مما يُسبب نقصاً متزايداً في الوقود وحالة من الذعر الداخلي، كما أكدت أحدث التحليلات الغربية.

الهندسة المالية والأمنية الأوروبية: من الاستقلال الاستراتيجي إلى “قرض التعويضات”

إدراكاً منها بأن أي تراجع أمريكي عن المشهد الأمني سيترك القارة مكشوفة تماماً، سارعت أوروبا إلى بناء استقلاليتها المالية والدفاعية بسرعة غير مسبوقة، وأبرز تجليات ذلك هو إقرار “قرض التعويضات” الضخم (المعروف أيضاً بـ”القرض الإصلاحي”) الذي يصل حجمه الإجمالي المحتمل إلى 210 مليارات يورو، تضمنه القوى الثلاث الكبرى: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

يعتمد القرض على آلية قانونية مبتكرة ومتدرجة أعلنتها المفوضية الأوروبية في 3 ديسمبر 2025، وتسير على الخطوات التالية: تجميد الأصول الروسية المركزية (260 مليار يورو عالمياً، 185 مليار منها في يوروكلير ببلجيكا)؛ استثمار هذه الأصول في سندات حكومية آمنة، مما يولد أرباحاً سنوية (3-5 مليارات يورو) تُحول مباشرة إلى كييف منذ يوليو 2024 (تم تحويل 1.5 مليار يورو في يوليو 2025، و1.7 مليار في نوفمبر 2025)؛ استخدام رأس المال المجمد نفسه – دون مصادرته – كضمانة احتياطية لإصدار سندات يوروبوندز جديدة بقيمة 90 مليار يورو (مدتها 20-25 سنة، فائدة 2-3%)؛ بيع هذه السندات في الأسواق العالمية، وتحويل العائدات فوراً إلى أوكرانيا لتغطية ثلثي احتياجاتها المالية لعامي 2026-2027 (من إجمالي 135 مليار يورو مطلوبة دولياً)، بينما يُغطى الثلث المتبقي من شركاء آخرين؛ في النهاية، يتم إلزام روسيا قانونياً بسداد القرض كاملاً عند فرض تعويضات الحرب الرسمية عليها، سواء بحكم محكمة دولية أو باتفاق سلام، مما يجعل الآلية “غير مصادرة” حالياً ويحميها من الدعاوى الروسية الفورية أمام محكمة العدل الدولية.

وقد وصفت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين الخطة بأنها “استثمار استراتيجي مباشر في أمن أوروبا ذاته”، لأنها تحول الأصول من عبء قانوني إلى أداة ردع حية دون انتهاك مبدأ الملكية.

في الكواليس، عقد اجتماع “متوتر ولكنه بناء” بين فون دير لاين والمستشار الألماني ورئيس وزراء بلجيكا بارت دي ويفر، أسفر عن اتفاق مبدئي على توزيع المخاطر القانونية والمالية بالتساوي على الـ 27 دولة الأعضاء باستخدام “التصويت المؤهل” (15 دولة = 65% من السكان) لتجاوز أي فيتو، وستُحسم التفاصيل النهائية في قمة المجلس الأوروبي يوم 18 ديسمبر. ورغم محاولات المجر المستمرة لعرقلة الخطة (كما رفضت سابقاً سندات يوروبوندز بـ 90 مليار يورو)، فإن الإجماع الأوروبي – باستثناء بودابست – يمضي قدماً بكل قوة، مدفوعاً برعب السيناريو الكابوسي: سقوط كييف واضطرار الجيوش الأوروبية للقتال مباشرة على حدودها.

وبدأت الخطوات العملية تتسارع لترجمة هذا الالتزام الأوروبي إلى واقع ملموس، فأعلنت هولندا تحويل 700 مليون يورو إضافية بشكل فوري من فوائض ميزانيات وزاراتها لدعم أوكرانيا في عام 2026، وانضمت إليها سبع دول من منطقة البلطيق وشرق أوروبا (إستونيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا والسويد وغيرها) في توقيع رسالة مشتركة موجهة إلى رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، تطالب بتسريع تنفيذ الخطة وتصفها بأنها “الخيار المالي الوحيد القابل للتنفيذ سياسياً والواقعي في الظروف الراهنة”.

وكانت بولندا الدولة الأكثر صراحة وإلحاحاً بين الموقعين، حيث قاد رئيس الوزراء دونالد تاسك بنفسه صياغة الرسالة، مؤكداً أن وارسو لن تقبل أي تأجيل أو تسوية نصفية، ومشدداً على أن استخدام الأصول الروسية المجمدة هو “واجب أخلاقي واستراتيجي” لأن بولندا نفسها ستكون الخط الأمامي في حال انهيار الجبهة الأوكرانية. وسبق لوارسو أن قدمت أكثر من 12 مليار يورو دعماً عسكرياً وإنسانياً منذ بداية الغزو، وتستضيف أكثر من مليوني لاجئ أوكراني، مما يجعلها الأكثر تضرراً اقتصادياً وأمنياً بين دول الاتحاد، وبالتالي الأكثر حماسة لتحويل الأصول الروسية إلى “سلاح تمويل” يضمن استمرار المقاومة الأوكرانية ويمنع تحول الحدود البولندية إلى خط مواجهة مباشر مع روسيا.

بهذا التحرك المنسق والمحكم قانونياً، تحولت أوروبا من مجرد داعم ثانوي إلى الضامن الأول – مالياً وأمنياً – لاستمرار أوكرانيا، مؤكدة أن أمن القارة لم يعد رهينة قرارات واشنطن، بل أصبح استثماراً مباشراً في مستقبلها الخاص.

الجبهة الداخلية الأوكرانية: صمود هش أمام عاصفة الضغوط المتعددة

يواجه الرئيس فولوديمير زيلينسكي ضغوطاً داخلية هائلة لا تقل شراسة عن وطأة الحرب الميدانية، حيث تُشكل الأزمات الاقتصادية والإنسانية والسياسية تهديداً وجودياً يهز أسس الدولة، في وقت يتراجع فيه الدعم الأمريكي التقليدي ويصبح الاعتماد الأوروبي خط الحياة الوحيد. يتصدر العجز المالي المشهد، إذ تعاني الميزانية العامة من فجوة فلكية تقارب 1.8 تريليون هريفنيا (نحو 40 مليار يورو)، حيث تتجاوز النفقات الدفاعية والأمنية وحدها 2.2 تريليون هريفنيا الإيرادات المتوقعة للدولة بأكملها (1.9 تريليون هريفنيا)، أي أن تكلفة الحرب تفوق إيرادات الدولة كلها قبل أن تنفق هريفنيا واحدة على التعليم أو الصحة أو الرواتب. هذا الخلل الهيكلي يُولّد حاجة ماسة وفورية لتوفير ما يقرب من 4 تريليونات هريفنيا إضافية لتغطية العجز الكلي والحفاظ على المجهود العسكري، وفقاً لتقديرات وزارة المالية الأوكرانية في نوفمبر 2025، التي تؤكد أن 70% تقريباً من الإنفاق الدفاعي أصبح يعتمد كلياً على المساعدات الخارجية. وتتضاعف هذه الأعباء بسبب التدمير الروسي المنهجي لبنية الطاقة الحيوية، حيث بلغت الخسائر أكثر من 40% من القدرة الإنتاجية، وانخفضت الطاقة المتاحة إلى 2.3 جيجاوات دون الطلب في وقت الذروة، مما يُنذر بشِتاء مظلم وقاس يُفاقم الأزمة الإنسانية إلى حد الكارثة ويهدد بانهيار كامل للاقتصاد المدني، كما حذرت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها الأخير الصادر في ديسمبر 2025، مؤكدة أن أوكرانيا تواجه “أسوأ أزمة طاقة في تاريخها الحديث” إذا لم تُعزز الشبكة فوراً بمولدات ووقود طارئ.

والأكثر خطورة هو النزيف الديموغرافي الحاد، الذي يُفرغ أوكرانيا من شبابها وقوتها العاملة، إذ غادر 128 ألف شخص البلاد في شهر واحد فقط (أكتوبر-نوفمبر 2025) هرباً من القصف المكثف، ليصل إجمالي اللاجئين خارج الحدود إلى أكثر من ستة ملايين مواطن، وفقاً لإحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، مما يخدم هدف موسكو الإستراتيجي طويل الأمد في إضعاف الكيان الأوكراني ديموغرافياً ويُهدد بتعطيل الإنتاج والاحتياطي العسكري.

وسياسياً، يُعمق الفراغ الإداري الناتج عن موجة الإقالات الأخيرة صراعاً خفياً ولكنه شرس للنفوذ، يهدد بتقويض الاستقرار الداخلي في أحلك اللحظات. هذه الإقالات، التي بلغت ذروتها في أكتوبر 2025 كرد فعل على هجمات روسية مدعومة بذكاء اصطناعي في الشرق، أحدثت ثغرات في الهيكل القيادي وأثارت جدلاً واسعاً حول كفاءة الإصلاحات العسكرية. هذه التغييرات، التي جاءت في سياق حملة مكافحة الفساد التي أشرف عليها زيلينسكي لإعادة بناء الثقة مع الحلفاء الغربيين، أحدثت فراغاً يُستغل اليوم من قبل “مجموعات الظل” – تلك الشبكات غير الرسمية المعروفة باسم “الثلاثيات” (ثلاثيات النفوذ المالي-عسكري، غالباً مرتبطة بأوليغارشيين مثل إيغور كولومويسكي ورينات أخمتوف، اللذين فقدا جزءاً كبيراً من نفوذهما بسبب الحرب والعقوبات) أو “السباعيات” (مجموعات أوسع تشمل رجال أعمال ومستشارين سابقين وأجهزة أمنية سرية) – لتُمارس دوراً غير دستوري في ملء الفراغ، من خلال التأثير على قرارات التعيينات والتوزيعات العسكرية دون رقابة برلمانية مباشرة. كما كشفت تحقيقات مكتب مكافحة الفساد الوطني (NABU) في نوفمبر 2025 عن تورط هذه الشبكات في قضية فساد بقيمة 100 مليون دولار. هذه القوى، التي غالباً ما تتقاطع مع مصالح أوليغارشية سابقة أو تحالفات أمنية سرية، تُشكل شبكة معقدة من الولاءات المتشابكة، حيث يُشاع أنها تُدار جزئياً من خلال مكاتب خاصة في كييف وخارجها، مما يُثير تساؤلات حادة حول مركزية السلطة التنفيذية وفعالية الرقابة البرلمانية، خاصة في ظل غياب انتخابات حرة منذ 2022 بسبب حالة الطوارئ، التي أجلت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لأسباب أمنية. هذا الواقع يُهدد بتآكل الثقة الشعبية في زيلينسكي بشكل متسارع، إذ أظهرت استطلاعات “معهد كييف الدول للعلوم الاجتماعية” في نوفمبر 2025 انخفاضاً بنسبة 12% في معدلات الدعم الشعبي له (من 68% في مايو 2024 إلى 56% في نوفمبر)، مع ارتفاع مخاوف الشعب من “الانقسامات الداخلية” إلى 45%، مما يعكس مخاوف متزايدة من أن يُستغل هذا الفراغ لفرض صفقة سلام مفروضة من الخارج، تُضعف الإرادة الوطنية في أكثر لحظات الضعف. في هذا السياق، يُصبح تعزيز الشفافية الداخلية وإعادة بناء الثقة أمراً حاسماً للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، قبل أن يتحول الصراع الخفي إلى انفجار علني يُعرقل الجهود الدبلوماسية ويُقوض الدعم الدولي.

في ظل هذه المعطيات القاتمة، ومع تراجع الدور الأمريكي تحت إدارة ترامب، يبرز سيناريو “تجميد الحرب” كخيار اضطراري يُطرح بقوة لتجنب الهزيمة الكاملة، كما أكده السفير فاليري زالوجني في تصريحاته، معتبراً إياه “الأكثر واقعية وقبولاً” في الوقت الراهن للحفاظ على كيان الدولة.

يرى المحللون أن المغادرة السريعة للقادة من قمة لندن تعكس قلقاً عميقاً من ضيق الوقت، حيث يسعى الجميع لتثبيت “صيغة التجميد” بضمانات أمنية أوروبية قوية قبل نهاية العام، لتفادي الانهيار أو فرض صفقة ترامب دون تعديل. ومع ذلك، يُخشى أن يُعزز هذا السيناريو الضغوط الداخلية، خاصة مع رفض موسكو لأي تنازلات، مما يجعل الوحدة الأوروبية والدعم العسكري المتواصل أمراً حاسماً للحفاظ على الاستقرار، إذ يُغطي التمويل الخارجي لعام 2025 الاحتياجات كاملة بفضل الشركاء، لكن الفترة 2026-2027 ستكون الأكثر تحدياً، كما حذر زيلينسكي في خطابه الأسبوعي: “سنعمل بأقصى درجات الإيجابية مع جميع الشركاء لضمان تحقيق السلام الكريم”، كما نقل موقع الرئاسة الأوكرانية.

الخطة البديلة: أوروبا تختبر استقلاليتها الأمنية وسط رهانات السلام الأوكراني

تُبرز مخرجات قمة لندن والتحركات الأوروبية المتسارعة توجه العالم الغربي نحو تفعيل الخطة البديلة بزخم غير مسبوق في ظل تراجع الدور القيادي الأمريكي التقليدي تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب التي أثارت قلقاً عميقاً بسبب تصريحاته المثيرة للجدل وتهديداته بتقليص الدعم لأوكرانيا. تعتمد هذه الخطة استراتيجياً على تحويل أوروبا إلى الضامن الأمني والمالي الأول لأوكرانيا مع قبول ضمني بتجميد الحرب مؤقتاً كواقع لا مفر منه شريطة أن يترافق هذا التجميد مع قدرات ردع أوروبية قوية تمنع موسكو من استغلال الهدنة لإعادة الهجوم. وتتجلى هذه القدرات في التركيز على تعزيز الدفاعات البحرية والجوية بما في ذلك التزام المملكة المتحدة بتقديم 1.94 مليار يورو لشراء خمسة آلاف صاروخ دفاع جوي لأوكرانيا كما أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر، إلى جانب خطة الاتحاد الأوروبي للاستثمار الدفاعي (ReArm Europe) بقيمة 800 مليار يورو التي أطلقتها رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين في مارس 2025 لتأمين استقرار أمني طويل الأمد.

ووصفت وسائل إعلام القمة بأنها إعلان عن وحدة أوروبية غير مسبوقة لكنها تمثل في الوقت ذاته اختباراً حقيقياً لقدرة القارة على قيادة صفقة سلام مستقلة دون الاعتماد الحصري على واشنطن، خاصة في ظل تلميحات روسية إلى مفاوضات منفصلة مع ترامب قد تقوض الجهود الأوروبية وتطيل أمد الحرب. وقد أكد ستارمر في تصريحاته على ضرورة ضمانات أمنية صلبة مشدداً على أن أي هدنة يجب أن تُدعم بقوة عسكرية أوروبية ملموسة تشمل “أحذية على الأرض وطائرات في السماء” في إشارة إلى استعداد المملكة المتحدة والدول الأوروبية الأخرى لنشر قوات لحفظ السلام إذا لزم الأمر. كما أبرزت تصريحات القادة الأربعة ستارمر وإيمانويل ماكرون وفريدريش ميرتس وجورجيا ميلوني التزامهم بتأمين التمويل اللازم لأوكرانيا لعامي 2026 و2027 عبر استغلال الأصول الروسية المجمدة لضمان استدامة الدعم المالي والعسكري.

وفي المقابل تتمسك كييف باستراتيجيتها طويلة المدى التي ترى أن السلام المستدام لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تفكيك الهيكلية الإمبراطورية لروسيا بشكل مُدار وسياسي لإنهاء ما تصفه بعصر إرهاب بوتين. وتعتبر أوكرانيا أن أي حلول مؤقتة مثل تجميد الصراع قد تفضي إلى تقسيم دائم لأراضيها أو استمرار هجمات هجينة مثل الهجمات السيبرانية والتضليل الإعلامي مما يهدد أمن العالم بأسره. هذا الموقف عززه الرئيس فولوديمير زيلينسكي في خطابه خلال القمة حيث أكد أن السلام الحقيقي يتطلب ضمانات تحول دون عودة الحرب محذراً من أن أي هدنة دون ردع فعال ستكون مجرد تأجيل للمواجهة الحتمية.

وفي تحليل لصحيفة ذا غارديان وُصفت هذه اللحظة بأنها اختبار تاريخي لاستقلالية أوروبا الأمنية لأول مرة منذ عقود محذرة من أن فشل القارة في تقديم دعم قوي لكييف قد يطيل الحرب إلى أمد غير محدود خاصة إذا استغلت روسيا المناورات الأمريكية لتعزيز مواقعها. ومع ذلك أكدت القمة على ضرورة إعادة هيكلة التحالفات الأوروبية لمواجهة عصر جديد من التوترات متعددة الجبهات عبر بناء تحالف الراغبين الذي يضم دولاً مثل المملكة المتحدة وفرنسا وبولندا وإيطاليا لضمان استمرارية الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا بما يحافظ على سيادتها ويحمي الأمن الإقليمي في مواجهة التحديات المستقبلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *