“من البحر إلى النهر” .. بعض مظاهر التغيّر في الرأي العام الأميركي
وسام رفيدي
2/2/2024
لا يختلف إثنان حول اتساع ظاهرة التضامن مع الشعب الفلسطيني في أوساط الأميركيين، ناهيك عن إدانة العدوان الصهيوني، والمطالبة بوقفه، وفق الشعار المدوّي وقف إطلاق النار، فحجم الفعاليات من حيث المشاركين، وتنوع أصولهم العرقية والإثنية والعمرية، وشمولها تقريباً معظم المدن والولايات الرئيسة في أميركا، كل ذلك أكد حقيقة ذلك الاتساع غير المسبوق، وكانت تلك سابقة في الرأي العام الأميركي تجاه قضية شعبنا، والموقف من الاستعمار الصهيوني لفلسطين. إنه اتساع يعيد للأذهان الحركة المعادية للحرب على فيتنام نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات.
ومع ذلك فالمفاجأة، والتي باعتقادي لم يتوقعها أكثر المطلعين والمراقبين للرأي العام الأميركي، أن التضامن تجاوز أعلاه المطالبة بوقف إطلاق النار، ليصل حد ما هو أكثر جوهرية لحقيقة الصراع، بطرحه كصراع وجودي بين الشعب الفلسطيني وقضيته التحررية، وبين المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي في فلسطين.
كان لافتاً، كمدخل لنقاش هذه الظاهرة المثيرة، التمعن بما نتج عن الاستطلاع الذي نقلت خبراً عنه نيويورك بوست، وكانت أجرته جامعة هارفارد ومعهد هاريس، وبثت خبراً عنه فضائية الغد، بما تضمنه من نتائج قرعت ناقوس الخطر لدى دولة الاحتلال. لقد اظهر الاستطلاع، الذي استهدف الشباب من الفئة العمرية 18-24 أن 51% من المستطلعين مقتنعون أن الحل الأمثل للصراع هو انهاء وجود دولة إسرائيل، وتسليم الأرض والحكم للفسطينيين، غير ذلك، فقد أكدت غالبية المستطلعين أن اعتداءات الكيان تاريخياً هي السبب وراء هجوم 7 أوكتوبر. أما صحيفة الغارديان فقد نقلت في تقرير لها أن 25% من اليهود يعتقدون أن (سرائيل) تمارس سياسة الأبارتهايد، فيما 20% ممن هم دون الأربعين يعتقدون أن (إسرائيل) ليس لها الحق في الوجود.
هذا التحول في الرأي العام يؤشر لحقيقة بمثابة هزيمة، وهي اندحار الرواية الصهيونية المؤسطرة بالحكاية الدينية، حول (الحق التاريخي لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل)، وبالتالي انتزاع الشرعية التاريخية المؤسطرة للكيان، ناهيك عن التشكيك بمشروعية المشروع الصهيوني، والأيديولوجيا والحركة الصهيونية من الأساس. ذلك المفصل من تلك الرواية كان بمثابته الركن الركين في معمار الرواية طوال تاريخ الحركة الصهيونية.
ما أظهره الاستطلاع يمكن تلمسه في العديد من الفعاليات والمقالات الصحفية التي تناولت الصراع منذ السابع من أوكتوبر. لقد بدأت تلك الكتابات تبتعد، ولو بالتدريج، عن المحتوى الكلاسيكي السائد عادة في الكتابات الصحفية، والتي تركز حول نتائج أو مظاهر للصراع، من نوع القرارات والمواضيع المتعلقة إجمالاً في الضفة الغربية والقدس، وخاصة قضايا الاستيطان، بحيث افتقدت تلك الكتابات تناول حقيقة الصراع، اي اساس وجود المشروع الاستعماري الصهيوني الإحلالي في فلسطين. أما كيف تمظهر ذلك التحول في الكتابات والفعاليات معاً فيمكن تلمسه في المظاهر التالية:
1- شعار من البحر للنهر (From the river to the sea Palestine will be free)، والذي يعني ببساطة إعادة طرح الجغرافية السياسية للنضال التحرري الفلسطيني وهدفه بتحرير فلسطين التاريخية.
انتهكت تلك الجغرافية السياسية مرتين، الأولى عند اغتصاب 56% عام 48، والثانية عام 1993 في اتفاقية أوسلو بفعل السياسة اليمينية لقيادة المنظمة في اتفاقية أوسلو، والتي اختزلت فلسطين للضفة والقطاع ب 22% من فلسطين.
إن طرح شعار من البحر للنهر في الفعاليات التضامنية المختلفة، ونقاشه في الصحافة الأميركية كان يعبر عن حقيقة بداية طرح الإشكالية التاريخية في هذا الجزء من العالم، وبداية النقاش جدياً في مدى مشروعية المشروع الصهيوني أصلاً، إشكالية تتمثل بقيام كيان استعماري عنصري على ارض فلسطين، وبالتالي فالحل هو إنهاء وجود هذا الكيان. حتى لو بحدود النقاش، فالتشكيك بشرعية وجود (إسرائيل) والدعوة لتحرير فلسطين، هو متغير جذري في الرأي العام الأميركي.
وبطبيعة الحال، وبالتوازي، أُعيد من جديد طرح قضية النكبة، وهذه المرة ليس من زاوية إنكار النكبة، كما جرت العادة، بل من زاوية تبريرها.
2- تهتك الدعاية الصهيونية. الحقائق، وفقط الحقائق، وجهت ضربة قاسية للدعاية الصهيونية ضد الفسطينيين والمقاومين، مقاومة شعب مستعمَر يُظهر بسالة وصمود استثنائيين، ومجازر للتطهير والإبادة الجماعية وتدمير كل مرافق الحياة، قل نظيرها في التاريخ، يرتكبها الصهاينة. تلك حقائق فضحت الدعاية الصهيونية وعززت مكانة الرواية الفلسطينية.
لا شيطنة مقاتلي “حماس” والمقاومة، ولا نزع إنسانية الفلسطيني، ولا القصص المؤلفة بطريقة ساذجة ومفضوحة عن قطع رؤوس الأطفال وحرقهم، والاغتصاب الجماعي للنساء والأطفال، ولا (روايات) مشفى الشفاء وقيادة “حماس” التي فيه، ولا من قبله اكذوبة المشفى المعمداني، كل ذلك لم ينفعهم.
ومَنْ دحض تلك المرويات هم شهود من مستوطني المستعمرات التي إقتحمها المقاتلون، والعديد من وسائل الإعلام الغربية. وحسناً فعلت حماس بتقديم (روايتنا) لما فيها من تفنيد لأكاذيبهم. اندحرت روايتهم وانتصرت رواية المقاومة. لقد نجحت حماس والمقاومة إعلامياً، نجح شعبنا ونشطاؤه، نجح مؤيدو شعبنا.
كان الهدف من دعايتهم هذه، والتي غزت الصحافة الأميركية، هو ضرب التأييد لشعبنا الذي بات واضحاً في الإعلام والشارع، من قبل المضطهَدين الأميركيين من ذوي البشرة السوداء والآسيويين والمكسيكيين. كانت الدعاية الصهيونية لا تقوم فقط على الجزئيات التي سجلناها أعلاه، بل على الاستخدام الكلاسيكي للثيمات التي ميّزت الدعاية الصهيونية تاريخياً، ثيمة (الخوف الدائم) و (الضحية)، وهذا ما فقد تأثيره على الرأي العام.
لم تعد تلك الدعاية تجد سوقا لها في الأوساط المتسعة يوماً بعد يوم في الرأي العام الأميركي، فقد انفضحت وبانت هشاشتها وكذبها، وهو ما بات يظهر في الصحافة ايضاً.
3- وارتباطاً بتهتك الدعاية الصهيونية فقد تراجعت تهمة (اللاسامية) كخط الدفاع/ الاتهام الأول، أمام كل مَنْ يتهم الصهاينة وكيانهم بالعنصرية تجاه شعبنا. تتحول التهمة هذه لأضحوكة يوماً بعد يوم ولم تعد تنفع كخط دفاع، ومع ذلك يشهد التاريخ على النجاح الهائل الذي حققته الحركة الصهيونية بتحويل كارثة (الهولوكوست) النازي، و(اللاسامية) كموقف عنصري معادٍ لليهود، لخط الدفاع الأساس عن الممارسات المجرمة والفاشية للصهاينة، والاهم لتبرير استعمار فلسطين. لقد تحوّل الاتهام (باللاسامية) إلى بقرة حلوب للدعاية الصهيونية في وجه كل مَنْ يؤيد حقوق الشعب الفلسطيني، ويدين ممارسات المستعمر الصهيوني. لقد انتهى عهد هذا النجاح.
ومن المفارقات التي أزعجت الصهاينة كثيراً هو ذلك الموقف للمجموعات اليهودية الأميركية الشابة التي تتخذ موقفاً معادياً للصهيونية، ولإسرائيل وممارساتها وفق شعار “ليس بإسمنا” (Not in our name)، متناغمةً مع موقفها الرافض لاستخدام فزاعة (اللاسامية) لقهر الصوت المعارض للممارسات الصهيونية. إن اتخاذ أوساط يهودية موقفاً كهذا، يعني أن داخل اليهود أنفسهم لم يعد لتهمة اللاسامية سوق، وليس اهم من ذلك خروج العديد من أحفاد مَنْ تعرضوا (للهولوكوست) النازي، أو تربوا على رفع تهمة (اللاسامية) في وجه كل مَنْ يدين الكيان الصهيوني وممارساته، ليدينوا الممارسات الصهيونية، ويرفضون استخدام الهولوكوست كتبرير للإبادة، واللاسامية حجة لتكميم الأفواه، كحال الطالب من جامعة براون، وهو حفيد أحد ضحايا الهولوكوست، والذي جرى اعتقاله لمطالبته بسحب الاستثمارات من داخل الكيان انسجاماً مع موقع حركة المقاطعة “BDS”.
4- ما ينسحب على المجموعات الشبابية اليهودية ينسحب على الشباب الأميركي عموماً، ورفضه للسياسة الأميركية الرسمية. انتشرت في الصحافة الأميركية مقالات تؤكد عدم شعبية تلك السياسة، لا بل وتسببها بالحرج الشديد، خاصة لجمهور الحزب الديمقراطي، نتيجة التأييد العلني للإبادة الجماعية تحت شعار (لا لوقف إطلاق النار). لذلك بات الديمقراطيون يتوقعون خسارة الجيل الشاب الجديد نتيجة سياسة بايدن، والتي لم ينفعها مطالبتها بإدخال المعونات الإنسانية، (كموقف إنساني)، فيما رفضهم لوقف إطلاق النار، اي استمرار الإبادة، يكذب تلك الإنسانية المزعومة. لقد تضاعف عدد الديمقراطيين الشباب الذين ينتقدون سياسة بايدن، وأيضا تضاعفت نسبة مَنْ يعتقدون أنهم لن يصوتوا للديمقراطيين مستقبلاً، خاصة في ولايات غير ميتشغان، والتي بات عدم تصويتها للديمقراطيين محسوماً، بفعل ثقل الصوت العربي والإسلامي فيها. ذلك المتغير عن أن السياسة الأميركية باتت تواجه معضلة جديدة مع الجيل الشاب الجديد لم تعتد عليها من قبل، خاصة أن ذلك الجيل، بات يطرح قضايا الصراع من زاوية حقيقته كصراع وجود.
5- أما الظاهرة الأخيرة فهي تحول إدارات الجامعات لنخبة تمارس مكارثية فاشية جديدة ضد كل صوت يعارض الممارسات الصهيونية، ويظهر دعمه للموقف الفلسطيني، خاصة بعدما ظهر جلياً ان تلك الإدارات، هي رهينة دعم رأس المال الصهيوني، الذي بات يمارس ابتزازا علنياً ضد تلك الإدارات.
وعندما نقول مكارثية فاشية جديدة فقد بدأت معالمها بالظهور، كمثال إجبار رئيسة جامعة بنسلفانيا على الاستقالة لسماحها بإقامة مهرجان (فلسطين تكتب)، ولاحقاً رفض إعطاء الطلاب اليهود الموافقة على تنظيم محاضرات توضح حقيقة غسيل الدماغ الذي تعرضوا له تاريخياً، وحظر نشاط منظمة (طلاب من أجل العدالة لفلسطين)، والاستجواب الذي خضع له رؤساء الجامعات من قبل الكونغرس! على هذا الصعيد فالإدارات في صف والعاملون والطلاب في صف آخر. هذا حال العديد من الجامعات.
يمكن القول أن خشية جدية تسيطر على النخبة الأميركية واللوبي الصهيوني من موقف طلبة الجامعات، خاصة داخل جامعات النخبة، مثل هارفارد وييل وكولومبيا وماساشوستس، من أن تتحول تلك الجامعات، بفعل موقف العاملين والطلاب، (لماكينة تفريخ) لنخب مهنية جديدة منحازة للحق الفلسطيني، مرشحة لتحتل موقعاً مؤثراً في المؤسسة الأميركية، بديلاً للنخبة الحالية في المدَيَين القريب او المتوسط، ولكن حتى اللحظة لا يمكن الجزم بمدى واقعية هذا التخوف وتلك الاحتمالية.
بالمجمل، فتغيرات عديدة باتت تطبع الرأي العام الأميركي، والشبابي بشكل خاص، بطابعها الخاص المعادي للصهيونية والمؤيد لفلسطين.