هل يمكن المقايضة بين “حماس” والاحتلال؟
هاني المصري
مدير المركز الفلسطيني لابحاث السياسات و الدراسات الاستراتيجية – مسارات
14/3/2024
منذ بدء معركة طوفان الأقصى، طُرحت توقعات بأن المستقبل أو نتيجة الحرب سيحملان سقوط حكومة نتنياهو وتغيير القيادة الفلسطينية واختفاء حركة حماس أو إضعافها أو خلق “حماس” جديدة، وعبرت قيادات وكتاب فلسطينيون عن المسألة بصورة مختصرة ومباشرة، “بلا عباس وبلا حماس فلسطينيًا، وبلا نتنياهو إسرائيليًا”.
ومع دخول العدوان شهره السادس، وتبيان ملامح أوضح لنتيجة المعركة، هناك من استجاب لمطلب تشكيل حكومة تكنوقراط، والسبب الرئيسي وراء أن تأخذ هذا الشكل وليس شكل حكومة وحدة وطنية كما كان مطروحًا قبل طوفان الأقصى، هو استبعاد الفصائل، وتحديدًا “حماس” من المشاركة فيها؛ لأنها مصنفة حركة إرهابية وسببت زلزالًا في دولة الاحتلال وكانت له ارتدادات قوية في المنطقة والعالم، لذا فإن استمرار وجودها بوصفها لاعبًا رئيسيًا في السلطة في قطاع غزة، أو حتى لاعبًا مهمًا، سيعطي ذريعة لدولة الاحتلال وشركائها وحلفائها لاستمرار الحرب، وسيعزف معظم المانحين المحتملين لعملية البناء والإعمار عن المساهمة كونهم ضد “حماس”، وبالتالي بقاء الدمار والمعاناة الإنسانية الهائلة التي سببتها حرب الإبادة التي وصلت إلى ارتكاب جرائم الإعدامات الميدانية، والمجاعة حتى الموت، وسرقة أعضاء من الأحياء والأموات، لذا من المتوقع استخدام التمويل لتحقيق الأهداف التي لم تستطع حرب الإبادة تحقيقها.
وانتشرت فكرة تشكيل حكومة التكنوقراط التي تسمى أحيانًا بذلك وأحيانًا تسمى حكومة الوفاق الوطني، أو الكفاءات الوطنية، وهذا الفارق بالتسمية يعكس استمرار الانقسام الفلسطيني، وظهر خلاف جديد قديم حول مرجعية الحكومة، هل هي الرئيس أم المنظمة أم مرجعية وطنية يتم تشكيلها مؤقتًا إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد عبر الانتخابات أساسًا، وينتخب مجلسًا مركزيًا ولجنة تنفيذية جديدَيْن، ومن الطبيعي في ظل الانقسام وتحت الاحتلال وعدم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية منذ فترة طويلة تشكيل مرجعية وطنية واحدة مؤقتة لا تكون بديلًا من مؤسسات المنظمة ولكن تجسد الوفاق الوطني إلى حين إجراء الانتخابات.
لقد بدأ التفكير بتشكيل حكومة التكنوقراط منذ مدة ولكن بصورة عملية بعد تقديم حكومة محمد اشتية استقالتها، وقبول الرئيس للاستقالة، وتحولها إلى حكومة تصريف أعمال إلى حين تكليف رئيس حكومة جديد بتشكيلها وتقديم حكومته إلى الرئيس. ومن المتوقع أن تستمر الحكومة المستقيلة بتصريف الأعمال لأشهر عدة، وربما أكثر، وذلك لعدم التوصل إلى اتفاق حول التهدئة وعدم وضوح متى ستضع الحرب أوزارها، وهل ستبقى حكومة نتنياهو أم سيعاد تشكيلها أم ستسقط وتشكل المعارضة حكومة جديدة، وهذا يعني أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، فكيف ذلك لنر.
لا يخفى على أحد أن تشكيل حكومة تكنوقراط من دون مشاركة الفصائل، وخصوًصا حركة حماس، مطلب أميركي دولي أوروبي إقليمي يتوافق مع منحها صلاحيات كاملة وقيام الرئيس بدور فخري (وهذا ما رفضه الرئيس) و”تجديد السلطة” لتقوم بالدور الأمني المطلوب منها بشكل أفعل. وهذا ينسجم مع القول حول اليوم التالي للحرب؛ بمعنى قطاع غزة بعد “حماس”، وهو يدل على عودة متدرجة لنوع من الوصاية الدولية والإقليمية والإسرائيلية على القرار الفلسطيني، وهذا يذكر بما جرى سابقًا، فكما نذكر بعد انتفاضة الأقصى مورست ضغوط شديدة على الرئيس الفلسطيني لإصلاح السلطة (حق يراد به باطل)، عبر استحداث منصب رئيس حكومة ومنحه صلاحيات تنافس إن لم تكن أكبر من صلاحيات الرئيس ياسر عرفات، الذي فُرِض عليه الحصار في مكتبه إلى حين اغتياله، بعد أن انقلب على موافقته على تفويض رئيس الحكومة بصلاحيات واسعة على أمل أن يؤدي هذا إلى رفع الحصار عنه، بينما هو يستهدف تغيير السلطة لتكون بلا سلطة وهدفًا نهائيًا.
الجدير بالذكر أن مقاربة تشكيل حكومة تكنوقراط على رغم ما تحققه من فوائد كبيرة للاحتلال، فإنها تختلف عن مقاربة حكومة نتنياهو عن اليوم التالي التي لا تتسع لقبول تشكيل حكومة واحدة للضفة الغربية وقطاع غزة، ومن شأن تشكيلها أن يسرّع انسحاب القوات الاسرائيلية التي احتلت معظم قطاع غزة وتستهدف استكمال احتلال قطاع غزة باحتلال رفح أو من دونها، من خلال استخدام مصطلح بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية إلى فترة محددة حينًا وإلى عشرة سنوات حينًا آخر، كما تسرب من معلومات عن خطة يعدها نتنياهو، والاعتماد على جهات محلية لتقوم بمقام السلطة؛ أي إدارة مدنية تحت الاحتلال؛ لتعفي الاحتلال من مسؤولياته، كما جرى منذ اتفاق أوسلو حتى الآن؛ حيث أصبح الاحتلال الإسرائيلي احتلالًا مربحًا، احتلال خمس نجوم؛ لأن المجتمع الدولي والدول المانحة تموّله ضمن ما كان يسمى “عملية السلام”، التي كان من المفترض أن تنتهي باتفاق نهائي في أيار 1999، واستمرت بهذا الدور بأحجام متفاوتة حتى الآن.
ما سبق يعني إذا لم تتغير الحكومة الإسرائيلية أو تغير موقفها من السلطة وتقبل سلطة واحدة، فإن كل فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط ستكون في مهب الريح، أو تقبل أن تعمل في ظل الاحتلال وتغطي عليه، أو تتشكل “حكومتان” تحت الاحتلال واحدة في الضفة والثانية في القطاع، وهذا أسوأ ما يمكن أن يحصل.
لعل ما يجري في الضفة الغربية منذ أكثر من عشرة أعوام من بقاء السلطة في الضفة تحت الاحتلال ضمن سقف أمني اقتصادي من دون عملية سياسية ولا حتى مفاوضات شكلية، هو النموذج الذي سيجري العمل على تحقيقه في القطاع؛ أي إعادة احتلاله وليس مجرد عملية عسكرية مؤقتة، ولكن بعد تقسيمه إلى شمال وجنوب وهندسته وإقامة مناطق آمنة وعازلة … إلخ.
لو كانت عملية مؤقتة لكان من الطبيعي عودة السلطة إلى القطاع ضمن طرح عملية سياسية جادة، والاستعداد للتعامل مع طرف فلسطيني “معتدل” في مواجهة طرف “متطرف”، وهذا لا يحدث، بل يتم شيطنة السلطة في الضفة وغزة في سياق عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه، لا سيما مع تزايد قوة ونفوذ الأحزاب الإسرائيلية الأكثر تطرفًا التي لا تريد سلطة واحدة، ولا تقبل قيام دولة فلسطينية حتى شكلية.
بدلًا من الانطلاق من ذلك والتركيز على وحدة الموقف والقيادة والحكومة، قام البعض بالبناء على فكرة حكومة التكنوقراط، سواء من خلال مطالبة “حماس” التي وافقت على حكومة التكنوقراط شرط أن تكون لها مرجعية وطنية بالموافقة بألا تكون ضمن المرجعية الوطنية وذلك بالإصرار أن تكون لمنظمة التحرير الحالية، وبشكل أدق يكون مرجعيتها الوحيدة الرئيس محمود عباس وحده كحال معظم الحكومات التي شكلت في عهده، ومن دون وجود سلطة تشريعية، وعدم استقلال السلطة القضائية، وتجاوز القانون الأساسي المعدل الذي منح صلاحيات واسعة للحكومة ورئيسها و للرئيس، وبعد تجويف مؤسسات منظمة التحرير التي تحولت إلى مؤسسات تشاورية لا يتم التشاور معها إلا نادرًا.
صحيح أن مرجعية الحكومة في النظام المختلط الرئاسي البرلماني تضم الرئيس والحكومة ورئيسها والمجلس التشريعي والمنظمة بوصفها المرجعية العليا للسلطة، ولكن كل ذلك ذهب مع الريح، كما من المفترض أن تكون المنظمة وليس السلطة هي المرجعية الفعلية؛ حيث انقلبت الأمور رأسًا على عقب، لدرجة أنه حتى موازنة المنظمة مجرد فرع صغير من موازنة السلطة، وهذا كله ساهم في حالة الموت السريري التي تشهدها مؤسسات المنظمة منذ وقت طويل.
وهناك من مضى أبعد مما سبق بكثير، وطالب “حماس” بنزع سلاحها والتحول إلى حزب سياسي وحل سلطتها بالكامل حتى يسرع بذلك إنهاء الاحتلال لقطاع غزة، فهل حل السلطة في غزة التي لحقت بها أضرار فادحة لا تمكنها إلى حد كبير من العمل سيساعد على إنهاء الاحتلال الجديد لغزة حتى لو كان بحلته الجديدة، فالاحتلال وفق القانون الدولي استمر للقطاع حتى بعد إعادة انتشار القوات الإسرائيلية تطبيقًا لخطة فك الارتباط؛ لأنه احتفظ بجزء من أراضي القطاع، وسيطر على الحدود والأجواء والبحر، وحاصره، وشن عليه العدوان وراء العدوان، وسيأخذ الآن شكلًا مباشرًا وسافرًا.
ما يحتاج إليه القطاع حاليًا إلى حين قيام حكومة واحدة توحد الضفة والقطاع هو لجان شعبية متنوعة ومرجعيات وطنية تقوم بدور الحكومة، تشارك فيها تشكيلات الحكومة التي لا تزال موجودة وقادرة على العمل؛ لأن تجاوزها كليًا سيحدث فراغًا، كما حصل فعلًا، وسيتم ملؤه من عصابات ومسلحين مدعومين من الاحتلال.
لن يتم القضاء على “حماس”؛ لأنها لا تزال مع بقية فصائل المقاومة تقاوم، ولأن أسباب قيامها المتمثلة في الاحتلال وجرائمه لا تزال قائمة. نعم، يمكن أن تضعف عسكريًا، ولا تستطيع الاحتفاظ بالسلطة، ولكنها قويت شعبيًا، وستبقى لاعبًا مهمًا إن لم يكن الأهم، خصوصًا في قطاع غزة، والكل عليه أن يتعامل على هذا الأساس إذا أراد إنهاء الاحتلال لا التساوق معه.
ما سبق، لا سيما هدف إعادة الاحتلال لقطاع غزة، يفسر منع تدفق المساعدات الإنسانية؛ لأن المطلوب جعل القطاع غير قابل للحياة وعلى الأقل تقليصه جغرافيًا وسكانيًا، وهذا يفسر منع الجهة المؤهلة للمساهمة في توزيعها وهي بقايا سلطة الأمر الواقع، لذلك أيضًا تم قصف عناصر ومركبات السلطة وارتكاب مجزرة الطحين واللجوء إلى العمليات المسرحية بإنزال المساعدات من الجو، والتفكير بإقامة رصيف بحري لنقل المساعدات من قبرص إلى القطاع، على الرغم من وجود ممرات برية عدة وآلاف الشاحنات المنتظرة على معبر رفح، والعالم كله عاجز وغير قادر على فرض دخول المساعدات الإنسانية ومنع انتشار المجاعة والأوبئة والفوضى والعصابات.
هل يمكن تصديق أن إدارة بايدن غير قادرة على إدخال المساعدات أم الحقيقة أنها شريكة في الجريمة، والخلافات مع حكومة نتنياهو هدفها إبعاد نفسها عن الجرائم، أو خلافات داخل البيت الواحد على الشكل المناسب للحرب الذي يحقق أكبر المكاسب وأقل الخسائر؟
إن ما تقوم أو لا تقوم به واشنطن يصب في خدمة ما تقوم به قوات الاحتلال من الاستمرار في جعل قطاع غزة غير قابل للاستخدام الآدمي لفترة طويلة؛ ما يساهم كثيرًا في دفع من يستطيع إلى الهجرة، التي تسمى “طوعية” وما هي كذلك، وليس من المستبعد استخدام الممر البحري لتهجير أهل القطاع، وليس فقط للمساهمة في إغاثتهم وإطعامهم وعلاجهم، خصوصًا أن استخدام قبرص بوصفها ممرًا للتهجير أو لإقامة جزيرة هي أفكار مطروحة.
لا بديل من عودة الاحتلال إلى قطاع غزة سوى بلورة بديل وطني يحل محل السلطة في القطاع إلى حين تشكيل حكومة واحدة تضمن وحدة ومصير الأراضي المحتلة، وتبقي طريق إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين مفتوحًا. ومن دون ذلك ستشكل سلطة أو سلطات محلية برعاية الاحتلال، وسيتم تشجيع الفلتان والاقتتال الداخلي، حتى يتم قتل الأمل بإقامة الدولة الفلسطينية الذي زرعته الدماء الغزيرة والتضحيات الغالية والصمود الأسطوري والبطولات الباهرة.
لو كان الاحتلال ينسحب بوقف المقاومة واستبعاد المقاومين لفعل ذلك بعد أوسلو، بل إن أي تنازل كبير سيقود إلى تنازلات أكبر، وما يجري في الضفة وما يمكن أن يجري خير دليل.
إن الموافقة على تشكيل حكومة تكنوقراط بمرجعية وطنية تراجع ضروري، أما استبعاد المقاومة والمقاومين كليًا سيؤدي إلى المزيد من التطرف والإجرام الإسرائيلي.
وهنا لا بد من رؤية الفرق بين التغيير الذي تريده واشنطن وتل أبيب وعواصم أخرى والتغيير الذي يحتاج إليه النظام السياسي الفلسطيني، وما جرى من “إصلاح” منذ العام 2003، أدى إلى تحويل السلطة من جزء من مشروع سياسي له دور أمني كان هناك وهم بأنه سيقود إلى دولة عبر المفاوضات إلى وكيل أمني بلا دور سياسي؛ إذ إنّ أقصى ما يمكن تحقيقه سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال.
سيقود استمرار الانقسام، وعدم بلورة البديل الفلسطيني المتكامل الذي لا بد أن يشمل البرنامج المشترك الواقعي الكفاحي والقيادة والحكومة الواحدة والمنظمة التي تمثل الكل قولًا وفعلًا والشراكة والانتخابات … إلى تعبيد الطريق أمام تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها، عن طريق تكثيف تنفيذ برنامج الضم والتهجير والتهويد والاستيطان، والقفز الكلي عن القضية والشعب والأرض.
هناك فرصة يجب التقاطها من الشعب وقواه وأفراده الحية والمخلصة قبل فوات الأوان، فقد أصبحت القضية الفلسطينية في صدارة الأحداث والاهتمام الدولي، وتنتظر من هو قادر على توظيف اللحظة التاريخية قبل ضياعها.
حتى لو لم يستطع البديل الفلسطيني دحر الاحتلال من غزة، فإنه سيواصل المقاومة حتى يمكن دحره من الضفة وغزة، كما أنه يقطع الطريق على الوصاية والبدائل.
إن وقت التقييم والمساءلة والحساب لم يحن بعد، فالحرب لم تنته، والمقاومة لم تهزم، وهذا بحد ذاته شيء مهم، فالطرف الضعيف الذي لا يهزمه طرف أقوى منه بكثير في ظروف غير ملائمة بالمرة فهذا بحد ذاته صمود ونوع من الإنجاز.