إبادة غزة: نحو نزع الحصانة عن إسرائيل
إذا نجحت جنوب إفريقيا في إقناع محكمة العدل الدولية بإصدار حكم يأمر إسرائيل بوقف الحرب على غزة، فإنها ستطلق دينامية تضع إسرائيل في عزلة خارجية متزايدة.
الحواس تقية
25/1/2024
تطالب جنوب إفريقيا محكمة العدل الدولية بإدانة إسرائيل بتهمة الشروع في إبادة سكان غزة، وإذا ردت المحكمة بالإيجاب كما هو مرجح، فإن إسرائيل تفقد امتيازات الضحية وتتكبد خسائر الجلاد.
مرافعة تاريخية
اتهمت دولة جنوب إفريقيا إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، في 11 يناير/كانون الثاني 2023، بالشروع في إبادة سكان غزة، وقد عرض فريق الادعاء الذي كلَّفته دولة جنوب إفريقيا حجج الاتهام، حسب الترتيب الذي كانت نشرته في وثيقة أصدرتها من قبل، وتنقسم إلى سبعة محاور:
- مستوى القتل الذي جاوز 23 ألف شهيد، 70 بالمئة منهم نساء وأطفال.
- المعاملة غير الإنسانية والوحشية لأعداد كبيرة من المدنيين، منهم أطفال، الذين تعتقلهم إسرائيل، وتعصب عيونهم، وتنزع ثيابهم، وتُبقيهم في البرد الشديد قبل أن تأخذهم لأماكن مجهولة.
- تنكُّر إسرائيل لتعهداتها بتوفير الأمن للسكان الذين تقصفهم في المناطق التي طلبت منهم اللجوء إليها.
- حرمان السكان من الأكل والماء والدواء، وهي السياسة التي دفعت السكان إلى حافة المجاعة.
- حرمان السكان من المأوى الملائم، واللباس، والنظافة، نتيجة هجوم إسرائيل على المنظومة الصحية، فلم يبق إلا 13 مستشفى صالحًا جزئيًّا للعمل من بين 36، وقد هاجمت القوات الإسرائيلية مولدات المستشفيات الكهربائية، والألواح الشمسية، ومحطات الأكسجين، وخزانات الماء، وسيارات الإسعاف، والقوافل الطبية، والإسعافات الأولية.
- تدمير حياة الفلسطينيين في غزة، بتدمير مدنهم، ومساكنهم، ومجمعاتهم الشققية، وجامعاتهم وثقافتهم.
- أخيرًا وليس آخرًا، تصريحات القادة الإسرائيليين التي تكشف نيتهم في إبادة الفلسطينيين، ومن أهمها استشهاد رئيس الوزراء، نتنياهو، بالقصة الواردة في التوراة عن إبادة الإسرائيليين للعماليق، وخطاب رئيس دولة إسرائيل، إسحاق هرتسوغ، الذي قال: إن “كل القوم هناك (غزة) مسؤولون”، وتصريح وزير الدفاع، يوآف غالانت، بأن إسرائيل تقاتل حيوانات بشرية، وأنه “سيفرض حصارًا كاملًا على سكان غزة، فلا ماء ولا كهرباء، ولا غذاء، ولا وقود”.
نفى فريق الدفاع الإسرائيلي تلك الاتهامات، وادعى أن إسرائيل هي التي تتعرض لحرب إبادة، تشنها فصائل المقاومة، وأن جنوب إفريقيا تقدم وقائع مجتزأة ومشوهة، وأن إسرائيل تخوض حرب دفاع عن النفس مشروعة، ردًّا على هجمات المقاومة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وأن حماس هي المسؤول عن سقوط العدد الكبير من الضحايا؛ لأنها تستعمل المدنيين دروعًا بشرية، ورفض فريق الدفاع الإسرائيلي طلب جنوب إفريقيا من المحكمة إصدار حكم احترازي يأمر إسرائيل بوقف الأعمال العسكرية؛ لأن هذا يحرم إسرائيل من حق الدفاع على النفس، ونفى الفريق نية إسرائيل إبادة سكان غزة، واعتبروا التصريحات التي أوردها فريق الادعاء بأنها منزوعة من سياقها، ولا تعبِّر عن السياسات الرسمية لدولة إسرائيل.
عقب استماع القضاة لمرافعة الادعاء والدفاع، ستدرس الحكم في الجانب الاستعجالي من القضية، وهو أمر إسرائيل بوقف الحرب لحماية سكان غزة من الإبادة، وقد يكون البت في هذا الطلب سريعًا، قد يستغرق بضعة أيام، أما الجانب الثاني فهو الحكم في اعتبار إسرائيل ترتكب إبادة للفلسطينيين في غزة، قد يدوم النظر فيه سنوات.
احتمالات الحكم في طلب وقف الحرب
يتوقع فرانسيس بويل، قائد فريق ادعاء البوسنة والهرسك، الذي نجح في استصدار حكم استعجالي من محكمة العدول الدولية، بوقف الحرب بمبرر تعرض السكان للإبادة، أن محكمة العدل ستقبل طلب جنوب إفريقيا لأن ادعاءهم قوي، ويستند إلى وقائع لا يمكن الطعن فيها.
يعضد هذا التوقع، أن قضاة محكمة العدل، البالغ عددهم 15، تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا استندنا إلى تصويت الجمعية في القضية الفلسطينية نجد أنه لصالح فلسطين غالبًا ويدين إسرائيل.
ويشير تاريخ المحكمة إلى أنها ليست خاضعة بالكامل للولايات المتحدة وإسرائيل، فلقد أصدرت، في 2004، رأيًا استشاريًّا بمخالفة جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل للقانون الدولي، وكان في هيئة القضاة قاض أميركي هو توماس بورغنثال، وقد صوَّت منفردًا ضد القرار لكنه لم يستطع تغيير تصويت بقية الـ 14 قاضيًا. وقضت المحكمة أيضًا على الولايات المتحدة، في 1984، في القضية التي رفعتها نيكارغوا، واتهمت فيها الولايات المتحدة بالتدخل المسلح في شؤونها الداخلية، وقد كان في الهيئة قاض أميركي صوَّت ضد نيكارغوا. وقد أصدرت محكمة العدل، في 23 مارس/آذار 2023، حكمًا بانتهاك الولايات المتحدة القانون الدولي في استيلائها على 2 مليار دولار من أصول شركات إيرانية. وقد صوَّتت القاضية الأميركية بالمحكمة، جون دونغو، ضد الولايات المتحدة، وهي لا تزال عضوًا في هيئة المحكمة الحالية. وقد يكون هذا الحكم الأخير أفضل مؤشر على ضعف نفوذ الولايات المتحدة في المحكمة، ومدى قدرتها على توجيه الحكم الذي سيصدر في اتهام إسرائيل بإبادة غزة.
مرحلة جديدة
تداعيات إصدر المحكمة أمرًا إلى إسرائيل بوقف الحرب على غزة، كما هو مرجح، ستكون هائلة:
سيُنزع عن إسرائيل حينها غطاء الشرعية، على المدى القريب، فتفقد الحق في الاستناد إلى مبرر حق الدفاع عن النفس لتسويغ الحرب على غزة، أما على المدى البعيد، فإن استعمال إسرائيل الهولوكست لتبرير قيامها وتصرفاتها ومهاجمة كل من يعترضون سياساتها، متهمة إياهم بمعادة السامية، لن يصمد في مواجهة الإدانة بالشروع في الإبادة، فتفقد إسرائيل شرعية الضحية التي أكسبتها تعاطف الرأي العام الغربي، وحصَّنتها من الانتقادات.
أعلنت إسرائيل أنها ستواصل الحرب مهما كان الحكم الذي ستصدره المحكمة، لذلك ستضطر المحكمة في حال لم تمتثل إسرائيل للجوء إلى مجلس الأمن، وقد تستعمل الولايات المتحدة الفيتو لرفض تنفيذ الحكم الصادر، فتلجأ المحكمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحصل كالعادة بالغالبية على تنفيذ القرار، وتكون حينها الدول الأعضاء ملزمة بتنفيذ الحكم، ومقتضاه مقاطعة إسرائيل في كل الجوانب، فتصير إسرائيل دولة مارقة ومنبوذة، وإذا واصلت بعض الدول التعامل معها، فإنها تنتهك القانون الدولي، ولا يمكنها الاستناد إليه مستقبلًا.
سيوسع الحكم التصدعات داخل إسرائيل، فيزداد الضغط على القوى السياسية اليمينية التي جاهرت بإبادة غزة، واعتبرتها القوى السياسية الأكثر انفتاحًا على الخارج تهديدًا مزدوجًا لإسرائيل، فداخليًّا اعتبرتها تهديدًا للديمقراطية، وخارجيًّا باتت خطرًا يهدد بعزل إسرائيل عن بقية دول العالم ويجعلها عبئًا على حلفائها التقليديين. يضع هذا التطور نتنياهو أمام خيارين يتنافسان في السوء، فإما أن يتخلى عن هؤلاء المتطرفين، لتحسين سمعة إسرائيل في الخارج، وليحسِّن علاقاته مع الولايات المتحدة، لكنه يخسر دعمهم لبقائه في السلطة، ومن ثمة الإفلات من المحاكمة على الفساد ودخول السجن، أو يتمسك بهم للبقاء في السلطة للإفلات من المحكمة والسجن، لكنه يخاطر بوضع إسرائيل في عزلة دولية متزايدة، وهي وضعية لا تستطيع إسرائيل تحملها لأن أكثر من 40 بالمئة من سكانها حائزون على جنسية مزدوجة، ولا تستطيع إسرائيل أن تستغنى عن المساعدات الغربية عسكريًّا واقتصاديًّا. ومن المرجح أن تكون الكلمة الفصل للمؤسسة العسكرية التي تحصل على أسلحتها من الولايات المتحدة، فتتصدى للأجنحة التي تهدد الدعم الأميركي، وتعمل على إزاحتها من صناعة القرار، حتى تجبر الكسور التي أصابت علاقة بلادهم بالولايات المتحدة الأميركية.