الحركةُ الأسيرةُ الفلسطينية من جديدٍ في مهداف الصهيونيّة:
بن غفير والأسرى والشاباك والمسار التصادميّ المعقّد
أحمد مصطفى جابر – مسؤول قسم شؤون العدو في مجلة الهدف
3/2/2023
Опубліковано в مجلة الهدف عدد شباط/ فبراير.. العدد (1520) السادس والأربعين رقميًا
يريدُ إيتامار بن غفير زعيم حزب عوتسما يهوديت ووزير ما يسمى الأمن الوطني في حكومة نتنياهو السادسة، تغييرَ ظروف اعتقال الأسرى الفلسطينيين، والإجهاز على المكتسبات التي سعوا لتحقيقها عبر نضالٍ باسل، دفع فيه عددٌ من الأسرى أرواحَهم.
وفي الواقع ليس بن غفير أوّل وزيرٍ للأمن الداخليّ يعلن ذلك. بل إنّ موضوع التقييد على الأسرى وتشديد ظروف اعتقالهم، كانت على جدول أعمال الكثير من أعضاء الكنيست والحكومات الصهيونيّة، ولا تكاد تخلو دورة للكنيست من مشروع قانونٍ يستهدفُ الأسرى وينكلُّ بهم، غير أنّ النضال البطوليّ للحركة الأسيرة صنع نوعًا من التوازن في القوى، بحيث كانت هناك على الدوام خطوطٌ حمراءُ لم تجرؤ مصلحة السجون الصهيونيّة على تجاوزها.
ليس هذا فقط، بل من المعروف أنّ توازن القوى المذكور حاصلٌ من شبكةٍ معقّدةٍ، سواءً ارتباط الحركة الأسيرة بحركة النضال الفلسطيني خارج الأسر من جانب، والنفوذ الأخلاقيّ النضاليّ الذي يتمتّعُ به الأسرى – وإن شهد صعودًا وهبوطًا – في الشّارع الفلسطينيّ هذا من جهة، والسلطات المعقّدة في السجون والعلاقات الدقيقة للنفوذ بين مصلحة السجون ورؤيتها لواقع الأسر، والشاباك ورغبته في إحداثِ تأثيرٍ إيجابيٍّ بين ما يحدثُ من تهدئةٍ في السّجون مع الشارع الفلسطيني، وهذا ما سيواجهه بن غفير ليصطدمَ بواقعٍ ليس فقط لم يفهمه حتّى الآن، بل إنّ تركيبه الأيدلوجيّ عاجزٌ عن فهمه ما دام أسيرًا للشعارات الاستيطانيّة الفاشيّة التي لا تعني كثيرًا الأطراف الأخرى الصهيونيّة، في معادلة الأسر الفلسطيني. فكما ذكرنا بغض النظر عن الأسرى وقدرتهم التنظيميّة، وعزمهم على مواجهة أيّ إجراءٍ يسلبهم مكتسباتهم عبر السّنين، هناك سلطاتٌ “إسرائيليّة: أخرى متداخلة مع سلطة الوزير، وقد تعارضها، ما يؤدّي إلى صدامٍ مفتوح، فهناك الشاباك، وقيود الشاباك، فالشاباكُ يريدُ التهدئة في السجون حتّى لا تشتعل الضفّة، وهناك مصلحة السجون التي تريدُ التهدئة حتّى لا تشتعل السجون ثُمّ تشتعل الضفّة، وكأنّ هناك اتّفاقًا ضمنيًّا بين الشاباك والشاباص يحاول بن غفير العبث به.
مقدّماتٌ صهيونيّةٌ حولَ السّجون:
قبلَ وقتٍ طويلٍ من دخولِهِ وزارة الأمن الداخلي، صرّح بن غفير عن سلسلةٍ من الخطوات التي ينوي اتّخاذها جزءًا من سياسةٍ جديدةٍ وأكثر صرامة في المجالات التي سيتمُّ ضمّها إلى صلاحيّاته، وربّما يكون أكثرها توتّرًا هو تشديد أوضاع سجن الأسرى الفلسطينيين. قال بن غفير في السابق “إنّهم أصحاب المنزل في السّجن، سجناء فاخرون. إنّهم (أي السجّانون) خائفون منهم. الفشل منهجي”، وذكر أنّه ينوي إلغاء التّقسيم التّنظيميّ للأسرى وخلطهم معًا، في الأجنحة، وإلغاء وضع المتحدّث باسم أيّ منظّمةٍ في السّجون، وإلغاء إمكانيّة طهي وجباتهم بأنفسهم.
ليس من قبيل المصادفة أن هذا يبدو مألوفًا: هذا اللحن كان يعزفه تقريبًا كلّ وزيرٍ للأمن الداخلي سبق بن غفير. لكن قضيّة الأسرى، مرّةً تلو الأخرى، استنزفت الفجوة بين الوعود السياسيّة الرنّانة والواقع الهشّ اليوميّ، الذي يقوم على رغبة الجهاز الأمنيّ في الحفاظ على روتينٍ هادئٍ قدر الإمكان، وبأقلّ قدرٍ من الصّدمات.
دائمًا كانت هناك محاولات متكرّرة للانقضاض على حقوق الأسرى، فعلى سبيل المثال عام 1986، تبوّأ مدير مصلحة السّجون أحد المجرمين، ويدعى دافيد ميمون، ووصف الظروف التي تعيشها السّجون بخمسة نجوم، ووضع لائحةً للانقضاض على حقوق الأسرى، منها إلغاء دور ممثّل المعتقل، وعدم الاعتراف بوجود تنظيمات، وطبعًا طبق ذلك، بل وصادر ممتلكات الأسرى، وسحب الكثير من حقوقهم. والنتيجة التي حصدها هي عمليّتا الهروب الكبرى ردًّا على الإجراءات وسعيًّا للتّحرّر، الأولى من سجن نفحة، التي أعجزت الأمن الصهيوني عدّة أيامٍ وهم يبحثون عن كيفيّة خروج الأسرى، والثانية من سجن غزّة، وبعد شهورٍ قام الأسرى الذين حرّروا أنفسهم باشتباكٍ مع جنود الاحتلال، وقتل أفراد من العدوّ واستشهدوا، عدا عن الاضطرابات والاحتجاجات داخل السجون، ممّا دفع حكومة الاحتلال لخلع بن ميمون قبل أن يكمل عامًا في المنصب.
في تحقيقٍ موسّعٍ نشره موقع (الحراس) الصهيونيّ في بداية العام حولَ ما وصفه بأنّه السياسة الفاشلة والمستمرّة في إدارة السجون الأمنيّة، وهو جزءٌ من سلسلة دراساتٍ وأبحاثٍ صهيونيّة، منذ حادثة هروب الأسرى الستة من سجن جلبوع، جاء ما يلي: “قدم شافاس- مصلحة السجون- خدمات مجالسة الأطفال للسجناء الأمنيين. يسجن مدّة سنة أو عشر أو عشرين سنة؟ كلّ ما يلزمه أن يسكت حتى لا يحرق الضفة. وفوقه ممثلون آخرون، الشاباك والحكومة، الذين يريدون هذا السلام. هناك حوارٌ غيرُ رسميٍّ بين أولئك الذين يحرسون السجناء، وأولئك الذين يحرسون المنطقة في الخارج، أي الشاباك”.
كما كان الشاباك هدفًا لانتقاداتٍ من قبل جلعاد إردان، وزير الأمن الداخلي السابق، الذي أنشأ خلال فترة ولايته في حكومة نتنياهو، لجنة برئاسة الرئيس المتقاعد شلومو كتبي، التي أوصت بتفكيك “استقلاليّة الأسرى الفلسطينيين” في شهادته أمام لجنة التفتيش التي تمَّ تشكيلها بعد هروب الأسرى الستة، للإضرار بأوضاع الأسرى.
اللجنة التي أنشأها أردن أوصت في ذلك الوقت “بالعديد من إجراءات الإساءة ضدّ الأسرى، التي تطرّقت حتى إلى التفاصيل الصغيرة، بما في ذلك إزالة المقاعد والكراسي من ساحات السجن، وعدم السماح لهم بتحضير الطعام وتقليل وحتى إلغاء المقصف “.، وهي توصيات فشلت في الصمود في النهاية ولم تنفذ، بعد تهديدات الأسرى والإضراب عن الطعام، حيث تراجعت الدولة عن قراراتها.
يزعمُ بعض المحلّلين والأمنيّين الصهاينة إنّ “الوضع القائم اليوم هو الذي يزيدُ من المشاركة السياسيّة للسجناء” و “إنّ هذا الوضع بالتحديد هو الذي يعطي السّجناء الأمنيّين صفة السجناء السياسيّين؛ لأنّ خدمة السجون تخلقُ منذ البداية انتماءً جماعيًّا وأحيانًا تعسّفيًّا، للسجين، ومن ثَمَّ فإنّ دولةَ إسرائيل تنظرُ إلى السجين جزءًا من مجموعة. أي تغيير في أوضاع الأسرى ينطبقُ على الجميع، ولا استثناء، فالدولةُ هي التي ترى فيهم سجناء سياسيّين، ممّا يعزّز مكانتهم “.
في شهادتِهِ حولَ المسألةِ المعروضة، قال المشرفُ المتقاعدُ شلومي كتبي الذي يترأّس “لجنة أوضاع سجن السجناء الأمنيين”: “الدولة تشتري السّلام. على المدى القصير لا بأس، تحقّق السلام، ويقضي الجميع مدّة خدمتهم في السجن بشكلٍ صحيح، دون صدماتٍ لا داعي لها. من ناحيةٍ أخرى، يتمُّ هنا على المدى الطويل إنشاءَ بنيةٍ تحتيّةٍ تنظيميّةٍ نشطةٍ وحيويّة، التي يمكنُ أن تنتجَ نشاطًا تخريبيًّا داخلَ السّجنِ وخارجه “. ويتابعُ: “نشأ نوع من الحكم الذاتي هناك، داخل أسوار السجن” حيث “الحكم الذاتيّ النشط الذي يخطّط للإرهاب، ويقوم بالاتّصال المباشر بالعالم الخارجي، هو أمرٌ نشطٌ للغاية. إنّ هروب السجناء من سجن جلبوع هو نتيجةٌ لهذا الحكم الذاتي في الواقع. لذلك في بعض الأماكن، يتم محاكاة الصمت. إنّه ليس شيئًا يجب علينا أن نسعى جاهدين من أجل الردع “.
في السجون، كانت هناك تفاهماتٌ واضحةٌ بين الشفاس والأسرى، كما ذكرنا، على مدى عقود وضمن هذا الفضاء الخارجي يحدث الانتماء التنظيمي، وهناك أجنحةٌ منفصلةٌ للتنظيمات، فتح وحماس والجبهة الشعبيّة والجهاد، وحتّى التنظيمات الصغرى مع تسلسلٍ هرميٍّ تنظيميٍّ واضح، وقبلَ كلِّ شيء، الأسرى هم الأسرى. الذين يديرون حياتهم، من مستوى الطعام إلى عقابٍ داخليٍّ في المقابل – يلتزمون الصمت.
وفي سياقٍ متصلٍ قال ايلان بارودا رئيس شعبة المخابرات في شفاس: “التاريخ يظهرُ أنّه في كلِّ مرّة جعلوا الأوضاع مع السجناء الأمنيين أكثر تشدّدًا كانت لهذا عواقبُ أمنيّةٌ وسياسيّةٌ خارج السّجون، ما أدّى إلى انهيار المستوى السياسي، وإصدار أوامر إمّا ترك الوضع كما هو أو حتّى تحسين الأوضاع مع الأسرى الأمنيّين”. وحسب ليور أكرمان، من معهد السياسات والاستراتيجيّات، في جامعة رايشمان في هرتزليا: “من ناحية، ليس هناك شكٌّ في أنّهم يتمتّعون بظروفٍ جيّدةٍ نسبيًّا مقارنةً بمرافق السجون الأخرى في العالم، وربما كان من الممكن أن يزداد الأمرُ سوءًا بحيث سيكون أقل راحة أو أقل سهولة بالنسبة لهم أو أقل رغبة وحافزًا للبقاء في السجن. من ناحيةٍ ثانية، الاعتقاد بأنّ تدهور هذه الظروف سوف يردع أو يقلّل من دافع هؤلاء الإرهابيين للمشاركة في الهجمات الإرهابية، هو لا علاقة له بالواقع “.
إذن، ما الخطواتُ التي يهدّد بها بن غفير وما موقفُ ورد الحركة الأسيرة عليها:
منذ توليه منصبه وزيرًا للأمن الوطني، وضع إيتمار بن جابر قضية الأسرى الأمنيين الفلسطينيين في مكانة عالية على جدول أعماله، وزار سجن نفحة للتأكّد من أن السجناء لا يحصلون على ظروفٍ أفضل”، وأمر بتعليق العلم “الإسرائيلي” عند مدخل كلّ جناح، ووبّخ الشرطة لسماحها بـ “الاحتفالات” التي أقيمت احتفاء بتحرر الأسير كريم يونس بعد 40 عامًا في السجن، التي شملت أيضًا التلويح بالأعلام الفلسطينية، وأمر مصلحة السجون (شفاس) بتقليص زيارات أعضاء الكنيست للأسرى بحيث يمكن لعضوٍ واحدٍ فقط من كلّ فصيلٍ زيارتها معهم.
يعكسُ سلوك بن غفير بعد الانتخابات، على غير عادة المرشحين السياسيين، استمرارًا للحملة الانتخابية، ومواصلةً لحملة الدعاية التي أدّت إلى الفوز الانتخابين عندما تحدّث عن وقف “ظروف الفندق” الخمس نجوم التي يفترض أن يتمتّع بها المعتقلون. عندما كان عضوًا في الكنيست، وحاول التنمّر على أسيرٍ فلسطينيٍّ كان مضربًا عن الطعام، وانتقد الجيش ووزارة الأمن الداخلي في كلّ مرّةٍ يتوصلون فيها إلى اتّفاق. مع السجناء المضربين عن الطعام.
وكان بن غفير يطالبُ بعقوبة الإعدام على المقاومين الفلسطينيين منذ سنوات، ورغم أنّ هذا ليس اختراعًا خاصًا به، لا إنه نجح في إدخال هذا البند في اتفاق الائتلاف مع نتنياهو. وبعد أيام قليلة من تولي بن جابر مهام منصبه، أعلن جهاز الأمن الصهيوني أنه سيفرق العشرات من كبار الأسرى الفلسطينيين، إلى سجون جديدة، في عمليات نقلٍ تعسفيّةٍ من أجل “كسر مراكز القوة” داخل السجون، وقد تقرر التحرك قبل الانتخابات، لكنّها اعتبرت جزءًا من حملة بن غفير التي عبرت في السابق عن تأييده لتغيير الوضع الحالي، حيث يجلس الأسرى الفلسطينيّون في الأجنحة حسب انتمائهم الحزبي – فتح، حماس، الجبهة الشعبيّة، إلخ.
بالنسبة لقرار بن غفير بالحد من زيارات أعضاء الكنيست للأسرى هو في الواقع تجديد لقرار اتخذه جلعاد إردان في عام 2016، عندما كان وزيرًا للأمن الداخلي، بعد قضيّة عضو الكنيست السابق باسل غطاس، الذي أدين باستخدامه. الحصانة البرلمانية من تهريب الهواتف المحمولة للسجون، رغم ذلك ربما يكون قرار بن غفير ترهيبيًا لأعضاء الكنيست العرب الذين قد يخشون أن تفتح الحكومة جبهةً جديدةً للتحريض ضدّهم، على سبيل المثال، لم يقم أي عضو كنيست حالي بزيارة كريم يونس، على الرّغم من أنّ أعضاء الكنيست قاموا بزيارته في السجن في الماضي.
عمومًا لا بدَّ أيضًا من تسليط الضوء على الإجراءات المحدّدة التي تستهدفُ وضع الأسرى بشكلٍ مباشر:
سحبُ الاعتراف بالتنظيمات وممثلي الأسرى:
ترتكزُ وجهةُ نظر بن غفير على الوضع الخارجي، أي بما أنّ الكيان الصهيونيّ لا يعترفُ بالتنظيمات الفلسطينيّة، ويتعاملُ معها كجماعاتٍ إرهابيّة، ومن ثَمَّ من غير المنطقي أنّ يتمّ الاعتراف بها داخل السجون والقبول بوجود متحدثين باسمه، وفي الحقيقة تبني هذه الرؤية كما قلنا على محدوديّة تفكير بن غفير ومن يسانده في هذا الرأي وعجزه عن فهم الواقع المركّب والمعقّد للحركة الأسيرة. وبناءً على هذا، ستبلغ إدارة السجن الأسرى أن لا ممثّل لهم أمام الإدارة، وسوف يتعاملون معهم بشكلٍ فرديّ، كما الجنائيين وسيدخلون ممثل الأسرى لغرفته.
هذا القرار سيكون له منعكسين غثنين فمن جهة، سيشّكلُ تعقيدًا وإرباكًا إضافيًّا لمصلحة السجون، التي ستقفُ عاجزة، لوجستيًّا ومعرفيًّا عن التعامل مع الأسرى بشكلٍ منفرد، وستضطرُّ للتعامل مع كلّ أسيرٍ على حدة، في أشكال احتجاجه – التي تضبطها وضعيّة وجود الممثّل – وفي مطالبه وغيرها من الأمور، ومن ضمنها كما لا يتصوّر بن غفير، سلامة السجانين أنفسهم التي يتم ضمانها بشكلٍ غير رسميٍّ من قبل ممثلي الحركة الأسيرة، منعًا لتجاوز الخطوط الحمراء غير المرغوبة من الطرفين. هذا ستقف بالتأكيد ضدّه كلّ من مصلحة السجون التي تريد الهدوء من جهة وسلامة موظفيها وعدم حصول عجز في كادرها العامل من جهةٍ أخرى، والشاباك أيضًا الذي يرصد ما يمكن تسميته –أثر الفراشة- القادم من السجون على شوارع الضفة الغربيّة وحدود غزة، وهو أمرٌ يسعى الشاباك لتجنبه بكل الوسائل وسيكون الجيش حريصًا أيضًا على دعم وجهة نظر الشاباك والشاباص. هذا إذا لم يكن الجنون الفاشي قد وسم عقول جميع هذه الأطراف.
بالنسبة للجزء الآخر وهو حلُّ التنظيمات فهذا شيءٌ خارج سلطة الاحتلال وأجهزته، بل هو أمرٌ يخصُّ الأسرى والتنظيمات بحدّ ذاتها، وهو أمرٌ على الأغلب سيقوّي التنظيم ويعزّزه لأنّه برأينا سيضعُ الأسرى جميعًا على محكّ الانتماء التنظيميّ العقائديّ بعيدًا عن عامل الوجود في الغرف المشتركة – إن صح التعبير -، وهو أمرٌ قد يعطي انطباعًا غير حقيقيٍّ بالانتماء التنظيمي.
تقليصُ عددِ الأسرى في الغرف:
لا شكَّ أنَّ هذا مطلبٌ في مصلحة الأسرى، وهو مطلبٌ قديمٌ لهم، وخاضوا نضالاتٍ شاقّةً في سبيله، وسبق أن أمرت المحكمةُ العليا الصهيونيّة مصلحةَ السّجون بتوسيع غرف الاعتقال وخفض عدد الأسرى، ولكن غاية العدوّ من وراء ذلك ليس تحسين الظروف الصحيّة والمعيشيّة للأسرى، بل تقليلُ عددِ الأسرى في الحيّز المكاني المعيّن للسيطرة عليهم حال نشوب مواجهات، والمعضلة التي سيواجهها بن غفير هم عجز مصلحة السّجون ووزارته وحكومته من ورائهما عن تأمين المساحات اللازمة لتحقيق أمنيته، حيث لا يتمُّ بناء أي أقسام أو غرف جديدة ويتمّ تكديس الأسرى بشكلٍ لا إنساني.
على العكس تمامًا، على الرغم من أن المحكمة العليا قررت أن الحد الأدنى لمساحة السجين يجب أن يكون 4.5 متر مربع، فإنّ هذا لا ينطبق على الأسرى حاليًّا، حيث يقبعون في سجونٍ قديمةٍ جدًّا، معظمها من فترة الانتداب وليس لمصلحة السجون أي قدرة على تغيير الأوضاع حتّى لو كان في سياق عقاب الأسرى كما يعتقدُ بن غفير.
عمليّاتُ دمجٍ ونقل تعسفيّ للأسرى بين الغرف أو بين السّجون:
وهذا شرع به الاحتلال فعلًا عبر تقل أسرى من هداريم إلى نفحة، ويهدفُ العدوّ من وراء ذلك إلى تفكيك البُنى القياديّة في السجون وإرباك الحركة الأسيرة، وصولًا إلى تفكيك البُنى التنظيميّة للفصائل نفسها.
سحبُ حقّ الطبخ من الأسرى:
وهذا يعني إجبار الأسرى على التخلّي عن حقٍّ اكتسبوه عبر إضراب، ويعين سحب سخانات الطبخ من الغرف، ومحاولة إجبار الأسرى على قبول الطعام المطهو من قبل السجناء الجنائيين، وهذا سيؤدي إلى إجبار الأسرى على شراء طعامهم من “الكانتينا” بأسعارٍ باهظة، وهو أمرٌ سيؤدي إلى صدامٍ أيضًا.
إجبار الأسرى على الخروج للساحات أي الفورة بزي الإدارة: وهو ما يعني به بن غفير الإخضاع النفسي للأسرى وتطويعهم لحالة السجن حتى يعتبر اللباس الموحّد جزءًا من آليّات الإخضاع الجماعية التي تلجأ إليها السلطات الحاكمة عادة.
كيف سيردُّ الأسرى؟
في سياق السعي لفهم موقف الأسرى كانت منظّمة “الحراس” الصهيونيّة قد سألت بعض الأسرى المحررين عن رأيهم في بعض الإجراءات. قال أحد الأسرى المفرج عنهم مؤخّرًا: “لقد طلبنا نحن أنفسنا منذ فترةٍ طويلة الاختلاط بين المنظّمات، حتّى ينظر إلينا شافاس أفرادًا”، و”من المناسب له أن نطبخ لأنفسنا”. وقال أسيرٌ سابقٌ آخر”لا تسمحوا لهم بسرد القصص”و “شفاس يريد إنهاء اليوم بهدوء، وحراس السجن يريدون الحصول على رواتبهم والعودة إلى المنزل بأمان”.
عمومًا، ما لا شكَّ فيه أنّ محاولة انتزاع مكتسبات الأسرى التاريخيّة التي استشهد في النضال لتحصيلها عددٌ من الأسرى، ستكون بدايةً لمعركةٍ طاحنةٍ تخوضها الحركة الأسيرة ضدّ سلطة السجون، معركة سيتردّد صداها في مكتب رئيس حكومة الاحتلال، وفي شوارع الضفّة على حدٍّ سواء.
يدركُ الشاباك الصهيوني والحكومة أيضًا أنّ أيّ توتّرٍ في السّجون سرعان ما سينعكس على شوارع الضفة، وبسبب طبيعة نظام المحاكم الصهيونيّة وعنصريّتها يدركُ الأسرى أيضًا أنّهم لن يتمكّنوا من صيانة حقوقهم أو الحصول على أيّ حقوقٍ عن طريق اللجوء إلى نظام المحاكم، وقد سبق للمحكمة العليا أن اختارت عدم التدخّل في الكثير من الحالات وأبرزها موضوعُ زيارات أعضاء الكنيست والتصدّي لقرار أردان في حينه، لذلك يدرك الأسرى إنّهم يحقّقون إنجازات من خلال النضال فقط، والشاباك والمؤسّسة الأمنيّة على علم بذلك، ومن ثَمَّ يخافون من المواجهة معهم. وفي ظلّ سحب العديد من الحقوق وأبرزها التعليم الجامعي، والتضيق في التّحويلات المالية بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، والممارسات القمعيّة اليوميّة، لم يتبق للأسرى سوى الزيارات العائليّة التي تخضع للتضييق والمصادرة أيضًا أو فحة الساعتين في باحة السجن، وإذا قرّر بن غفير مضايقتهم أكثر يدرك الأسرى أنه ليس لديهم شيء يخسرونه من المواجهة مع سلطة السجون التي لديها الكثير في الواقع لتخسره.
في الإجابة على سؤالنا حولَ ردّ الحركة الأسيرة على إجراءات الاحتلال، لا يوجد أيّ شكٍّ لدى هذهِ الحركة بأنّ سياسة المجرم بن غفير مآلها الفشل عبر جميع الخطوات النضاليّة التي سيلجأ إليها أسرى، بدءًا من الخطوات الاحتجاجيّة المخفّفة وصولًا إلى الإضراب عن الطعام والعصيان الشامل، ولفتت الحركةُ الأسيرةُ أنّه قد مرَّ على السّجون وزراء ومديري سجونٍ على شاكلة بن غفير، وانتهى بهم الأمرُ للفشل لسببٍ بسيطٍ وهو أنّ الأسرى يمثّلهم موقفٌ واحدٌ وإرادةٌ واحدةٌ ولن يقبلوا بالتراجع عمّا هم عليه؛ لأنّ التراجع يمثّل مقتلًا لهم، لذلك سيعدُّون برنامجًا للمواجهة إن لم يكونوا أعدوه فعليًّا.
ما لا يدركه بن غفير وعصابته، أنه في حالة أعلن الحرب على الحركة الأسيرة، فهي ليست حربًا بإمكانه السيطرة عليها أو وقفها حيث يشاء أو حصر نيرانها داخل السجون، وسيكون عليه مواجهة الواقع الذي استصعب عليه فهمه، وستخوض الحركة الأسيرة ومعها الشارع الفلسطيني، معركةً مصيريّةً وهي الإضرابُ المفتوح عن الطعام الذي ستشارك به الحركة الاسيرة بكاملها وستكون المطالب ليس إعادة الأوضاع لسابق عهدها كما سيأمل بن غفير في لحظة يأس، بل ستضاف مطالبُ أخرى جديدة، وبسبب قساوة المعركة ومقدار التضحيات التي سيقدّمها الأسرى والأذى الذي ستعرضون له نتيجة وجودهم في فكّ التمساح الصهيوني، سيكون مطلوبًا من القوى الوطنيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني التجهّز لمعركة إسناد الأسرى وعدم تركهم لوحدهم في مواجهة الوحش الصهيوني؛ لأنّها ستكونُ معركةً طويلةً وقاسيةً لكسر إضرابهم بالقوّة. إنّ المطلوبَ من القوى الوطنيّة والفصائل والجمهور الفلسطيني ليس التضامن مع الأسرى، بل الانخراط الكلي في معركتهم وفي وجه استهدافهم ومحاولة كسرهم؛ لأنّه وبما لا يدعُ مجالًا لأيِّ شكّ؛ إنّ انكسار الحركة الأسيرة وهزيمتها سيكون انكسارًا كبيرًا وقاسيًا، وهزيمةً كبرى لحركة النضال الفلسطينيّ ستتركُ آثارها على كلّ فعلٍ سياسيٍّ ونضاليّ، بمعنى جدواه، ومدى التكاتف حوله.
هل سيسمحُ نتنياهو لابن غفير بفعل ما لم يسمح به لأردان في حكوماته السابقة؟
من جانب، لا شكّ أن الوضع الأيدلوجي، للسلطة الصهيونية، ومستوى العداء المنفلت للشعب الفلسطيني، قد يعطي مؤشّرًا بأنّ الظروف مواتيةٌ لابن غفير لتنفيذ ما يتوعّد به، ولكن في الجانب الآخر هناك التعقيد الكلّي على المشهد الذي يعطّلُ مثل هذا التحليل، وينسف تلك المؤشّرات، فمن المهمّ النظرُ للوضع السياسي الداخلي للكيان الصهيوني العنصريّ، حيث تواجه حكومة نتنياهو وبن غفير وضعًا صعبًا في الشارع الصهيوني، قد يطيحُ بهم وبحكومتهم؛ لأنّ هذه الحكومة جاءت لتقلب الأوضاع داخل الكيان لصالح نتنياهو قضائيًّا.
وهذا يعني أن بن غفير قد لا يجد الوقت للأسرى والسجون، كما أن نتنياهو ربّما لن يفتح معركة أخرى ويصطدم بالشاباك بينما هو منهمكٌ بتوطيد إفلاته من العقاب، مع ذلك كما ذكرنا فالحركةُ الأسيرةُ تنام وظهرها إلى الحائط إن صح التعبير، مستعدّةً دائمًا للصدام والتضحية، والكرةُ الآن في ملعبنا نحن، عموم الفلسطينيين وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية عن استعدادنا للانخراط في هذه المعركة كتفًا إلى كتفٍ مع حماة ما يمكن أن نقول: إنّه متراسنا الأخير الذي لم يتزعزع حتى الآن – إن صحّ التعبير.