حقوق الإنسان.. حجر الزاوية الغائب عن تجارب الدولة المدنية…!!
تقرير: عبد القادر جاز
تم النشر في مجلة مسارات – السودان – بتاريخ 3\10\2025
15\10\2025
في منطقة تعصف بها الصراعات السياسية والاقتصادية والأمنية، يظل النقاش حول “الدولة المدنية” حاضرا كخيار وسطي تلجأ إليه دول الشرق الأوسط والقرن الإفريقي لتجنب الكثير من التدخلات الإقليمية والدولية. غير أن هذا الطرح عادة ما ينحصر في إطار شكلي يمنح شرعية دولية، ولا يرتقي إلى بناء مؤسسات حقيقية تحمي الحقوق، وتضمن المواطنة.
هنا يبرز التساؤل الأهم: هل يمكن أن تتحول الدولة المدنية من مجرد شعار سياسي إلى واقع مؤسسي يكرس للعدالة والحرية، أم ستظل واجهة لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية دون إصلاح جوهري؟
التهميش علامة بارزة:
Вона сказала الباحثة المصرية المتخصصة في الشئون الإفريقية، الأستاذة نهاد محمود، إن انحصار الطرح السياسي في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي عند فكرة الدولة المدنية يعكس بحث هذه الدول عن صيغة وسطية توازن بين تجنب هيمنة التيارات الدينية والعسكرية، وفي الوقت ذاته تمنحها غطاء من الشرعية أمام الداخل والخارج دون الدخول في التزامات عميقة تتعلق بحقوق الإنسان، أو بناء مؤسسات مواطنة راسخة. مشيرة إلى أن السياقات الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة تدفع هذه الدول لتوظيف خطاب الدولة المدنية كأداة لتقليل الانقسامات العرقية والدينية، لإظهار صورة مقبولة أمام المجتمع الدولي الذي غالباً ما يربط المساعدات بوجود هذا الشكل المدني.
لكنها ترى أن هذا الطرح يبقى قاصراً إذا لم يقترن بإصلاحات جوهرية تعزز استقلال القضاء، وترسخ الحريات العامة، وتحمي الحقوق السياسية والاجتماعية، باعتبارها جوهر أي مشروع حقيقي لدولة الحقوق والمواطنة. مستطردة بأن نجاح أي تجربة مدنية في المنطقة يظل رهينا بمدى قدرتها على جعل حقوق الإنسان جزءً أصيلاً من البنية الدستورية والتشريعية. وإلا فإن مفهوم الدولة المدنية سيتحول إلى مجرد شعار رمزي، أو واجهة دعائية لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية، دون أن يؤدي إلى تغيير حقيقي في علاقة المواطن بدولته. معتبرة أن الأوضاع الراهنة من نزاعات مسلحة، وأزمات اقتصادية، وتوترات إقليمية، تجعل نجاح هذه التجارب أمراً بالغ الصعوبة، إذ إن كثيراً من الأنظمة ما تزال تكرس مفهوم “الأمن التقليدي” المرتبط ببقاء السلطة، بينما يتم تهميش الحقوق الأساسية التي تعد حجر الزاوية لاستدامة لاستقرار.
الإصلاح الحقيقي لا يفرض من الخارج:
أكدت نهاد أن أي مشروع مدني جاد يجب أن يتجاوز هذه الرؤية الضيقة للأمن ليعتمد مقاربة أوسع تشمل صون الكرامة الإنسانية، وضمان الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، وترسيخ المواطنة كإطار جامع يتخطى الانقسامات الطائفية والإثنية. عندها فقط يمكن أن تتحول الدولة المدنية من شعار سياسي، إلى واقع مؤسسي مستدام.
وفيما يتعلق بدور التدخلات الدولية والإقليمية أوضحت نهاد أن لها أثراً مزدوجاً بإسهامها أحياناً في تسريع عملية الإصلاح عبر دعم بناء السلام، وبتعزيز قدرات القضاء، أو المساعدة في صياغة دساتير تراعي مبادئ الحقوق، لكنها في كثير من الأحيان تؤدي إلى إبطاء هذا المسار، أو إجهاضه، خاصة حين ترتبط بأجندات متضاربة للقوى المتدخلة. مؤكدة أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يفرض من الخارج، بل يجب أن ينبع من الداخل مدفوعا بإرادة سياسية محلية صادقة، وإلا فإنه يظل هشا، وعرضه للانهيار، مع تغير موازين القوى. مستطردة بقولها إن مستقبل دولة الحقوق في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي يتوقف على مدى قدرة الفاعلين المحليين على استثمار هذه التدخلات، وتحويلها إلى شراكات بنّاءة تعزز الأولويات الوطنية، لا أن تصبح أداة وصاية، أو نفوذ سياسي وعسكري. معتبرة أن الطريق نحو دولة الحقوق يتطلب شجاعة سياسية ورؤية شاملة تتجاوز الحسابات الضيقة للسلطة، إلى مشروع وطني جامع.
الاستبداد السياسي ظاهرة مرضية:
أكدت الدكتورة سميرة إبراهيم، الصحفية المصرية والباحثة في شؤون القرن الإفريقي، أن المشاركة في الحكم، وإدارة الشؤون العامة تمثل حقا أصيلا لجميع المواطنين، يستند إلى مبادئ العدالة والمساواة، وصون الكرامة الإنسانية. غير أن هذا الحق على حد قولها كثيراً ما يحتكر من قبل فئات محددة، مما يحوله إلى أداة استبداد سياسي، يعطل إمكانات المجتمعات. واصفة الاستبداد بأنه ظاهرة مرضية أصابت أنظمة الحكم القديمة والحديثة على السواء، مميزة بين الاستبداد الكلاسيكي، وخصوصية الاستبداد المعاصر الذي يتميز بالاستدامة، وصعوبة تفكيكه، وعجزه عن السماح بقيام أنماط حكم رشيدة تستجيب لتطلعات الشعوب وتؤسس لتنمية حقيقية. موضحة أن تغلغل الاستبداد في المنطقة العربية والشرق الأوسط أدى مبكراً إلى تآكل مكانة الفرد، وفقدان ثقته في الدولة، مرجحة أن عجز الدول عن الارتقاء بجودة الحياة، وتحقيق الازدهار يعد أحد أبرز نتائجه. لافتة إلى أن جذور استمرار هذه الظاهرة تكمن في ثقافة التسلط والأبوية، بجانب تفشي الفساد، وسوء إدارة الثروة، وما يخلفه ذلك من فقر وتهميش وجهل، وهو ما يفتح الباب أمام مظاهر العنف والصراع. مضيفة أن الأنظمة الرسمية تتحمل مسؤولية مباشرة عن هذه الأوضاع، إذ فشلت عبر عقود طويلة في إحداث تحول ملموس، مما يجعل أي إصلاح حقيقي مرهونا بتغيير طبيعة الحكم ذاته، والانتقال من النمط الأبوي، أو الوصائي، إلى نظام يستمد شرعيته من التفويض الشعبي، والانتخابات الحرة النزيهة، ويخضع لرقابة برلمانية فعالة. لكنها حذرت في الوقت ذاته من أن النظم التسلطية غالباً ما تعيق فرص التحول السلمي، وهو ما يفاقم احتمالات الانزلاق نحو العنف، والعنف المضاد.
الخصخصة وتقليل الامتيازات:
في السياق ذاته أشارت الدكتورة سميرة إلى أن دول المنطقة تشهد تحولات عميقة تحت تأثير العولمة، والسياسات الاقتصادية العالمية التي تدفع باتجاه الخصخصة، وتقليص الامتيازات الاجتماعية. موضحة أن هذه التحولات رغم إظهار بعض الدول مرونة في مواجهتها، غالباً ما تصب في مصلحة النخب الحاكمة التي تستخدم السيطرة على السلطة كأداة لضمان بقائها، لا كوسيلة لتحقيق التغيير الديمقراطي.
مضيفة أن الجمع بين الاستبداد السياسي والضغوط الاقتصادية العالمية يخلق بيئة مزدوجة التحديات. من ناحية يقيد المشاركة السياسية، ويمنع بروز نخب بديلة قادرة على الإصلاح، ومن ناحية أخرى يضعف العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع عبر تقليص الخدمات والامتيازات، الأمر الذي يزيد من هشاشة الاستقرار الداخلي. وترى سميرة أن تجاوز هذه المعضلة يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس الشفافية والمساءلة والعدالة الاجتماعية، بحيث لا تكون الخصخصة وسيلة لتقويض الحقوق، بل إطار لتعزيز الكفاءة الاقتصادية، مع حماية الفئات الضعيفة. مؤكدة أن أي مسار إصلاحي لن ينجح ما لم يقترن بإرادة سياسية حقيقية تضع المواطنة والمشاركة الشعبية في قلب العملية السياسية والاقتصادية.
الفضاء السياسي المثقل:
أقرّ الدكتور سعيد سلّام، مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية في أوكرانيا، أن الفضاء السياسي في المنطقة ما زال مثقلاً بالموروثات السلطوية. فشعار “الدولة المدنية” يُرفع لا باعتباره خارطة طريق نحو العدالة، بل كراية مؤقتة في معركة المرجعيات. ورأى أنه مجرد قشرة تلمّع السطح، بينما تتجنب الغوص في الجذور المعقدة: الحريات، القضاء المستقل، والمواطنة الفاعلة. وأوضح أن النخب السياسية كثيراً ما تختار السير على هوامش المعركة بعيداً عن تفجير الألغام الكامنة في عمق الإصلاح، لتتحول “المدنية” في نهاية المطاف إلى ستار رمزي يُخفي خلفه غياب الالتزام ببناء دولة تُحاسِب ولا تراوغ، وتُكرّس الحقوق بدلاً من تأجيلها.
أرض الحقوق القاحلة:
أشار سلّام إلى أن المدنية لا تُثمر في أرض قاحلة من الحقوق، فالدولة التي لا تحصّن مواطنيها بدستور يحميهم، تُشبه شجرة بلا جذور: قد تُزهر مؤقتاً، لكنها مهددة بالاقتلاع مع أول عاصفة. مؤكداً أن الشرعية لا تُستمد من شكل الحكم بل من عمق العقد الاجتماعي الذي يحوّل الدولة من سلطة متحكمة إلى ضامن، ومن إدارة إجرائية إلى وجدان جامع. واعتبر أن غياب هذا الضمان يفتح الباب لإعادة إنتاج الاستبداد في أقنعة جديدة، ويحوّل الدولة إلى هيكل هش تطارده أشباح الانفجار الداخلي.
إعادة تدوير القمع:
تحدث سلّام عن التدخلات الخارجية مشبهاً إياها بالنار: فهي تضيء الطريق إن وُجّهت بحكمة، لكنها تحرق الأرض إذا استُغلت لأجندات ضيقة. فإذا ارتبطت بالدعم المشروط باحترام الإنسان، فإنها تتحول إلى رافعة للتغيير، تُقوي المجتمع المدني وتدعم المساءلة. أما إذا استُخدمت كذريعة لتغذية الأنظمة القمعية باسم الاستقرار، فهي لا تفعل سوى إعادة تدوير القمع وإطالة زمن التيه. وهنا – يضيف – تصبح الدولة ساحة صراع بين إرادة الداخل ومصالح الخارج، ويغدو مشروع بناء دولة الحقوق شبيهاً بمحاولة زرع وردة في أرضٍ تُروى بالبارود.