رصاص في قلب موسكو … حينما تتشابك السياسة بالأعمال

رصاص في قلب موسكو

حينما تتشابك السياسة بالأعمال

فراس بورزان

25\9\2024

في موسكو، على مقربة من الكرملين، وقعت مواجهة مسلحة بدت وكأنها تعود بأجواء التسعينيات. حيث حصل تبادل إطلاق النار في مبنى رومانوف دفور، وهو مبنى تجاري فاخر يقع على بعد حوالي 500 متر من الكرملين. ويعتبر المبنى، المملوك للملياردير الروسي الأرمني روبن فاردانيان المقرب من الكرملين، بمثابة واحة راقية وأنيقة يرتادها رجال الأعمال لعقد الصفقات التجارية واصطياد العشيقات.

بطل القصة هو فلاديسلاف باكالشوك، زوج تاتيانا باكالشوك، مالكة Wildberries (شركة عملاقة للتجارة الإلكترونية في روسيا والمعروفة شعبيا بأمازون روسيا) وأحد مؤسسي الشركة، حاول اقتحام مركز أعمال يضم مكتب الشركة، محاطًا بمجموعة من المسلحين. هذا النزاع لم يكن مجرد خلاف عائلي أو تجاري عابر، بل كان مشهدًا يعكس صراعًا أعمق على السلطة والنفوذ في روسيا. في جوهره، كان النزاع حول رفض باكالشوك لاندماج Wildberries مع شركة RusOutdoor الذي سيحرمه من السيطرة على الشركة. وسائل إعلام روسية وصفت الصفقة بأنها “غريبة للغاية” لأنها قدمت نفسها على أنها اندماج بين شريكين متساويين. رغم أن عوائد Wildberries بلغت العام الماضي 538.7 مليار روبل (2.7 مليار دولار) مقارنة بإيرادات RusOutdoor البالغة 27.9 مليار روبل (300 مليون دولار).

فلاديسلاف باكالشوك و زوجته تاتيانا باكالشوك مالكة شركة Wildberries
فلاديسلاف باكالشوك و زوجته تاتيانا باكالشوك مالكة شركة Wildberries

الكرملين بارك صفقة الاندماج التي تأتي في إطار عملية إعادة توزيع للأصول، يجريها الكرملين ليكافئ شخصيات الأعمال المرتبطة بالكرملين. على سبيل المثال، يتم بالفعل بيع الأصول المصادرة لشركة دانون الفرنسية لصناعة الألبان إلى أحد أقارب رمضان قديروف (رئيس جمهورية الشيشان) بسعر زهيد. وعلى نحو مماثل، يدير الفرع الروسي لشركة كارلسبرغ الآن شركاء أصدقاء طفولة بوتين المليارديرين يوري كوفالتشوك وأركادي روتنبرج.

المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قال للصحفيين “لقد سئلنا بالفعل عن تعليمات الرئيس بدعم [الاندماج]. لا يمكننا إلا أن ندعمه. نحن لسنا المنفذين. الأمر متروك للعمل المؤسسي”، وأجاب عندما سئل عن تعليقات قديروف بإنه ليس متورطا في “الشؤون العائلية والعلاقات التجارية بشكل خاص”.

المشهد تطور سريعًا، المواجهة تحولت إلى معركة مسلحة عندما اعترضت حراسة المبنى مجموعة باكالشوك، مما أدى إلى اشتباكات أسفرت عن إطلاق نار وسقوط ضحايا بين الحراس، وإصابة بعض رجال الشرطة. لكن ما جعل الأمور تتصاعد هو تدخل رئيس الشيشان، رمضان قديروف، الذي أعلن دعمه لباكالشوك واصفًا صفقة الاندماج بأنها “استيلاء غاصب” وأصحاب RusOutdoor بأنهم “شياطين”، وطالب علنًا “بإعادة الزوجة إلى بيتها”. قديروف، المشهور بتصريحاته الصريحة وتحركاته القوية، وعد بأن “رجاله سيتولون الأمر”، مشيرًا إلى أن الصراع خرج من إطاره التجاري البحت إلى نزاع سياسي وأمني أكبر. وسط هذه الفوضى، رفضت الزوجة تاتيانا العودة إلى زوجها أو التراجع عن صفقة الاندماج، مما زاد من تعقيد النزاع، وأعلنت أغنى امرأة في روسيا (ثروتها 7.4 مليار) أنها شرعت في إجراءات الطلاق.

كشف النزاع بوضوح عن شكل ومدى التشابك بين السياسة وقطاع الأعمال في روسيا. في مثل هذه الأنظمة، تصبح الخطوط الفاصلة بين قطاع الأعمال والسياسة غير واضحة، حيث يتم استخدام أدوات القوة والعنف لحل النزاعات التجارية، وتتحول خلافات رجال الأعمال المسلحين إلى معارك سياسية مفتوحة. السلطة تعتمد على تحالفات غير رسمية بين النخب ومستندة إلى الولاء الشخصي والمصالح المشتركة، يمكن الولاء أن يتزعزع بسهولة عندما تتعارض المصالح التجارية.

في مثل هذه الأنظمة، تحكم العلاقات بين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين بآليات القوة غير الرسمية، حيث تُستخدم العائلات والنخب المحلية كأدوات للحفاظ على النظام. هذا الأمر يتجلى بوضوح في تحالف قديروف مع باكالشوك، حيث أظهر قديروف قدرته على تحدي قرارات الكرملين عندما يشعر أن مصالحه مهددة. هذا النوع من الولاءات المرنة يجعل من النظام السياسي والاقتصادي بيئة هشة وقابلة للانفجار في أي لحظة.

نظام بوتين يعتمد بشكل كبير على هذه الشبكات المعقدة من الولاءات والصفقات غير الرسمية. وقد اعتمد لسنوات طويلة على استغلال هذه الديناميكية لضمان بقاء حكمه مستقرًا، ولكن ما حدث في هذا النزاع يظهر أن الاستقرار الذي روج له الكرملين قد يكون على وشك الانهيار. ما يجعل هذا النزاع أكثر خطورة هو أنه يعيد للأذهان مشاهد من التسعينيات العنيفة في روسيا، عندما كانت النزاعات المسلحة بين رجال الأعمال شائعة. أدمَن النظام الترويج لفكرة أن عهد بوتين هو عهد الاستقرار، وأن روسيا تجاوزت تلك الأيام المظلمة. لكن إطلاق النار في وضح النهار، بالقرب من الكرملين، يُظهر أن الفوضى العنيفة لم تختفِ تمامًا.

المشهد يُبرز حقيقة أن السيطرة التي يمارسها النظام على قطاع الأعمال ليست تامة، وأن هناك نخبًا محلية، مثل قديروف، قادرة على تحدي السلطة المركزية إذا كانت مصالحها مهددة. العلاقة بين موسكو والزعماء الإقليميين ليست دائمًا مستقرة كما تُصوَّر. لا يُدار قطاع الاعمال والسياسة وفقًا لقوانين صارمة أو مؤسسات قوية، بل عبر شبكات من النفوذ والولاءات التي تحكمها المصالح المتبادلة. في هذا السياق، نجد أن السلطة السياسية تعتمد على النخب المحلية، ولكنها تجد نفسها أحيانًا في موقف يتعين فيه المساومة مع هذه النخب لضمان استمرار الاستقرار. المشكلة هنا هي أن هذه الولاءات تتحول مع الوقت إلى أداة للضغط على النظام المركزي، مما يجعل استقرار النظام هشًا ومعرضًا للانهيار في حال تصاعدت النزاعات الداخلية.

ما حدث في نزاع Wildberries يعكس بوضوح هذه الهشاشة. حتى الآن، لم يخرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأي تصريحات حول النزاع، ولم يتخذ أي إجراء مباشر لمعالجته. يعتمد بوتين أسلوب “التهدئة بالإنكار” في التعامل مع الأزمات، فقد اعتمد لفترة طويلة على تجاهل الأزمات حتى تهدأ الأمور من تلقاء نفسها. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية قد لا تكون فعالة على المدى الطويل، خاصة إذا استمرت الأزمات الداخلية في التصاعد.

بوتين يعتمد في حكمه على تقديم نفسه كضامن للاستقرار، وهذا ما يجعله يتجاهل أحيانًا الأزمات التي قد تهدد هذا الاستقرار. لكن النزاع المسلح في قلب العاصمة يظهر أن الاستقرار الذي كان يتباهى به قد يكون أكثر هشاشة مما يبدو. الشارع الروسي يعيش حالة من القلق بسبب الصراع في أوكرانيا، وارتفاع الأسعار، والخوف من تجدد التعبئة العسكرية. هذا الحادث يزيد من الشكوك حول قدرة النظام على الحفاظ على السيطرة الداخلية.

إلى جانب ذلك، النزاع أظهر أن الزعماء الإقليميين، مثل قديروف، لا يخضعون دائمًا لأوامر الكرملين، بل يمكنهم تحديها عندما تتعارض مع مصالحهم. هذا يثير تساؤلات حول مدى قدرة النظام المركزي على فرض سيطرته الكاملة على الأطراف. ولاء قديروف لبوتين، الذي لطالما روج له كرئيس “جندي بوتين”، يبدو الآن مرنًا ويعتمد على المصلحة أكثر مما يعتمد على الولاء الحقيقي.

يذهب ماجيار في أعماله حول الدولة المافياوية، إلى أن النزاعات المسلحة داخل “الدولة المافياوية” قد تؤدي إلى تصدعات أكبر في هيكل السلطة، خاصة إذا لم يتم معالجتها بشكل مناسب. إذ إن الأزمات المتزايدة والصراعات بين النخب التجارية والسياسية قد تضعف قدرة النظام على الحفاظ على سيطرته الداخلية، وتجعل النظام بأكمله عرضة للانهيار تحت وطأة الصراعات الاقتصادية والولاءات المتشابكة. في هذه الحالة، يبرز السؤال حول مدى قدرة النظام على مواصلة فرض الاستقرار عندما يصبح النزاع بين الفاعلين الداخليين جزءًا من التوازن اليومي للسلطة.

في النهاية، ما حصل ليس مجرد حدث عابر؛ بل إشارة إلى أزمة تتعمق مع الوقت. تزداد الضغوط على بوتين لإعادة فرض السيطرة واستعادة ثقة الشعب والنخب. لكن مع استمرار بوتين في تجاهل الأزمات أو تأجيل مواجهتها، وغياب استجابة حاسمة وفعالة من قبله، قد يجد نظام بوتين نفسه أمام اختبارات داخلية صعبة أكبر وأكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، وستُظهر قوة هذه التحالفات أو ضعفها مدى قدرتها على الحفاظ على استقرار روسيا. إذا استمرت هذه النزاعات في التصاعد، فقد يجد بوتين نفسه مضطرًا لمواجهة واقع جديد، حيث لم يعد بإمكانه الاعتماد على نفس أساليب إدارة الأزمات التي اعتمد عليها في الماضي.

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *