Довідка про звільнення затриманого на 48 годин
جمال فاخوري
٥\١٠\٢٠٢٥
لم يكن البحر هادئاً تلك الليلة، لا لأن الرياح كانت تعصف، بل لأن في قلبه سفينة تحمل ما هو أخطر من السلاح، حلم الحرية.
كانوا متضامنين من دولٍ مختلفة، اجتمعوا تحت راية واحدة اسمها “فوتيلا الصمود”، متجهين إلى غزة لا لكسر الحصار فقط، بل لكسر الصمت العالمي الذي صار أكثر قسوة من الأسوار نفسها. لكن حين ظهرت الزوارق الإسرائيلية في الأفق، كانت الصورة كأنها من فيلم قديم يعيد نفسه كل عام، وجوه متجهمة، خوذ سوداء، مصابيح مسلطة، بنادق جاهزة، وجيشٌ يطارد مركباً صغيراً لا يملك سوى الضمير.
لم يكن الاقتحام مفاجئاً، كان متوقعاً. كل من يقترب من غزة يعرف أنه سيُعتقل، يُفتَّش، يُهان، وربما يُمنع من الكلام. لكن المختلف هذه المرة أن العالم كله كان يراقب، وأن الجنود الذين صعدوا إلى المركب لم يواجهوا مقاومة، بل نظراتٍ ثابتة تقول لهم بهدوء، “أنتم لا تعتقلون أشخاصاً، أنتم تعتقلون فكرة”.
كانوا يصرخون، يركلون، يفتشون الأجساد بعنف، كأنهم يفرغون ما تبقى فيهم من جبنٍ على من لا يملك سوى الكلمة. رأيناهم كما هم، ضباع تحوم حول فريستها، تخاف أن تفلت من بين أنيابها نور الحقيقة.
منذ اللحظة الأولى، تحوّلت عملية الاعتقال إلى مسرحٍ للغطرسة.
لم يكن الهدف تأمين السفينـة، بل إذلال ركّابها. الأيدي مقيدة، الوجوه مغطاة، والصراخ بالعبرية لا يتوقف. “اجلس، لا تتكلم، انظر إلى الأرض”. كأنهم يستعيدون في كل أمرٍ يُلقونه ذاكرة السيطرة القديمة التي اعتادوا ممارستها على الفلسطينيين. لكن شيئاً ما كان يربكهم؛ المتضامنون لم يبدوا خائفين، بل كانوا يبتسمون أحياناً، وربما لأنهم يعرفون أن الكاميرات في الداخل غير قادرة على تصوير الوجع، لكنها قادرة على نقل الرسالة “إسرائيل “لا تحتمل أن تُرى على حقيقتها.
اقتيدوا إلى مرفأ أسدود تحت حراسة مشددة. كان الليل طويلاً، والضوء الأبيض في الميناء يلسع العيون. هناك بدأ فصلٌ آخر من القصة، فصلٌ عنوانه “الإهانة كسياسة”.
أسئلة سخيفة، لهجة متعالية، نظرات احتقار مقصودة. بعضهم نُزع عنه لباسه لتفتيش مهين، وآخرون تُركوا لساعاتٍ طويلة في ممرٍ بارد دون ماءٍ أو طعام. لم يكن الأمر إجراءً أمنياً كما يدّعون، بل طقساً من طقوس السيطرة التي يمارسها المحتل منذ ولادته. فالاحتلال حين لا يقتل، يُذل، وحين لا يقدر على إسكاتك، يحاول تحقيرك.
لكن هؤلاء لم يكونوا ضحايا، بل شهوداً. في تلك الزنازين، اكتشفوا فجأة أنهم لا يعيشون تجربة استثنائية، بل يعيشون اليوم العادي للفلسطيني.
ما عاشوه خلال ٤٨ ساعة هو ما يعيشه آلاف الأسرى منذ سنوات، بلا ضوء، بلا عدالة، بلا نهاية. والفرق الوحيد أن المتضامن الأوروبي أو الآسيوي سيخرج بعد يومين، أما الأسير الفلسطيني فربما يخرج بعد عشرين عاماً، أو لا يخرج أبداً وكثيرا منهم خرجوا إلى مقابر الأرقام او في ثلاجات الموتى، حينها أدركوا أن القضية ليست جغرافيا ولا حدوداً، بل إنسانٌ يُعاقَب لأنه وُلد في المكان الصحيح مع غزاة دون أدنى اخلاق.
في أحد الممرات، قالت متضامنة من إيطاليا لضابطٍ صرخ في وجهها: “أنتم تخافون من الحقيقة أكثر من خوفكم من البحر”.
تجاهلها، لكنه لم يستطع أن ينظر في عينيها.
وفي الزنزانة المجاورة، كتب أحد الإسبان على جدارٍ رمادي بقطعة معدنية صغيرة: “هنا يتعلم الإنسان معنى فلسطين”.
وحين سمعه أحد الحراس، اقترب وسأله، “لماذا تفعل هذا؟” فأجابه بهدوء: “لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي لم تصادروه بعد”.
كانت الساعات تمر ببطءٍ ثقيل. لا نهار في الزنزانة ولا ليل. فقط ضوء أبيض قاسٍ لا ينام.
وفي تلك اللحظة، فهم الجميع أن غزة نفسها هي زنزانة أكبر، تمتد من البحر إلى السلك الشائك.
الاختلاف في الحجم فقط، أما الجوهر فواحد: الحصار، التفتيش، الانتظار، الإهانة، والصبر.
وحين خرجوا بعد ٤٨ ساعة، لم يخرجوا خالي الوفاض، بل خرجوا حاملين جرحاً جديداً اسمه “الوعي”.
قال أحدهم في المؤتمر الصحفي بعد الإفراج، “كنت أظن أنني متضامن، الآن أدركت أنني جزء من القضية. لأن من يُسجَن مع الفلسطيني ولو ليومٍ واحد، لا يعود كما كان”.
كانت كلماته تختصر ما لا يمكن وصفه. فالحرية حين تُسلب، ولو مؤقتاً، تُصبح مفهوماً آخر، أكثر قداسة، أكثر وضوحاً، وأكثر خطراً على الطغاة.
في الخارج، وقفت قوات الشرطة تراقبهم بعيونٍ فارغة.
نظرات الجنود لم تكن نظرات المنتصرين، بل نظرات المذعورين.
الجبن يتجلى حين تمتلك السلاح وتخاف من الحقيقة.
أولئك الذين صعدوا إلى السفينة مدججين بالرصاص خرجوا منها عراةً من الإنسانية.
أولئك الذين تظاهروا بالقوة في الميناء لم يخفوا إلا ضعفهم الداخلي، ضعف من يعرف أنه يقف على كذبٍ مستمر، وأن كل ما بين يديه قابل للانهيار أمام نظرة صدقٍ واحدة.
في النهاية، حين صعد المتضامنون إلى الطائرة عائدين إلى بلادهم، كانوا صامتين.
لكن صمتهم لم يكن استسلاماً، بل احتراماً لما رأوه.
كانت الدموع في العيون، والابتسامة على الشفاه. قال أحدهم،
“لقد اعتقلونا ٤٨ ساعة، لكنهم لم يحرروا أنفسهم بعد من خوفهم من العدالة. نحن خرجنا أحراراً، أما هم، فسيظلون سجناء كراهيتهم”.
وهكذا، لم تنته القصة بالاعتقال، بل بدأت منه.
بدأت في تلك الزنزانة التي تحولت إلى مرآةٍ تكشف وجه الاحتلال الحقيقي.
وجهٌ لم يعد قادراً على الاختباء وراء شعارات الديمقراطية والأمن.
وجهٌ نعرفه جميعاً – جبان، متغطرس، خائف من الكلمة كما يخاف الطفل من الظلام.
لكن ما لا يعرفه هذا الوجه أنه كلما ازداد قبحاً، ازداد ضوء الحرية حوله لمعاناً.
فالسفن ستعود، والموانئ ستُذكر بأسمائهم، والبحر الذي حملهم لن ينسى.
وغزة، كما كانت دوماً، ستبقى تنتظرهم، لا لأنهم سيكسرون حصارها، بل لأنهم رأوا ما رآه أبناؤها منذ زمن، أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، ولو من فمّ البحر والحديد.