معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي
نتائجها وانعكاساتها في ظل التطورات السياسية في الشرق الأوسط
10\6\2024
د. ماهر الطاهر
مسؤول العلاقات الدولية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
بدعوة من حزب العمل في تركيا، شارك د. ماهر الطاهر في أعمال “مؤتمر الشرق الأوسط” في إسطنبول في نهاية شهر أيار، والذي استمر لمدة يومين، وشارك في أعماله أكثر من 120 شخصية من بلدان مختلفة. وقد قدم الدكتور ماهر الطاهر محاضرة بعنوان “معركة طوفان الأقصى، معانيها وانعكاساتها على التطورات السياسية في الشرق الأوسط”. حضر المحاضرة وفود وشخصيات وأحزاب من تركيا وألمانيا وبريطانيا، وأكاديميين وشخصيات فكرية وثقافية.
اليكم نص المحاضرة، وذلك لاهميتها لما تحتويه من قراءة هامة معركة طوفان الاقصى بالاضافة الى تحليل لمجريات حرب الابادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطينيفي قطاع غزة، و الانتهاكات و الجرائم اليومية في الضفة الغربية و القدس المحتلة، و النتائج المترتبه على جرائم الاحتلال الصهيوني و مستقبل القضية الفلسطينية.
****************
شكلت معركة طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر2023 نقطة فاصلة في تاريخ الشعب الفلسطيني وجاءت في ظل تطورات سياسية عميقة ومتسارعة على الصعيد العالمي، وخاصة بعد اندلاع الحرب بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وحلف الأطلسي في أوكرانيا وما ترتب عنها من احتدام الصراع الدولي بين المحور الصيني – الروسي من ناحية وأميركا والقوى الكبرى في الاتحاد الأوروبي من أجل السيطرة على الثروات وطرق التجارة والممرات المائية للبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ومن اجل التفوق والهيمنة في المنطقة. وتتجلى تكلفة الحروب في المنطقة في الخسائر في الأرواح والهجرة والفقر وزيادة الاستثمارات العسكرية وتعميق الأزمات الاقتصادية وإفقار الشعوب.
في ظل هذه التطورات واحتدام الصراع الكوني، اندلعت معركة طوفان الأقصى، وعشية هذه المعركة بلغت ممارسات الاحتلال الاسرائيلي درجه غير مسبوقة من الإرهاب والاستيطان والاعتقالات وبدأ قادة الكيان الإسرائيلي يتحدثون عن حسم الأمور وأنه قد آن الأوان لتصفية القضية الفلسطينية والحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
تصاعدت العمليات العسكرية البطولية لشعبنا في الضفة الفلسطينية في جنين ونابلس والقدس واريحا وكل المدن والمخيمات الفلسطينية وتصدى شعبنا بكل شجاعة للممارسات الإجرامية للمستوطنين المسلحين الذين مارسوا كل أشكال الإرهاب ضد مدن وقرى الضفة الفلسطينية المحتلة وضد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال فجاءت معركة طوفان الأقصى ردا على هذه الجرائم المتواصلة والتي توهم الاحتلال من خلالها أنه سيحسم الأمور ويضم الضفة الفلسطينية ويسيطر بشكل كامل على مدينه القدس.
فوجئ العدو الصهيوني وجيشه المدجج بكل أنواع السلاح بيوم السابع من اكتوبر 2023 والذي شكل نقطة تحول في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني.
دخلت ملحمة طوفان الأقصى اليوم شهرها الثامن، أذهلت العالم كله وأذهلت البشرية بأسرها شعوبا وحكومات، وكانت مفاجئة بقوة انطلاقتها وما حققته من صدمة مروعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الاستعمارية. إلا أن الأبعاد والنتائج المترتبة عليها ستكون على جانب أعظم من المفاجأة التي حصلت يوم 7 من أكتوبر.
معركة وجود وصفحة مجد في تاريخ الشعب الفلسطيني وأحرار العالم، جسدت ورسمت مشهداً أسطورياً من جانبين:
الأول: بطولات استثنائية لشعب يكافح بكل صلابة منذ قرن من الزمان، تعرض لأبشع المخططات والمؤامرات الاستعمارية التي شردته في كل أصقاع الأرض، والذي تعرض لمجازر متتالية عبر العقود الماضية، ومجازر غزة اليوم ليست رد فعل على طوفان الأقصى، بل هي امتداد وتتويج لمجازر سابقة اقترفتها الصهيونية على مرأى ومسمع من العالم أجمع، لكن شعبنا شعب التضحيات والشهداء لم يركع ولم يستسلم واستمر بالصمود والمقاومة جيلا بعد جيل، وكل جيل جديد كان أشد مراساً من الجيل الذي سبقه، وهذا ما وضع المشروع الصهيوني أمام مأزق وجودي حقيقي، لأنه كان يتوهم ويقول: بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون وكان يقول بأنه جاء لأرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، فماذا كانت النتيجة؟.
لقد وصل اليوم إلى نتيجة بأنه يواجه شعب يمتلك من الشجاعة والكرامة والشموخ والصبر ما لا يتحمله بشر، مات الكبار فيه، وهذه هي سنة الحياة، ولكن الصغار لم ينسوا وفاجأته الأجيال الجديدة بما لم يكن يتوقعه واكتشف أن الأرض التي احتلها بمؤامرة استعمارية ليست أرضا بلا شعب، بل وجد فيها شعب الجبارين وشعب المفاجآت، شعب متمسك بشكل أزلي بأرضه وترابه، ومصمم على تحرير هذه الأرض.
– أما الجانب الثاني من المشهد الذي أظهرته معركة طوفان الأقصى، أنها كانت كاشفة للعورات، وكاشفة لكثير من الحقائق التي أصبحت حقائق ساطعة شاهدها العالم كله، ومن أهم هذه الحقائق:
أولاً: أظهرت هذه الملحمة أن لا وجود لقانون دولي وشرعية دولية نظرا للاحتقار التام الذي واجه به الكيان الإسرائيلي والإدارة الأمريكية العالم كله، واتضح بشكل لا لبس فيه أن القانون السائد في هذا العالم هو قانون شريعة الغاب وقانون الأقوى، وهذه حقيقة أظهرتها بوضوح تام دماء أطفال غزة ونسائها وشيوخها وشبابها، وتدمير قطاع غزة وهدم البيوت والمساجد والكنائس والمستشفيات، وهذه حقيقة سيكون لها آثارها الاستراتيجية في العالم أجمع في المرحلة القادمة.
لقد وصل الصلف الإسرائيلي إلى حد ان مندوب الكيان الإسرائيلي في الأمم المتحدة عندما صوتت 143 دولة لصالح عضوية كاملة لفلسطين في هيئة الأمم المتحدة أن قام هذا المندوب بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة أمام العالم كله.
ثانياً: أظهرت معركة طوفان الأقصى أن الكيان الصهيوني وجيشه الذي ادَّعو بأنه لا يقهر أكذوبة كبرى، يمكن دحرها وقهرها وأن تحرير فلسطين إمكانية واقعية قابلة للتحقيق، وهذه حقيقة أكدتها الوقائع منذ أن تم تحرير جنوب لبنان عام 2000 دون قيد أو شرط، وحروب غزة المتواصلة، والتي توجت بمعركة طوفان الأقصى التي أكدت هشاشة الجيش الصهيوني وإمكانية قهره وإلحاق الهزيمة به.
– قطاع غزة محاصر منذ 18 عاما، 6 كيلو بـ 6 كيلو، بقعة أرض صغيرة 360 كم مربع، لا يدخله أي إمدادات ويتمكن من خوض حرب أسطورية دخلت شهرها الثامن.
فيتنام، حققت انتصارا عظيما ولكن كان لديها خطوط إمداد من الصين وروسيا والعديد من دول العالم – سلاح وذخائر، غذاء، مساعدات، والجزائر حققت انتصارا عظيما ولكن كان لديها خطوط إمداد واسناد.
-غزة المحاصرة صنعت معجزة تاريخية بكل معنى الكلمة بدون أي امدادات، صمدت وقاتلت، ولا زالت تقاتل وستستمر في القتال، والضفة الفلسطينية والقدس تخوض معركة بطولية وتقدم الشهداء يوما بعد يوم.
– لأول مرة في تاريخ الصراع، تمكن الشعب الفلسطيني بأن يكون لديه قاعدة فيها بعض السلاح والإمكانيات العسكرية المتواضعة، مقارنة بما يملكه جيش الاحتلال من أحدث أسلحة القتل والدمار، وعندما توفرت لشعبنا هذه القاعدة صنع شعبنا المعجزات، وبرهن أنه من الممكن هزيمة هذا الكيان وتمريغ أنف جيشه بالتراب.
– لا نريد من الدول العربية إدخال جيوشها، ولكن ألا يحق للشعب الفلسطيني أن يحصل على دعم من الدول العربية وإسناد وهو كفيل بمواجهة هذا الكيان المدجج بكل أنواع السلاح، وإلى متى ستستمر مواقف النظام الرسمي العربي بالتفرج على ما يجري من مذابح.
ثالثاً: أظهرت معركة طوفان الأقصى أن العدو الأول للشعب الفلسطيني ولكل الشعوب المناضلة هو الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود المعركة وأعطت الكيان الإسرائيلي الرخصة الكاملة لممارسة حرب الإبادة والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، وأرسلت أساطيلها وحاملات طائراتها وجنودها وحضر قادتها اجتماعات مجلس الحرب الصهيوني، لأنه لم يعد لديهم ثقة بأن قادة الكيان يستطيعون إدارة المعركة، واتضح تماما أن الكيان الإسرائيلي ليس إلا دمية و كيان وظيفي له وظائف لصالح الإمبريالية والدول الاستعمارية التي تستهدف السيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها ومقدراتها.
رابعاً: كشفت معركة طوفان الأقصى للرأي العام العالمي حقيقة الكيان الصهيوني وحقده وإجرامه ككيان فاشي – نازي لا يخوض حربا، بل يقترف جرائم حرب، ولم يتمكن من تحقيق أي إنجاز عسكري أو سياسي ولذلك لجأ إلى قتل المدنيين والأطفال والنساء وتدمير كل شيء في قطاع غزة، المستشفيات والمدارس والجامعات وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها حيث تم استشهاد 35 ألف مواطن فلسطيني و78 ألف جريح 70% منهم من الأطفال والنساء وكان من نتائج ذلك التحولات التي نشهدها على صعيد الرأي العام العالمي في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وجيل الشباب في أمريكا بغالبيتهم باتوا يؤيدون الشعب الفلسطيني، وقامت مظاهرات كبرى في العواصم الغربية وفي الولايات المتحدة وهذا سيكون له انعكاسات على مستقبل كفاح الشعب الفلسطيني.
وقد أظهرت نتائج استطلاع في أميركا أن 51% من الشباب الأمريكي بات على قناعة بأن حل قضية فلسطين يتطلب تفكيك الكيان الإسرائيلي العنصري الذي يمارس حرب الإبادة والتطهير العرقي بكل معنى الكلمة.
خامساً: لا شك أن الوضع خطير على أرض فلسطين في ضوء استمرار وتصعيد العدوان، وبات واضحاً أن الهدف الحقيقي للكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية هو تهجير وترحيل أهلنا من قطاع غزة وبعد ذلك من الضفة ومن الأراضي المحتلة عام 1948.
– وهناك ما سمي بمبادرة قدمها أعضاء في الكونغرس الأمريكي تتحدث عن تهجير طوعي وليس قسري إلى مصر وبلدان عربية أخرى، والمخطط هو تدمير قطاع غزة وجعله مكاناً غير صالح للحياة، ويشترطون تقديم المساعدات لدول عربية بموافقتها على قبول لاجئين من القطاع، والسماح للناس في المغادرة، ولكننا نقول أن هذه المخططات لن تنجح، وسيكتشف قادة جيش الاحتلال أن غزة سوف تستمر بالصمود والمقاومة، ستواصل القتال وإيقاع المزيد من الخسائر في صفوف العدو الذي سيضطر في نهاية المطاف إلى إدراك أن مخططاته ستبوء بالفشل.
سادساً: إن الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية وأدواتهم يرسمون سيناريوهات ومخططات لمستقبل الوضع في قطاع غزة والضفة الفلسطينية والقدس ويستهدفون تصفية القضية الفلسطينية تحت ستار وخدعة ما يسمى بحل الدولتين، والذي لم يكن أكثر من عملية تضليل وخداع خلال العقود الماضية، وهذا التضليل والخداع لا زال مستمرا حتى اليوم وسيستمر في المستقبل، ولذلك فإننا ندعو ولكي نحمي الانتصار الذي تحقق يوم 7 أكتوبر ونصونه ونبني عليه، ندعو لتشكيل قيادة طوارئ وطنية فلسطينية موحدة لخوض المعركة العسكرية والسياسية في المرحلة القادمة وفق برنامج سياسي كفاحي مقاوم لصون إنجازات وتضحيات شعبنا والدماء الزكية التي سالت على أرض فلسطين، ولإسقاط أي محاولات تستهدف إجهاض الانتصار وتبديد نتائجه، لأن ما جرى يوم 7 أكتوبر سيكون له انعكاسات ونتائج استراتيجية عميقة على جميع المستويات الفلسطينية والعربية والدولية وداخل المجتمع الصهيوني ومواجهة أية محاولات ومخططات تريد أن تحقق سياسيا ما عجزت عن تحقيقه عسكريا نتيجة صمود شعبنا وتضحياته الجسيمة.
سابعاً: وجهت معركة طوفان الأقصى ضربة عميقة لسيناريوهات التطبيع بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية ولا زالت إلى دمج كيان الاحتلال الاسرائيلي في المنطقة ليكون هذا الكيان هو المسيطر والمهيمن عسكريا واقتصاديا وأمنيا على عموم المنطقة.
ثامناً: وجهت معركة طوفان الأقصى ضربة كبيرة لمخططات أمريكا والكيان الاسرائيلي لزرع بذور الفتن الطائفية والمذهبية في المنطقة وأكدت من خلال تماسك وتلاحم قوى المقاومة أن هذه المخططات مصيرها الفشل الذريع.
بعد مرور ثمانية أشهر على الملحمة التاريخية على أرض قطاع غزة وفشل العدو الصهيوني في تحقيق أي من أهدافه التي أعلنها بالقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة وإطلاق سراح أسراه بالقوة، وبعد الخسائر الجسيمة التي أصابت ضباطه وجنوده وآلياته ودباباته والتي هي أضعاف ما يعلن عنه وبعد أن تحولت غزة إلى مقبرة للغزاة لجأ العدو الصهيوني إلى سياسة الاغتيالات بعد فشله الذريع في تحقيق أي نصر سياسي أو عسكري في غزة.
إن ملحمة طوفان الاقصى التاريخية قد أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث في العالم أجمع وأصبحت على أجندة كل شعوب الأرض بعد أن شاهد العالم حرب الإبادة التي يمارسها قتلة الأطفال والنساء والشيوخ على مرآى ومسمع البشرية بأسرها.
واليوم فإن الكيان الاسرائيلي المجرم يجلس في قفص الاتهام بعد أن قدمت دولة جنوب افريقيا الصديقة الحقيقية للشعب الفلسطيني دعوة لمحكمة العدل الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في الكيان الاسرائيلي الذي يمارس حرب إبادة ضد شعب مكافح تعرض منذ 75 عاما لجرائم من أبشع جرائم العصر الحديث. ويخشى قادة الكيان الإسرائيلي من إصدار مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق عدد من مجرمي الحرب وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي يرفض كل محاولات وقف إطلاق النار ووقف العدوان لأنه يدرك أن وقف الحرب يعني نهايته السياسية، وهو بذلك مدعوم بشكل كامل من الإدارة الأميركية التي استعملت حق الفيتو أكثر من مرة في مجلس الامن ومنعت صدور قرار ملزم بوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني مما يجعل الإدارة الأميركية شريك في المسؤولية الكاملة عن الجرائم التي تم اقترافها على أرض قطاع غزة.
إن الشعب الفلسطيني يقدر ويثمن عالياً انتفاضة شعوب العالم وخاصة في الجامعات وضمن صفوف الشباب في أوروبا واسيا وافريقيا وأميركا التي أصبحت تشكل المعيار الأساسي للضمير العالمي الذي يقف ضد الإمبريالية عدوة الشعوب وعدوة الانسانية. هذه الامبريالية التي اتضح للعالم اجمع زيف ادعاءاتها حول الديمقراطية وحقوق الانسان، عندما قامت باعتقال ألاف الطلبة لمجرد انهم قاموا بمظاهرات سلمية تساند الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وترفض حرب الإبادة وقتل الأطفال والنساء.