إرث «بريماكوف» وسياسة بوتين في أوكرانيا
فراس بورزان*
في أكتوبر/تشرين الأول 2019، حرص بوتين على المشاركة بنفسه في الكشف عن نصب تذكاري في موسكو ليفغيني بريماكوف رئيس وزراء روسيا بين عامي 1998 و1999. بوتين وصف بريماكوف في حفل تأبينه بالمواطن العظيم الذي جسد الوطنية الحقيقية والتفاني في سبيل الوطن، لم يتردد بوتين بالتصريح بأن المسؤولين الروس كانوا يطلبون نصيحة بريماكوف ويستمعون إليه، حتى إنه طلب مشورة بريماكوف. هذا تقدير لم يسمعه بريماكوف من بوتين وهو حي.
لدى بوتين أسباب وجيهة للإشادة بريماكوف، فإلى جانب سمعة بريماكوف كرجل دولة وتجربته السياسية الغنية ونتاجه الفكري، فهو أيضاً من قدامى المحاربين في المؤسسة الأمنية السوفيتية «كي جي بي» التي انتمى إليها بوتين في الماضي. كلا الرجلين شهد انهيار الاتحاد السوفيتي، أحدهما شهد انهيار النظام وهو في قلب النظام حيث كان بريماكوف يشغل منصب رئيس مجلس اتحاد السوفيات الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، في حين أن بوتين كان على هامش هذا النظام في منصب إداري متواضع في مكتب دريسدن التابع للاستخبارات السوفيتية.
خرج بريماكوف من السلطة من الباب نفسه الذي دخل منه بوتين إليها، الباب كان وراثة بوريس يلتسين وضمان خروج آمن له ولعائلته. ربما بريماكوف ما كان ليمنح يلتسين ذلك الضمان الذي قدمه بوتين له، ليس بدافع الانتقام، فغالباً بريماكوف لم يكن مهتماً بإسقاط يلتسين نفسه والانتقام منه، لكن بريماكوف تطلع خلال الفترة القصيرة التي قضاها في رئاسة الوزراء إلى استعادة الدولة وإعادة بنائها من جديد، في حين أن بوتين أراد السلطة، وبين مفهومي الدولة والسلطة فرق ينساه البعض أحياناً.
القول إن بريماكوف هو الأب الروحي لبوتين وإنه عراب سياساته، هو قول مبالغ فيه ويفتقر إلى الملاحظة العميقة للاختلافات بين الرؤى والمنطلقات التي استند إليها الرجلان في رسم صورة واقع روسيا وتخيل مستقبلها. لا شك أن لأفكار بريماكوف ظلالًا يمكن ملاحظتها في بعض سياسات بوتين الخارجية. أحد المخضرمين في متابعة السياسة الروسية علق على المقارنة بين الرجلين بالقول: «كانت مواقف بريماكوف في الواقع نسخة أكثر تطوراً من تلك التي تبناها بوتين».
لعل آخر أحاديث بريماكوف العامة يصلح بشكل مثالي لإبراز جوانب اختلاف في التفكير بعد الرجلين بما يتعلق بالسياسة الخارجية لروسيا، بريماكوف واضح في التعبير عن قلقه بشأن مستقبل روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، واعتبر أن من مصلحة روسيا تطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، محذراً من أنه من دون هذه العلاقات ستخاطر روسيا بفقدانها مكانتها كقوة عظمى، علاوة على تهديد توازنها مع القوى الصاعدة مثل الصين، رؤية بريماكوف لدور بلاده في السياسة الدولية هو أن تلعب روسيا دور الموازن بين مراكز القوة العالمية، هذا يتطلب بدوره أن تكون أبواب موسكو مفتوحة للجميع وعلاقاتها نشطة مع كل الأطراف الفاعلة على المسرح الدولي.
في لقائه الأخير، طرح بريماكوف على الحضور عدة تساؤلات مربكة تتعلق بأوكرانيا وأجاب عليها بنفسه أمام جمهور موجود وقتها في موسكو التي كانت تعيش زمناً مشحوناً، تُقرع فيها طبول الحرب وتسكر أجواءه نشوة إمبراطورية بعد ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، التساؤل الأول جاء على هذا النحو- هل لا يزال بإمكاننا التحدث عن مصلحة روسيا في بقاء الدونباس جزءاً من أوكرانيا؟ جواب بريماكوف كان نعم، بل من الضروري أن يظل الدونباس جزءاً من أوكرانيا وعلى هذا الأساس فقط يمكن إدارة الأزمة الأوكرانية. ليختتم حديثه بسؤال تبصري عميق يشبه النبوءة، خاطب جمهوره فيه، ماذا لو لم تطبق اتفاقيات مينسك؟ فهل يتوجب على روسيا في الحالة القصوى إرسال قواتها لمساعدة انفصالي الدونباس؟ وهنا أجاب على نفسه بحزم وبـنفي جازم، ثم يبرر نفيه بأن ذلك سيكون مفيداً للولايات المتحدة التي ستستخدم هكذا وضع لإبقاء أوروبا تحت نفوذها لمدة قرن قادم.
بالنظر لما يحدث اليوم في أوكرانيا، يمكن بسهولة ملاحظة أن بوتين كانت لديه إجابات مختلفة على تساؤلات بريماكوف التي طرحها في آخر لقاءاته، فبوتين أقدم على فعل كل الأمور التي كان يتجنبها بريماكوف، فروسيا اليوم تعاني العزلة في الامم المتحدة، وانهارت كل قنوات الاتصال بين الكرملين مع الغرب.
هذه العزلة دفعت روسيا كالثور في ميدان المصارعة نحو الصين الحمراء. ما كان يُقلق بريماكوف الذي تنبأ بأن مستقبل العالم سيكون صينياً، لذلك اشترط لعدم الخوف من هكذا مستقبل اتباع سياسة متعددة الاتجاهات، لأنه يؤمن أن روسيا لا يمكنها المراهنة على طرف وحيد، كما تعتمد قوة روسيا وتأثيرها في هذا العالم إلى حد كبير نجاحها في بناء سياسة خارجية متعددة النواقل.
مسارات تطور العلاقات الروسية- الصينية لن تكون متوازنة، فالخيارات المالية والتجارية لموسكو أصبحت تدريجياً أسيرة لبكين، ما يعني أن روسيا بوتين لن تكون قادرة على لعب دور القوة الموازنة بين مراكز القوة العالمية كما تصوره لها بريماكوف.
ذات مرة سيرجي يسينين الشاعر المفضل لدى يفغيني بريماكوف قال: «لا تستطيع رؤية ملامح الوجه عندما تكون الوجوه متقابلة عن قرب، يمكنك رؤيتها عندما تبتعد». بالنظر عن بعد، وبمقارنة أفكار الرجلين وسياساتهما، ندرك أن بوتين ليس وريث فكر بريماكوف، وأن سياسات الرجلين قد تشابهت في مواضع تفرضها طبيعة روسيا كبلد على أي حاكم لها بغض النظر عن الأفكار والتصورات التي يحملها، أو بعبارات أكثر إيجازاً، أن الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى لدور روسيا العالمي ومستقبلها ونظرة التقييم الواقعية لقدراتها وقوتها كلها كانت أكثر وضوحاً ورسوخاً لدى بريماكوف مقارنة ببوتين رغم أن هذا الأخير امتلك فرصاً وموارد هي الأكبر.
في عهد بوتين، استمر بريماكوف في شغل منصب رئاسة غرفة التجارة ما يربو على عشر سنوات. المثير للسخرية أن إعجاب بوتين بحكمة وخبرة السياسي المخضرم لم يجعله يكلف بريماكوف بأكثر من هذا المنصب الهامشي وغير المؤثر في الحياة السياسية الروسية.