إسرائيل: أزمة حكم لا أزمة حكومة

إسرائيل: أزمة حكم لا أزمة حكومة

د.حسين الديك – خبير بالشأن الإسرائيلي والأمريكي

10\2\2024 

لقد شهدة إسرائيل خلال السنوات الخمسة الماضية خمسة انتخابات متتالية، وهذا ناتج عن الانقسام  العميق في المجتمع الإسرائيلي ما بين التيار الديني القومي والتيار العلماني المرتبط بالصهيونية العالمية، ولطالما شكل التيار الديني في إسرائيل أقلية محافظة تقع على هامش النظام السياسي والحيز العام الإسرائيلي، ولكن استناداً الى الاعتبارات الديموغرافية الخاصة بهذا التيار وتناميه بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، استطاع أن ينتقل من الهامش الى المركز ويلقي بثقله في الحيز السياسي العام في إسرائيل، وتوج ذلك في نهاية الأمر في حكومة نتنياهو بتحالفه مع اليمين الديني (شاس، يهوديت هتوراة)، واليمين القومي (الصهيونية الدينية، العظمة اليهودية)، بعد أن استطاع الفوز في الانتخابات الأخيرة، وتراجع معسكر الوسط واليسار الذي يمثل إسرائيل التقليدية المرتبطة بالصهيونية العالمية وتجلياتها ومؤسساتها، والتي تتقاطع مصالها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.

وعبر عن أزمة الحكم تلك ما ظهر خلال العام 2023م  ما عرف بثورة الإصلاحات القضائية التي تبنتها حكومة اليمين في إسرائيل، والتي كانت تهدف لإخضاع السلطة القضائية لقرارات الحكومة الإسرائيلية، ومتجاوزة بذلك العرف الدستوري بفصل السلطات واستقلاليتها، فكان الرد من التيار الصهيوني العلماني و المرتبط بالصهيوني العالمية بالتحرك من خلال الشارع والاحتجاجات التي استمرت لعشرة شهور تقريبا، وتماهت مع تلك الاحتجاجات الإدارة الأمريكية والمنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية، فإسرائيل والصهيونية العالمية هي احدى تجليات الكولنيالية الاستيطانية التي قامت عليها كل من الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، فتشابه البنى الكولنيالية بين الدولتين جعلت هناك قواسم مشتركية  في تركيبة  البنية الكولنيالية المشتركة لهما في قيامهما على انقاض الشعوب الاصلانية من خلال أعمال الإبادة ومحو الثقافة والتاريخ للشعوب الأصلية، فقد يبدو أن الولايات المتحدة قد نجحت في ذلك، لكن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في محو ثقافة وتاريخ وهوية الشعب الفلسطيني، وانعكس هذا الفشل إلى صراع داخلي بين مركبات تلك الدولة الكولنيالية القائمة على الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي وسرقة الأراضي وتغيير ملامح الأرض وجلب المهاجرين من شتى بقاع الأرض وإسكانهم في هذه الدولة.

فيما فسر بعض الكتاب والمحللين أن الأزمة الداخلية في إسرائيل قد ينتج عنها تشكل الكتلة الحرجة (الكتلة التاريخية) التي تنهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة، وذهب فريق آخر إلى أن هذه الأزمة قد تنهي إسرائيل كدولة كولنيالية بأسباب ذاتية داخلية بين مكونات تلك الدولة، من خلال  الصراع الدائم والمستمر بين مكوناتها الديمغرافية والإثنية والعرقية بسبب غياب الهوية الجامعة وذلك يعود إلى سيطرة الفكر المنغلق الذي لا يقبل الآخر المختلف، حيث تعمل المناهج التعليمية في المدارس الدينية في إسرائيل على تدريسه لطلبتها منذ قيام هذه الدولة.

تجلت الصهيونية العلمانية الليبرالية في إسرائيل بالنخب السياسية والقادة العسكريين الحاليين والمتقاعدين والنخب الاقتصادية والاجتماعية وأساتذة الجامعات ومؤسسات الأبحاث والدراسات وملاك الشركات، وهم يمثلون سكان الساحل ووسط البلاد، بينما تمثلت الكتلة اليمينة الدينية في اليمين القومي واليمين الديني وغالبيتهم من سكان المستوطنات في الضفة الغربية ومدينة القدس، وانتقل الصراع من الشارع إلى داخل الكنيست الإسرائيلي بينما بقي الموقف الأمريكي داعماً ومؤيداً للفريق المدعوم من الصهيونية العالمية، وظهرت الكثير من التصريحات من قادة اليمين القومي التي تطالب واشنطن بعدم التدخل في الشأن الإسرائيلي وأن الحكومة المنتخبة في إسرائيل هي التي تقرر مستقبل الدولة وإسرائيل ليست نجمة على العلم الأمريكي.

وجاءت عملية السابع من أكتوبر 2023 م لتعيد رسم قواعد المعادلة السياسية الإسرائيلية من جديد، وتعود الأزمة بالظهور في المجتمع الإسرائيلي والمؤسسات والحكومة أيضا، فبعد انضمام حزب المعسكر الرسمي  الذي يترأسه رئيس الأركان السابق بيني غانتس والمقرب الولايات المتحدة الأمريكية، عادت الأزمة تظهر من جديد، ولكن في هذه المرة في ظل ظروف صعبة تعيشها إسرائيل لم تمر عليها منذ إعلان قيامها بسبب حجم الخسائر العسكرية والبشرية والسياسية والاقتصادية التي منيت بها في  قطاع غزة، فتمثل موقف حزب المعسكر الرسمي بالضغط نحو التوصل الى اتفاق هدنة والأولوية لإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين في قطاع غزة، بينما يضغط اليمين القومي بزعامة ايتمار بن غفير ومعه نتنياهو وحزب الليكود نحو الاستمرار في الحرب وعدم التوصل الى هدنة، وجاء الموقف الأمريكي ليتماها مع موقف حزب المعسكر الرسمي الذي يمثل الصهيونية العلمانية المرتبطة باللوبي الصهيوني العالمي في مواجهة اليمين القومي ممثل في ايتمار بن غفير وسموترش ومعهم بنيامين نتنياهو أيضا.

فالخلاف داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية لا يعبر عن أزمة في هذه الحكومة فقط، بل يتجاوز ذلك ليعبر عن أزمة حكم في هذه الدولة والذي تعود جذوره الى وقت مبكر من إعلان قيام الدولة في العام 1948م، ولكنه بقي خفيا وغير ظاهر للعلن بسبب سيطرة النخب الليبرالية العلمانية على مؤسسات الدولة ومقاليد الحكم من جانب وضعف وهشاشة الطرف الآخر الذي يمثل اليمين الديني واليمين القومي والذي لا تربطه أي صلة بالصهيونية العالمية ويسعى الى تعزيز القيم الدينية اليهودية التي تتعارض مع الثقافة العلمانية والغربية وتوجهات الصهيونية العالمية، وسوف تستمر أزمة الحكم تلك إلى أن يستطيع طرف من الطرفين تحييد الآخر وتحجيمه إلى حد لا يمكنه التحرك مستقبلا، وقد يؤدي هذا الصراع إلى الدخول في صراع عنيف بين تلك المكونات سواء كانت صامته أو علنية، قد تبدأ بهجرة التيار العلماني وتقلصه، أو بتدمير التيار الديني من خلال تحجيمه وتقييده من قبل القوى العلمانية، والذي هو، أي التيار القومي الديني، على استعداد للقتال دفاعاً عن كينونته الدينية، وعندها قد تحل هذه الدولة في حرب أهليه طاحنة لا تستطيع القوى الغربية التحكم بها أو السيطرة عليها، في تجلي واضح وصريح لازمة الحكم العميقة المتجذرة بين المكونات المتنافرة لهذه الدولة.

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *