إسرائيل والكتلة الحرجة
د. حسين الديك – كاتب فلسطيني
14/8/2023
إن ظهور مفهوم الكتلة الحرجة في الأدبيات السياسية الثورية نحو التغيير يعود في الأساس الى الجذور الأساسية لما يعرف بالقوة الكتلة التاريخية في أدبيات العلوم السياسية، حيث كان المفكر والفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي من أوائل المفكرين الذي صاغو هذا المفهوم واصبغوا عليه الطابع الأيديولوجي، والذي يربط العلاقات الأيديولوجية بين القوى المادية، وانه علاقة وحدة جدلية عضوية، فالكتلة التاريخية بالنسبة لغرامشي ممكن ان تقدم حلا تاريخيا من خلال تأثيرها وموقفها السياسي اتجاه الحكومة والنظام السياسي، ويتجلى دور الكتلة التاريخية في حال وجود أزمة عميقة لدى الطبقة الحاكمة والنظام السياسي القائم.
ومع تطور الخطاب الليبرالي والايديولوجيا السياسية اصبح يتم استخدام مصطلح الكتلة الحرجة في الأدبيات السياسية بدلا من الكتلة التاريخية، وهذا يعود الى هيمنة الفكر الليبرالي الغربي في مواجهة النظرية الاشتراكية وأبجدياتها السياسية، فالكتلة الحرجة هي مجموع المؤسسات التي تضمّ الأشخاص حاملي أفكار التغيير، وعناصره الثلاثة (الأشخاص، المؤسسات، الأفكار) التي تقود التغيير في البلاد، ولا بد من وجود حدّ مقبول من التجانس بين هذه العناصر الثلاثة، وانصهارها في بوتقة واحدة من أجل خلق كتلة مؤثرة، قادرة على إحداث التغيير المطلوب.
وفي السياق الاستعماري الكولونيالي كان للكتلة الحرجة دور فاعل في التأثير على النظام السياسي في منح الشعوب، الواقعة تحت الاحتلال، حق تقرير المصير وإنهاء الاحتلال الكولونيالي، ولكن اهم عامل مؤثر في تحريك الكتلة الحرجة هو اشتداد الثورة والكفاح ضد الاحتلال، ففي حالة تحقيق الثورات لانتصارات عملاقة ضد المحتل فان هذا يدفع الكتلة الحرجة للتحرك والتعبير عن مطالبها للتغيير في أدوات تعامل النظام السياسي الاستعماري من الشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
وقد تجلى نموذج تأثير الكتلة الحرجة في فرنسا أثناء الثورة الجزائرية بعد أن حققت المزيد من الانتصارات على الاحتلال الفرنسي وحلفاءه في الجزائر، إذ تحركت الكتلة الحرجة في فرنسا وخرجت المظاهرات التي تطالب الحكومة الفرنسية بإنهاء احتلالها للجزائر وذلك تحت ضغط وتأثير عمليات المقاومة الجزائرية النوعية التي أوجعت المحتل الفرنسي وحلفاءه، اذ كان للكتلة الحرجة في فرنسا دور أساسي وفاعل في الضغط على الحكومة الفرنسية في تغيير أدوات تعاملها مع الثورة الجزائرية وضرورة إنهاء الاحتلال الفرنسي للجزائر.
إن الكفاح ضد الاحتلال، والذي تخوضه الشعوب المحتلة، يرتكز على الكثير من الأدوات المساندة والداعمة في حالة ثورية مستمرة حتى تحقيق المصير والتحرر، وتلعب الكثير من العوامل دورا هاما في نجاح الحالات الثورية في تحقيق الاستقلال وطرد المحتلين. تتمثل تلك الأدوات في عوامل داخلية وعوامل خارجية. يأتي الموقف الدولي وتحريك الرأي العام ضد الاحتلال من اهم هذه الأدوات المساندة، ويأتي موقف الراي العام في دولة الاحتلال نفسها كدور فاعل مؤثر على سياسة الحكومة في استمرار الاحتلال أو الانسحاب ومنح الشعوب المحتلة حق تقرير مصيرها.
فالعلاقة ما بين تشكل الكتلة الحرجة الضاغطة على الحكومة والنظام السياسي في النظام الكولونيالي الإحلالي وبين تصاعد الحالة الثورية الكفاحية ضد الاحتلال هي علاقة طردية، فكلما اشتدت ظاهرة النضال والكفاح المسلح او السياسي ضد المحتل، كلما ضغطت الكتلة الحرجة على النظام السياسي للتراجع عن سياساته في الأراضي المحتلة نحو التراجع والانسحاب، فمع تصاعد أعداد الضحايا في الجيش الأمريكي في حرب فيتنام تصاعد الضغط الشعبي في الشارع الأمريكي على الحكومة الأمريكية وتجلت الكتلة الحرجة بكل مكوناتها بالضغط على الحكومة الأمريكية للانسحاب من فيتنام، وكان هذا مؤشر على العلاقة الطردية ما بين الكتلة الحرجة وتصاعد ظاهرة الكفاح ضد الاحتلال.
وفي المقابل فان الكتلة الحرجة بكل مكوناتها الداعمة والراعية للاحتلال تنمو وتتمدد في ظل حالة الجمود والفتور في العلاقة ما بين دولة الاحتلال والشعوب المحتلة، ففي الوقت الذي يعم فيه الهدوء والرخاء والاستقرار فان الكتلة الحرجة الداعمة لسياسات حكومة الاحتلال تسيطر على المشهد السياسي وتنفذ سياساتها بكل عدوانية وبدعم شعبي وجماهيري من القوى المؤيدة والداعمة لها، وفي نفس الوقت تتقلص وتختفي الكتلة الحرجة المناهضة للاحتلال، اذ تتجلي هذه الكتلة الحرجة في إسرائيل كدولة احتلال وتحظى الحكومة اليمينة المتطرفة بغطاء شعبي وأغلبية برلمانية داعمه لها رغم كل السياسات والإجراءات التي تتخذها والتي تتنافى مع القيم الديمقراطية وتنتهك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
إن حالة الرخاء والازدهار والاستقرار الذي تنعم بها إسرائيل كدولة احتلال منذ العام 1993م هي حالة مميزة سيطر فيها اليمين الإسرائيلي على مقاليد الحكم والسلطة، إذ يوصف الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بانه ارخص احتلال في التاريخ واحتلال بلا ثمن، ولم يتحمل الاحتلال أي مسؤولية إدارية أو مدنية عن سكان الأراضي المحتلة، وتحللت إسرائيل كدولة قائمة بالاحتلال من كافة مسؤولياتها بموجب القانون الدولية عن رعاية شؤون وتوفير الخدمات المدنية والإدارية لسكان الأراضي المحتلة، حتى بلغ بها الأمر في الحكومة اليمينة الحالية بإطلاق ما يعرف بالإصلاحات القضائية لتعزيز سيطرة اليمين الديني واليمين المتطرف على مقاليد السلطة في إسرائيل، واتخاذ المزيد من الإجراءات الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتوسيع جرائمها وخاصة في الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والترحيل القسري للسكان وعمليات القتل والإعدام بحق الفلسطينيين.