ابتزاز روسي أم تهديد حقيقي؟
لماذا يحتاج لوكاشينكو إلى أسلحة نووية؟
د. سعيد سلام – مدير مركز “فيجن” للدراسات الاستراتيجية
28/3/2023
يبدو التهديد بتسليح لوكاشينكو بقنبلة نووية أشبه بخطوة يائسة.
دعت أوكرانيا دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي إلى تحذير بيلاروسيا من العواقب الكارثية التي تنتظرها إذا نشرت أسلحة نووية روسية على أراضيها.
كما أكد رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين في وقت سابق، فإن مينسك لن تحصل على السيطرة على الرؤوس النووية، وبالتالي فإن نقل الأسلحة النووية إلى بيلاروسيا لا يتعارض مع نظام منع انتشار الأسلحة النووية. ولكن كانت مينسك هي التي قامت بدور البادئ – حيث زُعم أن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو قدم بنفسه طلبًا لنشرها إلى الرئيس الروسي.
وفقًا لحاكم الكرملين، حاليا، تم فعليا تعديل 10 طائرات عسكرية بيلاروسية لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية، وبحلول 1 يوليو، سيتم الانتهاء من بناء منشأة تخزين لأنظمة صواريخ إسكندر المجهزة برؤوس نووية.
لماذا يريد لوكاشينكو استعادة السلاح النووي وماذا وراء تهديدات بوتين؟
كيف كان “الدرع النووي” البيلاروسي؟
تلقت بيلاروسيا أسلحة نووية في الستينيات، كجزء من الاتحاد السوفيتي. كانت هناك ثلاثة مقار للقوات الصاروخية للقوات الخاصة في الجمهورية السوفييتية – في ليدا وبروجاني وموزير. كانت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات ذات الرؤوس النووية موجودة داخل دائرة، نصف قطرها عدة عشرات من الكيلومترات، من مقرات القيادة العسكرية. يصل مثل هذا الصاروخ إلى أي مكان في العالم في أربعين دقيقة.
في البداية، تم الاحتفاظ بالصواريخ في مخازن خاصة، لكنها كانت عرضة لهجمات العدو. لجعل القنبلة الذرية متحركة، تم تطوير منصات إطلاق خاصة منصوبة على هيكل، والتي بمساعدة جرارات الجيش، تم نقلها بشكل مستمر من مكان إلى آخر، من حظيرة خرسانية إلى أخرى (كان سمك الجدار الخرساني في الحظيرة يبلغ مترًا ونصف المتر).
منذ منتصف السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، كانت الصواريخ متوسطة المدى – RSD-10 (“الرواد”)، الموجهة إلى أوروبا الغربية، موجودة أيضًا في جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية. في وقت انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت بيلاروسيا هي الدولة الثامنة في العالم من حيث مخزون الأسلحة النووية بإجمالي عدد من الرؤوس الحربية يبلغ 1120 قطعة. خدم “الدرع النووي” للبلاد حوالي 40 ألف شخص.
لم يكن لدى قيادة الجمهورية البيلاروسية الامكانية لتفعيل آلية الإطلاق بنفسها – تأتي الإشارة من الكرملين، من “الحقيبة النووية” سيئة السمعة. بتعبير أدق، من بين ثلاثة في نفس الوقت، كانت مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي (في الأشهر الأخيرة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، بدأ هذا المنصب يطلق عليه الكلمة “الرئيس” المألوفة للغالبية العظمى الان)، ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة. في القاعدة نفسها، كان على العديد من الأشخاص أيضًا وضع الأسلحة النووية في حالة تأهب في نفس الوقت، وكل منهم يعرف فقط الجزء الخاص به من العملية.
سباق نزع السلاح
بدأت جمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفييتية التخلص من الأسلحة النووية في عام 1987 – بعد أن وقع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية معاهدة القضاء على الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى. بعد ذلك، تم تدمير جميع الصواريخ التي يتراوح مداها من 500 إلى 5500 كم المتواجدة في بيلاروسيا. تم تفكيك آخرها في 23 مايو 1990.
وبعد حصولها على الاستقلال، أصبحت بيلاروسيا الدولة الأولى – إلى جانب جنوب إفريقيا وكازاخستان وأوكرانيا (بالمناسبة، كانت معظم القنابل الذرية السوفييتية مركزة في أوكرانيا)، والتي تخلت طواعية عن ترسانتها النووية. انضمت الجمهورية رسميًا إلى معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية في يوليو 1993، عندما كان ستانيسلاف شوشكيفيتش على رأس بيلاروسيا.
كان هذا بسبب عدد من الأسباب.
أولاً، بعد كارثة تشيرنوبيل، التي أظهرت بوضوح خطر التلوث الإشعاعي للبيئة وعواقب المرض الإشعاعي، نشأ موقف سلبي مستمر تجاه التقنيات النووية في حد ذاتها في المجتمع. لذلك في إعلان سيادة دولة بيلاروسيا، التي عانت أيضًا من حادث تشيرنوبيل، تم توضيح الرغبة في كون الدولة خالية من الأسلحة النووية منذ البداية.
بدورها، أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على بقاء عدد الدول المشاركة ضمن ما يسمى “النادي النووي” دون تغيير، لذلك يجب ان تصبح الترسانة النووية للاتحاد السوفيتي من نصيب روسيا. خصصت الولايات المتحدة 250 مليون دولار لنزع السلاح النووي.
سبب آخر كان اقتصاديًا. بحلول بداية التسعينيات، أصبحت أنظمة الأمن والإنذار، وتكييف الهواء، وأنظمة المرافق في المستودعات والعديد من المعدات الأخرى بحاجة إلى الاستبدال أو التحديث، لكن الجمهورية الفتية لم يكن لديها المال لذلك. الأسلحة النووية نفسها تتطلب أيضا الصيانة والتخلص منها عندما تنتهي مدة صلاحيتها.
من الغريب أنه عندما أصبح ألكسندر لوكاشينكو رئيسًا لبيلاروسيا في عام 1994، حاول التراجع عن عملية نزع السلاح، ولكن دون نجاح كبير. في 27 نوفمبر 1996، غادر آخر صاروخ باليستي عابر للقارات برأس نووي RS-12M Topol من بيلاروسيا إلى روسيا.
ابتزاز أوروبا الغربية
كان لوكاشينكو يأسف طوال هذه السنوات لأن الجمهورية اضطرت إلى التخلي عن الأسلحة النووية. وقال في أبريل 2010: “أعتقد أن سحب الأسلحة النووية من بيلاروسيا بتلك الشروط، كما فعل القوميين، كان خطأ فادحًا”. كان يعني أنه بدون “عصا نووية” ستكون بيلاروس في وضع التبعية.
في ديسمبر 2021، قرر لوكاشينكو تكريس الوضع النووي لبيلاروسيا في الدستور. أوضح وزير الخارجية البيلاروسي فلاديمير ماكي لماذا، اذ قال إن “هذا أحد الردود المحتملة على الإجراءات المستقبلية المحتملة لحلف شمال الأطلسي على أراضي بولندا”.
والآن أعلن بوتين عن نيته إعادة الأسلحة النووية إلى بيلاروسيا.
يبدو أنها نية مزعجة للغاية. دعت وزارتا خارجية بولندا وليتوانيا، وهما دولتان أوروبيتان تدركان أنهما في حالة تصعيد النزاع، سيكونان الضحية التالية للغزو الروسي، إلى زيادة العقوبات ضد روسيا. يتكرر نفس الوضع في زمن الحرب الباردة، عندما كانت الصواريخ في بيلاروسيا تستهدف أوروبا الغربية.
في الوقت نفسه، كان رد فعل أمريكا أكثر هدوءً. يعتقد المعهد الأمريكي لدراسة الحرب أن تصريح بوتين هو مجرد “عملية إعلامية أخرى”، واستمرارًا لأساليب الابتزاز النووي لأوروبا الغربية من أجل فرض تقليص المساعدة العسكرية لأوكرانيا.
وترى واشنطن أيضًا أن بوتين مخادع. اذ قال جون كيربي منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي لشبكة CNN: “لم نر أي مؤشر على أنه أوفى بهذا الوعد أو نقل أي أسلحة نووية”.
من ناحيتها عارضت بكين بشكل أساسي خطط الكرملين، ويتضح هذا الامر من البيان الذي أدلت به ممثلة وزارة الشؤون الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، ماونينغ، ردًا على سؤال من مراسل أجنبي، إذ أشارت إلى أنه في يناير من العام الماضي، أصدرت الدول الخمس التي تمتلك أسلحة نووية بيانًا مشتركًا أكدت فيه على انه “لا يمكن أن يكون هناك رابحون في حرب نووية، وبالتالي يجب تجنب الحروب بين القوى النووية وتقليل المخاطر الاستراتيجية”.
كما نرى، لا يوجد أي تلميح من قريب او بعيد على موافقة الصين على نقل أسلحة نووية الى بيلاروسيا. وفي الترجمة من اللغة الدبلوماسية، مثل هذه الصياغة تعني شيئًا واحدًا فقط، الصين غير راضية تمامًا عن تصريحات الرئيس بوتين
هذا الموقف هو أكثر وضوحا في سياق حقيقة انه خلال زيارة الزعيم الصيني شي جين بينغ إلى موسكو منذ أسبوع، وقع الطرفان على بيان مشترك دعت فيه روسيا والصين جميع دول العالم إلى عدم وضع أسلحة نووية خارج أراضيها وسحبها من الخارج. لذا من غير المستغرب عدم رضا الصين على هذا الإعلان بالذات الذي تم قبل ان يجف حبر الاتفاقية الموقعه.
أيضا صرح طارق رؤوف، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية لمنع انتشار الأسلحة النووية، في مقابلة مع بلومبرغ أن تصريح بوتين يلقي بظلال من الشك على نتائج اجتماعه مع شي جين بينغ.
والحقيقة هي أنه في العام الماضي، أفادت الصحافة الغربية عن اتفاق غير معلن بين الولايات المتحدة الصين، والذي بموجبه، سوف تظهر واشنطن نوعًا من ضبط النفس في تزويد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة مثل الطائرات المقاتلة في مقابل ضغط بكين على بوتين بكل طريقة ممكنة حتى ينسى التصعيد النووي في أوكرانيا.
في ذلك الوقت، تم استقبال هذه التسريبات بتشكك. ومع ذلك، في تلك الأيام، في اجتماع مع المستشار الألماني أولاف شولتز في بكين، تم الإعلان صراحة أن المجتمع الدولي بحاجة إلى منع “الأزمة النووية في القارة الأوروبية الآسيوية”.
كما نرى، لم يمنح الرئيس الأمريكي جو بايدن الضوء الأخضر بعد للبنتاغون أو للحلفاء الاخرين لتزويد أوكرانيا بطائرات F-16 التي تحتاجها بشدة، وأيضا الصين لم تخون نفسها.
يمكن بالطبع أن يطلق على النظام الصيني استبداديًا ومعاديًا للغرب ومعادًا للعالم المتحضر بأسره. ومع ذلك، بالتأكيد لا يمكن الشك أنه ينتهك على الأقل تلك الاتفاقيات التي تم بموجبها وضع توقيعهم، و التي يكون ثمنها دماء غزيرة.
بالطبع، هم يمتثلون لهذه الاتفاقيات لأنهم يفهمون تمامًا اللحظة التالية لانتهاك هذه الاتفاقية مع الولايات المتحدة. في حال وجودها، سيفتح لأوكرانيا آخر بوابات الأسلحة الأمريكية المتقدمة التي لا تزال مغلقة. وهذا سيعني أن روسيا ستعاني من هزيمة أسرع وأكثر تدميراً بكثير في ساحة المعركة مما لو لم يتم توفير هذه الأسلحة لأوكرانيا ، مثل صواريخ “اتاكامس” بمدى 300 كيلومتر، وطائرات بدون طيار هجومية من طراز “بيبر”، وطائرات مقاتلة مثل الموجودة لدى حلف شمال الأطلسي، وأيضًا العديد من الأسلحة التي تستطيع هذه الطائرات حملها، كل هذه الأدوات ستسمح لأوكرانيا بتحرير أراضيها من القوات الروسية بعدد أقل من الضحايا بالنسبة لهم، وسوف تكون هناك خسائر فظيعة بالقوات الروسية أكثر بكثير من الخسائر التي يتم إلحاقها بهم الآن ، وستكون هذه هي النتيجة إذا تخلت الصين ببساطة عن التزاماتها بالضغط على بوتين عند كل ذكر للقنبلة الذرية، ولكن أكثر من ذلك القيادة الصينية خائفة من وضع لن يكون فيه مجرد نوع من الضجيج حول هذه القنبلة النووية كيف يحدث الآن من الجانب الروسي. ان خطر انفجار أي قنبلة نووية تكتيكية على الأراضي الأوكرانية كاف لشي جين بينغ من اجل الضغط على بوتين. انهم يفهمون معنى التحذيرات الكثيرة والمتكررة من قبل الغرب بـ “العواقب الخطيرة” في حال انتقال روسيا من استخدام السلاح التقليدي الى استخدام أسلحة الدمار الشامل. بدءا من فرض عقوبات ثانوية على كل الدول التي تدعم النظام الروسي او تتعامل معه اقتصاديا، مما يعني توقف شراء الصين لموارد الطاقة الرخيصة من روسيا، وحدوث تراجع في الاقتصاد العالمي، و بالتالي اقتصاد الصين، الذي يعاني بشدة خلال الأعوام الأربع الأخيرة بسبب جائحة كوفيد-19 و ازمة التضخم العالمية و ازمة الديون العقارية التي فاقت نحو 3 تريليون دولار، ووصولا الى تدخل الناتو عسكريا لضرب الجيش الروسي و اسقاط النظام الروسي الحالي.
في الختام يمكن القول ان السبب الرئيسي وراء رافع سقف المخاطر النووية من قبل الكرملين هو عدم قدرته على هزيمة أوكرانيا في ساحة المعركة في حرب تقليدية. لكن من الواضح بالفعل أن الابتزاز الروسي قد فشل – ولن يؤدي تهديد بوتين الجديد إلا إلى زيادة عزلة روسيا الدولية. يبدو التهديد بتسليح لوكاشينكو بقنابل نووية أشبه ببادرة يأس على خلفية الإخفاقات في الجبهة والمفاوضات مع جمهورية الصين الشعبية، والتي، على ما يبدو، لم تؤد إلى مساعدة عسكرية للكرملين. ويستحق الابتزاز النووي الروسي رد فعل قوي من المجتمع الدولي، وترى أوكرانيا ان مجلس الأمن الدولي يجب أن ينظر في هذه القضية.