استراتيجية بوتن “العظيمة” تضع أرمينيا على درب أوكرانيا

استراتيجية بوتن “العظيمة” تضع أرمينيا على درب أوكرانيا

عبد الرحمن الشامي

14/9/2023

على عكس ما يقوله مؤيدي فلاديمير بوتن بأن الحروب في جورجيا وأوكرانيا فُرضَت على روسيا فأن العكس هو الصحيح!

ان سياسة بوتن المتهورة والقائمة على التهديد المباشر بدل من التعاون السياسي والاستراتيجي! وسياسة الابتزاز بدل من المنفعة المتبادلة وان نجحت في ان تؤتي بعض الثمار على المدى القصير الا انها شكلت كوارث استراتيجية على المدى المتوسط والطويل!
ان اغلب الدول الكبرى قادرة على الدخول في نزاعات مسلحة وقادرة على ان تعمل بسياسة “القبضة الحديدية” مع جيرانها وشركائها لكن اغلب السياسيين يعلمون ان التلويح بالقوة بشكل دائم يفقد هذا السلاح قوته وان السياسة كعلم مبني على إيجاد احلاف قائمة على منفعة متبادلة وان الاحلاف القائمة على المنفعة المتبادلة أطول عمراً من تلك التي تقوم على “القبضة الحديدية” وهذا هو السبب المباشر لماذا أي خطر يهدد الفدرالية الروسية بالانهيار بينما اتحادات مثل الاتحاد الأوربي او الولايات المتحدة على العكس تزداد قوة لكثرة المتطلعين الى الانخراط في هذه الأنواع من الاتحادات لتحصيل النفع.
فرص ضائعة
المقدمة أعلاه هي لفهم ما خسره الروس بسبب قصر النظر مما أدى سابقاً لانهيار الاتحاد السوفيتي من جهة وحلف وارسو من جهة أخرى، وبدل من أخذ العبر فأن بوتن يؤكد على انه متمسك بسياسة “القبضة الحديدة” ولربما لسبب واضح انه كحاكم دكتاتور يهمه ان يظهر امام شعبه بمظهر القوي أكثر بكثير من مظهر السياسي المحنك! من هنا ضيع بوتن على نفسه فرصاً كبيرة مثل فرصة دخول دول البلطيق الى أوربا وحلف الناتو! فعلى الرغم من تأثير القوة الروسية الناعمة في تلك الدول وحتى بولندا بدل من الاستفادة من ذلك فأن التهديد المستمر لهذه الدول جعل شعوبها تنفر من كل ما هو روسي وتتجه بقوة لأعداء روسيا للتحالف معهم خوفا من ان يتحقق تهديد الروس يوما من الأيام.
تكرر الامر مع مولدوفا وجورجيا وأوكرانيا اذ انه بدل من القيام بعلاقات سياسية وطيدة تجعل هذه الدول تدور في الفلك الروسي بمحض ارادتها، كانت سياسة التهديد حاضرة وبقوة ناهيك عن التدخلات السياسية والإعلامية الرعناء في هذه الدول والخطاب الروسي الرسمي والإعلامي الذي لا يحترم لا استقلال ولا سيادة تلك الدول مما يجعلها تشعر بالخطر الدائم وصولا الى تدخلات عسكرية مباشرة في تلك الدول وصلت ذروتها بمحاولة الروس احتلال أوكرانيا بشكل نهائي! لتحويل أوكرانيا على سبيل المثال من دولة شعبها بأغلبيته غير مهتم بالانضمام الى الناتو كما كان الحال عام 2008 الى شعب يحاول بكل قوته الدخول في الناتو بعد غزو 2022
ناهيك عن الحديث عن الدول الجارة لروسيا والتي لم تكن تدور لا في الفلك الروسي ولا الغربي وكانت أقرب للحياد فأن سياسة الروس دفعت تلك الدول دفعا الى الناتو خوفا من التغول الروسي كحال فنلندا والسويد!
بل أن الناتو نفسه كمؤسسة لم تكن عدو عسكري لروسيا على عكس ما يصور الاعلام الروسي اليوم! عندما ظهر بوتن على الساحة العالمية كان صديق مقرب من اغلب الزعماء الغربيين! وكان أقرب أصدقاء رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير ناهيك عن اشادة جورج بوش الابن ببوتن شخصيا وقوله ان روسيا وامريكا ليسا أصدقاء فحسب، بل حلفاء! بل ان الأمور وصلت لدرجة المزاح عن انضمام روسيا للناتو.
لم ينتهي الامر بمجرد المزاح، لقد كان لروسيا دور هام في مساعدة الناتو في حربها على الشعب الافغاني بل ان بوتن قال صراحة امام مجلس الدوما الروسي: “ان كان الناتو يحقق المصالح الروسية في أفغانستان فأين المشكلة في مساعدته؟”
اذا حتى الناتو كان جاهزاً للعمل المشترك مع روسيا بل وعمل بشكل كبير مع روسيا, ولربما كان من الممكن اختراقه سياسيا من خلال الدول الشرقية التي انضمت له, اكبر دليل على إمكانية ذلك هو النجاح الروسي من اختراق الناتو والاتحاد الأوربي عبر دول مثل المجر وصربيا,  اذا فأن الروس لو كانوا بالفعل قاموا بسياسات اكثر نفعا للبلطيق وبولندا وأوكرانيا وجورجيا لربما اصبح انضمام تلك الدول للاتحاد الأوربي والناتو امر يجلب المنفعة لروسيا ويقوي تحالفها مع الناتو بتحالف مبني على اختراق روسي لتلك الكيانات من الداخل. لكن بوتن بسياسة شوارع سان بطرسبورغ كما صرح سابقاً لم يرى كل تلك الفرص بل وحول الفرص الى مخاطر وحروب ونزاعات وخسائر له ولجيرانه, واستفادة لخصومه السياسيين مثل الصين وامريكا.
أرمينيا تغير وجهتها
ان الوضع الجغرافي والديني لأرمينيا جعلها في مواجهة الدولة العثمانية والدول المسلمة لعقود طويلة عبر التاريخ وقد اثر هذا بشكل مباشر على احلاف أرمينيا التي كانت دائما تحالف من يحارب خصومها, لذلك برز اسم روسيا كدولة انخرطت في حروب طويلة مع العثمانيين والدول المسلمة مما جعلها عبر التاريخ الحليف المثالي لأرمينيا لتكون أرمينيا دائما حليف صدوق جنباً الى جنب روسيا بسبب حروب أرمينيا مع أذربيجان وتركيا بل وكانت أرمينيا من الأنظمة القليلة الداعمة للدكتاتور بشار الأسد ولنفس الأسباب السابقة.
لهذه الأسباب وغيرها كانت أرمينيا سعيدة جداً عند تشكيل منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تجمعها مع روسيا وبيلاروسيا والدول الاسيوية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي, كانت أرمينيا تظن ان هذه المؤسسة ستضمن أمن أرمينيا من أي تصعيد من أذربيجان خاصة في منطقة كارباخ التي هي محل نزاع طويل جدا بين أرمينيا وأذربيجان لكن ما حصل هو ان روسيا تخلت عن أرمينيا عندما حصل بالفعل التصعيد المذكور انتهى بخسارة كبيرة للأرمن مع فتور كبير وتجاهل من طرف الروس الذين كانوا وقتها يعدون العدة للحرب على أوكرانيا.
أدركت أرمينيا حينها ان الروس تخلوا عنها ولن يكونوا ضماناً للأمن الأرمني خاصة وأن الشعب الأرمني كان بالفعل بدأ يطالب بإصلاحات داخلية اكثر ديمقراطية داخل أرمينيا نفسها والابتعاد عن السياسيين الفاسدين التابعين لروسيا.

مناورات عسكرية ارمينية امريكية مشتركة تثير غضب موسكو

أرمينيا فجأة بدأت تغير من خطابها مع الروس, وباتت تتقرب للغرب كبديل للتواجد الروسي, زوجة رئيس الوزراء الأرمني تزور كييف وتجلب مساعدات إنسانية لضحايا الغزو الروسي على أوكرانيا, تصريحات لرئيس الوزراء الأرمني يتحدث فيها صراحة عن ضعف العلاقات مع روسيا بل وتدريبات عسكرية مشتركة مع أمريكا ودول الناتو. وكأننا نرى نفس القصة التي حصلت مع أوكرانيا في عام 2008 تتكرر بنفس التفصيل مع أرمينيا وبنفس السبب من عدم فهم الروس لمبادئ المنفعة المشتركة في الاحلاف السياسية والعسكرية! لذلك أرمينيا أصبحت ترى صراحة ان منظمة معاهدة الأمن الجماعي أصبحت بلا قيمة وان عليهم البحث عن بدائل مما يعني حتمية التقارب مع الناتو.

للتذكير أرمينيا كما أوكرانيا فيها قاعدة عسكرية روسية! كما ذكر سابقا فأن أوجه التشابه كبيرة لدرجة التطابق.
رد الفعل الروسي يزيد الطين بلة

بدل من ان تكون كل تلك الوقائع درس للروس ان يستفيدوا من أخطائهم ويعدلوا سياساتهم فأن الروس يستنسخون الخطأ بحذافيره! رد الفعل الروسي كان بالتهديد والوعيد لأرمينيا ودفع أبواق النظام الروسي في الاعلام للإساءة للأرمن وتهديد وجودهم وتذكيرهم انهم كانوا جزء من امبراطورية الاتحاد السوفيتي وأن هذا الوضع ممكن بسهولة ان يتكرر. نفس سيناريو 2008 مع أوكرانيا وقبله جورجيا وكأن التاريخ يقول لنا ان لو خرجت روسيا وفيها قوة بعد الحرب مع أوكرانيا فأن أرمينيا لربما تكون الدولة التالية، ما يزيد الطين بلة هو أن أرمينيا ليست وحيدة وأن دول مثل كازاخستان ومولدوفا أيضا يبتعدون أكثر فأكثر عن روسيا وأن الروس بدل من الاستثمار في تلك الدول ومنحها منافع لتبقى دور في الفلك الروسي ردة الفعل كانت بالتهديد والوعيد مما جعل الكثير من الشعب في تلك الدولتين بدأ يفهم الخطر الروسي على استقلالهم بل ووجودهم.

الرئيسين الروسي و الارميني تحت مظلة واحدة

روسيا أقوى دون حلفاء؟ من المسؤول؟

يصر الاعلام الروسي التابع لبوتن على التهديد وسخرية السياسيين والإعلاميين من الدول المجاورة على مواقفهم من حرب الروس على الأوكران بل ويردد الاعلام كل يوم أن روسيا قادرة على الاستغناء عن هؤلاء الدول كحلفاء وانها قادرة على حل المشاكل بقوة السلاح ان امكن وانهم أي الروس ان كان أجدادهم وصلوا لبرلين فهذا يعني أن الاحفاد قادرين للوصول الى أي بقعة في العالم على ظهر الدبابة وان روسيا دولة قادرة على الانتصار على العزلة السياسية وان مثل هذه العزلة ستدفع الروس الى العمل على الاستقلال الاقتصادي, لكن هل هذه الصورة صحيحة؟ هل الروس الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية بالجندي الاوكراني والكازاخي وبالسلاح والدعم الأمريكي والذين فشلوا في “احتلال كييف في 3 أيام” والذين احتاجوا الى 8 أشهر و20 ألف قتلى من فاغنر لاحتلال بلدة صغيرة بحجم باخموت، هل هم بالفعل قادرين على فتح كل تلك الجبهات في وقت واحد؟ هل هم قادرين على تحقيق التهديدات التي نسمعها كل يوم في الاعلام الروسي؟ وان دخلوا تلك الحروب من سيقف معهم في تلك الحروب ان كانت اغلب الدول التي كانت تدور في الفلك الروسي أصبحت تهرب من روسيا بسبب سياستها العدائية! ليصبح السؤال الأهم هو من المسؤول عما وصل له حال السياسة الخارجية الروسية؟ ومتى يفهم الروس أخيراً ان العداء لروسيا المتصاعد في العالم ليس لأن العالم كله أصبح على خطأ بل لأن “السياسة الحكيمة” للكريملين والقائمة على عدم احترام الاخرين ستوصل بالضرورة لواقع الروس اليوم من خسارة اغلب حلفاء الأمس وتحويل الأخ والجار والصديق الى عدو.

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *