الإرهاب في القوقاز الروسي… جذور الأزمة وتدحرج كرة الثلج
إعادة ترتيب الصف في “الخاصرة الضعيفة“
سامر إلياس
12\7\2024
أججت الهجمات الإرهابية الأخيرة في داغستان مخاوف انزلاق جمهوريات شمال القوقاز الروسي إلى دائرة العنف من جديد. ورغم تقليل المسؤولين الروس من إمكانية عودة النشاط الإرهابي إلى ما كان عليه في بداية الألفية الحالية لأن “روسيا مختلفة الآن”، فقد بدا أن الجماعات الإرهابية أعادت ترتيب صفوفها في “خاصرة روسيا الضعيفة” في شمال القوقاز، مستغلة انشغال موسكو وأجهزة الاستخبارات والأمن في الحرب ضد أوكرانيا والتحالف الغربي، إضافة إلى بيئة تتجمع فيها وصفة قابلة للاشتعال تجمع بين الفقر والبطالة والفساد والجهل بالتعاليم الدينية والمظالم التاريخية.
ويزيد إنكار صف واسع من المسؤولين الروس للوقائع الجديدة على الأرض، وتحميل الاستخبارات الأوكرانية والغربية مسؤولية أي عمل إرهابي، من خطر انتقال الإرهاب إلى المدن الروسية الأخرى، وتقويض أسس الأمن والاستقرار في نظام بوتين الذي بدأ بإرساء دعائمه منذ نحو ربع قرن بإطلاق حرب الشيشان الثانية (1999 – 2009).
وشكل هجوم داغستان فشلا استخباراتيا ذريعا للأجهزة الأمنية الروسية بعد هجوم “كروكوس سيتي هول” شمال غربي العاصمة موسكو، والذي أودى بحياة أكثر من 145 شخصا. وتكشف تفاصيل هجمات الأحد 23 يونيو/حزيران المتزامنة في العاصمة الداغستانية “محج قلعة”، ومدينة “ديربنت” جنوبي الجمهورية القوقازية، أن الهجمات كانت منسقة وتم الإعداد لها جيدا. وربما تمثل الهجمات الإرهابية الدموية الأخيرة بداية لمرحلة خطيرة ومؤشرا إلى أن “تنظيم الدولة الاسلامية” قرر فتح “جبهة الجهاد القوقازية”، والإعلان المدوي عن تشكيل “ولاية القوقاز” بهدف ضرب المدن الروسية.
وبدأ الحديث في الموارد الإعلامية التابعة لتنظيم “داعش” الإرهابي عن إنشاء “ولاية القوقاز” نهاية مارس/آذار الماضي، بعد وقت قصير من الهجوم الإرهابي في موسكو، الذي أعلنت “ولاية خراسان” الفرع الأفغاني لتنظيم “داعش” مسؤوليتها عنه. وكما درجت العادة، استغل الإرهابيون الهجوم الأكبر على موسكو منذ ربيع 2010، لتجنيد مزيد من الشباب لصالح التنظيمات المتطرفة في روسيا.
ولم يلفت الإعلان عن تنظيم “ولاية القوقاز” الأنظار، بسبب عدم الكشف عن زعيم الولاية وبالتالي مدى خطورة تجاربه الإرهابية وقدرته على جمع المتطرفين، وسادت شكوك حول كيفية تأمين التمويل اللازم لعمل الولاية. وفي المقابل، وفي حال صدق الروايات حول مسؤولية “ولاية القوقاز” في الهجوم الإرهابي فهذا يعني أن التنظيم استطاع ترتيب صفوفه سريعا وبات عنصرا مزعزعا للاستقرار في القوقاز من دون استثناء شن هجمات على المدن الروسية.
تجاهل الأسباب الحقيقية للتطرف يفتح المجال لانزلاق القوقاز الروسي في دائرة العنف
وشنّ الإرهابيون، منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي، هجمات منسقة متزامنة على كنيسين يهوديين وكنيستين أرثوذكسيتين وحاجز للشرطة في “محج قلعة” و “ديربنت”، وفي مقابل تصفية خمسة إرهابيين، سقط 21 شخصا على الأقل بينهم 16 من رجال الأمن، وكاهن مسيحي، وتحولت الشوارع وحتى بعض الشواطئ إلى ساحات معارك بين الإرهابيين ورجال الأمن قرابة ثماني ساعات. وتكشف مقارنة خسائر الطرفين، والأسلحة المستخدمة، إضافة إلى الوقت الذي استغرقته المرحلة النشطة من عملية مكافحة الإرهاب، أن الإرهابيين أعدوا أنفسهم قتاليا ونفسيا وجسديا، ومع تأكيد الأنباء عن تورط ابني زعيم محلي داغستاني وأحد أقربائه في الهجمات، لا يمكن استبعاد تورط عدد أكبر من المسؤولين المحليين أو أفراد عائلاتهم في دعم نشاطات المتطرفين الإسلامويين وتسهيل حصولهم على الأسلحة الحديثة وأماكن التدريب في الجمهورية القوقازية التي لا تتميز فقط بمناظرها الجبلية الخلابة، بل بتنوعها العرقي واللغوي والديني، وأولوية العلاقات الأسرية والعشائرية التي تحتم حيازة كميات كبيرة من الأسلحة، بالإضافة إلى الفساد والمحسوبية.
وفيما تصدرت أنباء هجمات “محج قلعة” و “ديربنت” عناوين الأخبار في العالم، لم تحظ أحداث احتجاز رهائن في مركز احتجاز بمنطقة “رستوف على الدون” جنوبي روسيا باهتمام كبير رغم أنها بعثت بمؤشرات لا لبس فيها إلى نمو مخاطر “داعش”، وفي 16 يونيو الجاري اندلعت انتفاضة دموية في سجن مرتبط بتنظيم “داعش”. واستطاعت القوات الخاصة الروسية إنهاء الأزمة بسرعة، وقتلت ستة سجناء احتجزوا رهائن، ولعب الحظ إلى جانب السلطات الروسية حيث لم يتمكن المتهمون بالانتماء للتنظيمات الإرهابية من الوصول إلى غرفة الأسلحة والاستيلاء على الأسلحة الرشاشة والذخائر، ما سهل مهمة القوات الخاصة.
الحلقة الأضعف في شمال القوقاز
ورغم عدم تبني “ولاية القوقاز” المسؤولية عن الهجمات الإرهابية الأخيرة، وعدم نشر مقاطع فيديو مسجلة للمنفذين توضح غاياتهم وأسباب إقدامهم على الهجمات، فإن الهجمات تفتح مرحلة جديدة من العنف باستخدام داغستان الحلقة الأضعف في شمال القوقاز حاليا. وتوضح البيانات الترحيبية والمشيدة من “ولاية خراسان”، الفرع الأفغاني لتنظيم “داعش”، بما أظهره “الإخوة من القوقاز” أن ولاية خراسان تركز جهودها أكثر على شمال القوقاز وروسيا عبر الرعاية الإعلامية وربما المالية، رغم أن التقارير الاستخباراتية كانت تتوقع هجمات دموية واسعة النطاق في آسيا الوسطى.
وفي المقابل، أظهرت الهجمات الإرهابية في “محج قلعة” و “ديربنت” أن أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية غير جاهزة لمواجهة المخاطر الإرهابية، فالاستخبارات لم تتمكن من الحصول على معلومات عن الهجمات الخطيرة لمنع حصولها، وفي المقابل لم تتخذ الشرطة احتياطات أمنية كافية رغم أن الأعمال الإرهابية تزامنت مع إحياء الكنيسة الأرثوذكسية عيد “العنصرة”، وارتفاع مشاعر الكراهية لإسرائيل بعد أحداث اقتحام مطار “محج قلعة” الدولي في 23 أكتوبر/تشرين الأول حين اقتحم نحو ألف داغستاني المطار ومنعوا ركاب طائرة قادمة من إسرائيل من الهبوط في المطار، ومعلوم أن قرابة 400 عائلة يهودية تعيش في “ديربنت”، وتلعب دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية في داغستان وموسكو.
الهجمات تفتح مرحلة جديدة من العنف باستخدام داغستان الحلقة الأضعف في شمال القوقاز حاليا
وسارع معظم المسؤولين الروس إلى اتهام أوكرانيا والغرب بالمسؤولية عن العملية، ونفوا وجود أسباب دينية أو بوادر تطرف إسلاموي في داغستان.
ولا يرى الكرملين أن الأحداث الدامية في جمهورية داغستان تمثل مخاطر كبيرة يمكن أن تنزلق بالبلاد مرة أخرى إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في إشارة إلى حرب الشيشان الثانية وما رافقها من هجمات إرهابية شنيعة مثل أزمة الرهائن في نورد أوست عام 2002 وحصار مدرسة بيسلان عام 2004، وتفجيرات المترو في موسكو.
وتعليقا على العملية الإرهابية، قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن “المجتمع متماسك بقوة، والأعمال الإرهابية الإجرامية مثل تلك التي رأيناها في داغستان بالأمس لا تحظى بدعم المجتمع في روسيا أو داغستان”. ولا تبتعد تصريحات بيسكوف عن قناعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي فضل هذه المرة عدم التطرق لموضوع هجمات داغستان، والتي عبر عنها بعد هجمات “كروكوس سيتي” في موسكو وحمّل فيها أوكرانيا مسؤولية الهجوم. وشدد على أن “روسيا لا يمكن أن تكون هدفا للهجمات الإرهابية التي ينفذها الأصوليون الإسلاميون”، لأنها “تقدم مثالا، فريدا من نوعه، على الانسجام بين العقائد وكذلك الوحدة بين العرقيات والأديان المختلفة”.
تدحرج كرة الثلج
في المقابل، حذر باحثون مستقلون منذ فترة طويلة من نمو خطر الجماعات المسلحة المتطرفة مثل “داعش” التي تتمتع بمستويات متزايدة من الدعم بين الشباب في جميع أنحاء شمال القوقاز، ومن ضمنها داغستان. وبعيدا عن توجيه أصابع الاتهام للغرب و”الطابور الخامس” تتجاهل السلطات الروسية وجود مشكلة أساسا، في حين تكشف الأحداث الأخيرة أن الحكومة فشلت في معالجة الأسباب الكامنة وراء تطرف الشباب في شمال القوقاز، والتي ترتبط إضافة إلى الأوضاع المعيشية الحالية بالمظالم التاريخية لشعوب القوقاز في الحقبتين الإمبراطورية الروسية والسوفياتية. ويضاف إلى الأسباب السابقة ارتفاع مشاعر كراهية الأجانب وكراهية الإسلام التي ترتفع في جميع أنحاء البلاد، ما يفسر مشاركة أبناء مسؤول بارز في الحكومة المحلية وحزب “روسيا الموحدة” الحاكم وأقاربه في الهجوم رغم توفر التعليم، والمال، والفرص، والمهن لهم.
وشهدت منطقة شمال القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفياتي اضطرابات متزايدة، وتسببت في صداع مزمن للسلطة المركزية في موسكو مع بروز الحركات الانفصالية والتطرف. وانتقل النشاط الإرهابي إلى داخل روسيا.
وكانت سلسلة من تفجيرات المباني السكنية في موسكو صيف 1999، وغزو مجموعات مسلحة بقيادة شاميل باسييف وخطاب، وإعلان “ولاية إسلامية”، سببا في حرب الشيشان الثانية.
وفي عام 2002، استولى مسلحون شيشان على مسرح دوبروفكا جنوب شرقي موسكو، واحتجزوا نحو 750 شخصا كرهائن. ولقي أكثر من 100 من المحتجزين حتفهم بسبب الغازات السامة المستخدمة لمداهمة المكان من قبل قوات الأمن. بعد ذلك بعامين، نفذ مسلحون شيشان هجوما مماثلا على مدرسة في بيسلان، في القوقاز، وأسروا أكثر من 1000 شخص. وتوفي أكثر من 300 منهم عندما اقتحمت السلطات المبنى. ولم ينكر الأشخاص المسؤولون عن الهجمات الإرهابية ارتباطهم بحركات “الجهاد العالمية”.
ودفع القمع الوحشي الذي مارسته روسيا ضد الانفصاليين الشيشان وسياسة الأرض المحروقة، في الحربين الأولى والثانية، بعض المسلمين في المنطقة إلى التطرف. ورغم أن روسيا استفادت من اندلاع الاحتجاجات ضد الرئيس السوري بشار الأسد وتحولها إلى حرب، وربما سهلت حسب تحقيقات وكالة “رويترز” سفر مئات المتطرفين من القوقاز إلى سوريا، فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا ساهم في زيادة التطرف، وساعد التنظيمات الإرهابية على تجنيد الآلاف في القوقاز وبلدان آسيا الوسطى التي يستطيع مواطنوها دخول روسيا من دون تأشيرات. وفي يونيو 2015، تم الإعلان عن أن محافظة داغستان تابعة لـ “الدولة الإسلامية” على وسائل التواصل الاجتماعي، وحينها هدد الأئمة الناطقون بالروسية روسيا.
دفع القمع الوحشي الذي مارسته روسيا ضد الانفصاليين الشيشان وسياسة الأرض المحروقة، بعض المسلمين في المنطقة إلى التطرف
وفي 18 فبراير/شباط 2018، في كيزليار- داغستان، فتح المتشدد خليل خليلوف البالغ من العمر 22 عاما النار على أشخاص يغادرون كنيسة أبرشية الشهيد العظيم جورج المنتصر إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في كيزليار بعد خدمة قيامة الغفران. وتسبب الهجوم في مقتل خمسة أشخاص وقتل المهاجم.
ووقعت أخطر هذه الحوادث في مارس/آذار من هذا العام. وأعلن تنظيم “الدولة الإسلامية ولاية خراسان”، مسؤوليته، وصولا إلى هجوم الأحد الماضي في “ديربنت” و “محج قلعة”.
وفي حين سارع المسؤولون الروس كما في المرات السابقة إلى وصفات سهلة أساسها تحويل الغضب الشعبي نحو أوكرانيا والغرب بتحميلهم المسؤولية عن الأعمال الإرهابية، للتغطية على تقصيرهم وانشغالهم بالحرب في أوكرانيا، يبدو أن عدم إيجاد الحلول الناجعة يمكن أن يتسبب في زيادة الشرخ المجتمعي في شمال القوقاز، ورفع مستويات الغضب مما ينذر بانفجارات شديدة، في وقت تركز فيه روسيا على حربها في أوكرانيا.
وفي ظل إصرار المسؤولين الروس تحميل المسؤولية التحالف الغربي وتجاهل الأسباب الحقيقية للإرهاب فإن خطر تسلل الإرهابيين من داغستان إلى باقي المناطق في ارتفاع، وربما تلعب الحملة المنظمة على “العمال المهاجرين” من آسيا الوسطى التي يقودها مسؤولون مقربون من الرئيس بوتين مثل رئيس لجنة التحقيق الروسية ألكسندر باستريكين في صبّ الزيت على النار، والتي تزيد من الكراهية المتصاعدة للمسلمين في روسيا بعد أحداث “كروكوس سيتي” ربيع العام الحالي، ما يمنح التنظيمات الإرهابية في آسيا الوسطى والقوقاز فرصة ذهبية لكسب مزيد من الشباب الغاضبين والمهمشين إلى صفوفها، مما قد يشكل “أزمة وجودية” لروسيا التي طالما تغنت بتعايش القوميات والأديان.