الزمان والمكان في رواية ما تبقى لكم للشهيد غسان كنفاني
حاتم استانبولي – كاتب صحفي من فلسطين
18/7/2023
ما تبقى لكم رواية كتبها الشهيد غسان كنفاني عام ١٩٦٦ يختصر فيها الانقلاب في الحالة الاجتماعية التي نتجت عن جريمة النكبة من خلال خمس شخصيات حامد وزكريا ومريم والساعة والصحراء ووردت ثلاث شخصيات لم يعطِ لها أسماء الأم والخالة والجندي بالإضافة إلى شخصية سالم العابرة، وتمحورت الرواية حول تشريع العلاقة بين مريم وزكريا التي أنتجت جنينا أُرغم حامد على تقبل النتن (زكريا) زوجا لأخته مريم، بمعجل عشرة جنيهات ومؤخر جنين في بطن مريم والمعجل والمؤخر مقبوضان سلفا. أما الساعة والصحراء فهما يرمزان للزمان والمكان في لوحة التلاقي والفراق والاستحضار والتغييب لِمجموعة الأفكار والأحداث بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يرسم الشهيد غسان لوحته بألوانها المتشابكة والمتصارعة بين تقبل الهروب من فكرة العار، أو مواجهتها، أو قتلها في سياق سيطر على الرواية فكرة الموت المرتبطة بالزمان باختلاف المكان. لقد شبه الساعة بالتابوت الصغير الذي علقها حامد وحرك بندولِها في إعلانٍ لِبدء زمنٍ جديد بمكانٍ جديد يَحمِلُ فكرة العار التي فرضت عليه الهروب في محاولة للقاء أمه.
الرواية تمحورت حول مشهد رحلة الضياع والهروب من فكرة العار التي تخللها حالة المواجهة بين حامد والجندي ومشهد زكريا ومريم الذي سيطرت عليها فكرة العار ومحوه. المشهدين في مكانين يجمعهم عامل الزمن في إطار المجابهة المباشرة بين ملكية الزمان والمكان، حيث أشار حامد للجندي أن المكان يلعب لصالحه، أما الزمان فهو يلعب لصالح الجندي الذي كان ينتظر وصول من ينجده وبذات الوقت بخطوط أشعة الشمس كان يرسم غسان مشهد مريم وزكريا الذي طلب من مريم قتل جنينها ونَعَتها بألفاظ (عاهرة والقواد الصغير في إشارة للجنين) لم تستطع أن تتحملها ولمعت في عينيها نصل السكين الذي أطلقته في عانة زكريا (مثانته في إشارة رمزية لرجولته)، هذا المكان الذي كان يرمز إلى عارها الذي لم تتقبله وبذلك فقد ملكت مريم الزمان والمكان وجنينها (المستقبل).
السكين هي العامل المشترك الذي غسل عار مريم وبذات الوقت حَسَمَ أفضلية المكان لصالح حامد، هذا المكان الصحراوي الذي كانت فيه المجابهة بين حامد والجندي تميل لصالح الجندي الممتلك للسلاح، ولكن المكان والتصاق حامد به وفر له عامل المفاجأة الذي قلب المعادلة لصالح حامد الذي سيطر على الجندي وسلاحه وأصبح يملك السيطرة على المكان، ولكنه كان مدركا أن الزمان ليس لصالحه، وأن اللحظة التي سيخسر فيها السيطرة على المكان حتما سينهي حياة الجندي الذي كان ينظر إلى انعكاس أشعة الشمس على نصل السكين الذي كان يُصدر أنينا عندما يمرره حامد على حذائه.
موت زكريا ترافق مع نباح الكلاب المسعور عبر نافذة المطبخ التي مررت الخيوط الأولى لأشعة الشمس الصباحية، في إشارة إلى بداية زمن جديد لمريم وجنينها التي تخلصت من ثنائية العار العمالة التي كان يحملها زكريا، والتي أوقف تفتحها شجاعة سالم الذي أعدم على مسمع الرجال في المعسكر الذي كان حامدا أحدهم ورأى حين تقدم زكريا مستجديا الحياة، بعد أن هدد القائد الجميع بالقتل إذا لم يشيروا إلى سالم الموجود بينهم، ولكن سالم خرج من بين الصفوف لكي لا يدع بذرة فكرة العمالة داخل دماغ زكريا أن تنتصر بالإعلان عن نفسها… بذات الوقت بقتل النتن (زكريا) تخلصت من خطيئتها.
حامد كان شاهدا على هذا الكلب النتن (زكريا) الذي كان جالسا بجانبه وكان مرغما لقبول زواجه من مريم التي عاشرته في لحظة تفكير أثناء ضياعه في الصحراء، كان يبحث حامد عن ثناياها ليدرك اللحظة الزمنية التي استطاع زكريا في غيابه من اقتناصها لِيلبسه فيها العار، بالرغم من أنه حذر مريم منه عندما وصفه بالنتن في سياق مصادفة بالطريق حين ألقى زكريا التحية عليهما.
أما عن شخصيات عابرة في الرواية: سالم ووالد حامد (الذي لا يتذكر من مشهد مقتله سوى ذراعه الممتدة) وأمه وخالته لكل منها كانت لها رمزية تعبر عن حالة في الزمان والمكان لها مدلولاتها، وتميزت شخصية الأم بالخيمة المرافقة لكل من مريم وحامد الذي كان يردد لو كانت أمي هنا، في إشارة إلى دور الأم الجامع والحارس والضابط لإيقاع سلوك كل من مريم وحامد الذي غادر غزة في رحلة البحث عن أُمِهِ في الأردن.
الزمان والمكان في رواية ما تبقى لكم استخدمهما غسان بإبداع في رسم لوحات الرواية عبر رمزية الساعة تطابق الزمان والمكان، فهي كانت التابوت الصغير الذي كانت دقاتها دق.دق. تشير إلى رمزية الزمان في إعادة للدور الزماني والمكاني في رواية رجال في الشمس بين الصهريج الذي عبر عن المكان والدقائق التي كان لها دورا حاسما في موت من بداخله.
الزمان والمكان استخدمهما غسان بحِرَفية فلسفية عميقة في سياق قراءته لِمرحلة ما بين جريمة النكبة وهزيمة حزيران وانحصر المكان في الصحراء والمخيم الذين رمزا إلى فكرتي الموت والعار والضياع وفقدان البوصلة وغياب الهوية، في حين تحولت رمزية المكان والزمان في رواية أم سعد (التي استوحى شخصياتها من شخصيات واقعية) إلى فكرتي الكرامة والمقاومة وإبراز الهوية، وحولت المكان من مسرح لِجريمة العار والهزيمة ما قبل جريمة النكبة وهزيمة حزيران إلى مسرح لاستعادة الهوية والكرامة والمبادرة والمقاومة، وحولت المخيم رمزا لمقاومة الفكرة الصهيونية التي تحمل في ثناياها العنصرية وتشرع القتل والسرقة والاغتصاب، ونَقَلَ دور المخيم ومدنه في زوايا المكان عبر الزمان أيقونة للمقاومة بكل اشكالها وضماناً لاستمرارها وتَناوَبَت الأجيال وعبرت الزمان في مصفوفة متداخلة ومتشابكة، تعددت فيها أساليب وأشكال المقاومة بين السكين والطلقة والحجر والفكرة التي كانت تؤكد أن أصل الرواية هي المخيم ودوره ورمزيته.
المخيم هو العدو اللدود للصهيونية وتجسيدها إسرائيل الإحلالية والعدوانية بجيشها ومستوطنيه الذي يحميهم قضائها الذي يعطي الغطاء القانوني للممارسات العدوانية الإجرامية للمؤسسات الإسرائيلية المدنية والعسكرية التي قامت على أساس الفكرة الصهيونية العنصرية العدوانية التي تحمل طابعا رأسماليا عالميا.
اليوم مخيم جنين، بصموده ومقاومته أعاد دورة الحياة لفكرة المقاومة، من حيث الزمان الذي أصبحت فيه شخصية زكريا وأبو الخيزران تعمل على محاولة إعادة الساعة كتابوت لِموت الفلسطيني وتعميم عار زكريا وأبو الخيزران… فمخيم جنين ونيابة عن كل المخيمات وقف في وجه الجندي وزكريا وأبو الخيزران وأعلن أن الزمان والمكان أصبحا لمصلحة الفدائي الفلسطيني في إعلان صريح لعودته وقيامه من جديد، هذا الفدائي الذي أصبح يملك الزمان والمكان… هذا الفدائي هو ما تبقى لنا.
نشرت هذه الدراسة في موقع بوابة الهدف، وتم نشرها بالتنسيق مع الكاتب