حرب أوكرانيا تستنزف روسيا وتعسكر أوروبا

حرب أوكرانيا تستنزف روسيا وتعسكر أوروبا

ماجد كيالي

27/7/2023

“تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”… لعل هذا المثل ينطبق اليوم على السياسات التي انتهجها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا سيما بغزوه أوكرانيا قبل عام ونصف العام. فبدلا من إبعاد حلف الناتو الذي ظنّ كثر أنه بات من الماضي، عن بلاده، إذ بهذا الحلف ينهض من جديد، أقوى من أي فترة مضت ويقف على امتداد الحدود الروسية تقريبا.

أيضا، فإن بوتين بغزوه أوكرانيا، وبدل أن يوطّد علاقة بلاده بأوروبا، فكّك تلك العلاقة، إذ تحولت من الصداقة والتعاون إلى النفور والعداء، بل إن ذلك عزّز ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة. وبدل أن يضعف بحربه أوكرانيا، إذ بهذه الدولة الضعيفة والصغيرة (روسيا أكبر منها بـ 30 مرة) تصبح أقوى من أي وقت مضى. وبدل أن يؤكد هيبة روسيا عسكريا، إذ بهذه الهيبة تتلاشى بعجزها عن كسر الجيش الأوكراني الذي انتقل من الدفاع إلى الهجوم.

بيد أن التحوّل الأهم الناجم عن غزو روسيا لأوكرانيا تمثل في تحول أوروبا نحو العسكرة، بإعادة هيكلة جيوشها وتحديث أسلحتها ورصد موازنات كبيرة للدفاع والأمن وتعميق اعتمادها على حلف الناتو بعد أن كانت تتمنّع عن كل ذلك لشعورها بالأمن والسلام ولتفضيلها التركيز على التطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، ورفاهية مواطنيها.

واضح أن المعضلة في انتهاج دولة ما سياسة القوة والغزو والغلبة في العلاقات الدولية، لحيازة مكانة متميزة- وهو ما تحاوله روسيا بوتين، باعتمادها وسائل العالم القديم، أي المساحة وعدد السكان والثروات الطبيعية- في العالم الحديث، باتت فيه مكانة الدولة تتحدد بمساهماتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وبقدرتها على إدارة واستثمار مواردها البشرية والطبيعية بطريقة ناجعة، وأيضا بالوسائل التي تنتجها لفائدة المجتمع العالمي، فكل تلك الأمور باتت بمثابة المحرك لتطور اقتصاد الدول، وتمكين دولة ما على الصعيد العالمي.

تراجع حجم الاقتصاد في روسيا مع زيادة الانفاق العسكري بشكل ضخم

مثلا، ثمة دول صغيرة مثل سنغافورة وتايوان وهولندا وكوريا الجنوبية، تصدر كل واحدة حوالي 900 مليار سنويا (كسلع وخدمات)، وتستحوذ على تفوق كبير في مجال التكنولوجيا، وهذا ينطبق على دول أكبر حجما كألمانيا واليابان وبريطانيا، التي تحتل كل واحدة منها القوة الاقتصادية التالية للولايات المتحدة والصين، علما أن روسيا (17 مليون كيلومتر مربع) أكبر من كل دولة منهم بستين ضعفا، في حين أن كل واحدة من تلك الدول تمتلك قوة اقتصادية ضعف قوة روسيا، والغريب أن صانع القرار الروسي لا يدرك ذلك في رؤيته لذاته ومكانته، سيما مع استحواذ روسيا على ثروات باطنية هائلة بالقياس لكل تلك الدول، إذ أن قوتها الاقتصادية (بناء على قيمة الناتج المحلي) حوالي تريليوني دولار سنويا، توازي القوة الاقتصادية لدولة مثل إيطاليا أو كوريا الجنوبية.

وتبدو تلك المعضلة مضاعفة مع العلم أن روسيا (عهد الاتحاد السوفياتي) كانت استدرجت للدخول في سباق تسلح على الصعيد العالمي، في الثمانينيات، فيما عرف بـ “حرب النجوم” (عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان)، مما استنزف قدراتها، بحيث انهار الاتحاد السوفياتي (الذي ورثته روسيا)، أو تفكك، مطلع التسعينات، من تلقاء ذاته، من دون حرب، ومن دون معارضة داخلية، لخسارته المباراة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية مع الغرب.

“ثمة دول صغيرة مثل سنغافورة وتايوان وهولندا وكوريا الجنوبية، تصدر كل واحدة بنحو 900 مليار سنويا، وتستحوذ على تفوق كبير في مجال التكنولوجيا، وهذا ينطبق على دول أكبر حجما كألمانيا واليابان وبريطانيا”

لنلاحظ في هذا الإطار أن روسيا، التي خسرت صادراتها من النفط والغاز إلى أوروبا، وفقدت اعتماديتها الضرورية لنمو اقتصادها على التكنولوجيا المتأتية من الغرب، بسبب العقوبات، دخلت في حالة استنزاف، في سباق تسلح جديد، برصدها 84 مليار دولار من ميزانيتها للإنفاق على جيشها، وعملياتها العسكرية، بدلا من 66 مليار دولار في العام (2021) وربما يكون المبلغ أكبر من ذلك، إذ إنها انتقلت من المكان الخامس، في الإنفاق العسكري العالمي، إلى المركز الثالث، بعد الولايات المتحدة والصين.

 

زيادة حجم التصنيع العسكري في اوروبا

مع ذلك فإن الحديث عن مرتبة ثانية وثالثة ورابعة لا يغطي الحقيقة، فبحسب معطيات “معهد ستكهولم الدولي لأبحاث السلام” (مطلع هذا العام)، فإن الولايات المتحدة تستحوذ على 40 في المئة من الإنفاق العسكري في العالم، بتخصيصها 877 مليار دولار لذلك (3.5 من ناتجها السنوي)، بما يعادل ثلاثة أمثال الصين، التي صرفت 292 مليار دولار (1.4 من ناتجها السنوي)، وعشرة أمثال إنفاق روسيا.

الجدير ذكره أن الإنفاق العالمي على التسلح بلغ في العام الماضي 2.24 تريليون دولار، في حين بلغ 1,981 تريليون دولار في العام 2020. أما من حيث المكانة في الإنفاق على التسلح، فقد احتلت الهند المكانة الرابعة (81.4 مليار دولار)، والخامسة المملكة العربية السعودية (75 مليار دولار)، والسادسة المملكة المتحدة (68.5 مليار دولار)، والسابعة ألمانيا (55.8 مليار دولار)، والثامنة فرنسا (53.6 مليار دولار) والتاسعة كوريا الجنوبية (46.4 مليار دولار) والعاشرة اليابان (46 مليار دولار) والحادية عشرة أوكرانيا (44 مليار دولار) التي ارتفع إنفاقها العسكري عدة مئات المرات؛ دون احتساب المساعدات الخارجية.

إذن المسألة لا تتعلق فقط بالفجوة الواسعة جدا بين إمكانيات روسيا وامكانيات الولايات المتحدة وحدها، أو أوروبا وحدها، وإنما بالفارق الكبير في الميزات التكنولوجية التي تتمتع بها الآلة العسكرية الغربية، كما تتعلق بالقوة الاقتصادية الهائلة في الغرب بالقياس لروسيا. فمن الناحية الكمية، وبحسب معطيات البنك الدولي (لعام 2022) فإن الاقتصاد الأميركي (25 تريليون دولار) أكبر من اقتصاد روسيا (2.2 تريليون دولار) بـ11 مرة، وحجم إنفاقها على البحث العلمي وعلى التسلح يقارب إجمالي الناتج السنوي لروسيا، وحتى ألمانيا فاقتصادها (4 تريليون دولار) ضعف الاقتصاد الروسي، مع ملاحظة أن الولايات المتحدة هي المصدر الأساسي للتطورات في العلوم والتكنولوجيا في العالم، وهذا ما يتميز به الغرب عموما.

“لم يعد أمام روسيا في محاولتها فرض مكانتها بالإكراه، ورغم تدني مساهمتها في إنتاج ما يفيد تطور المجتمعات البشرية، سوى السلاح النووي. لكن مجرد التفكير بهكذا خيار- فما بالك بالتلويح به- ينم عن خيار انتحاري، ولن يوصل روسيا إلى شيء”

وبشكل أكثر تفصيلا، وبالإضافة للولايات المتحدة وألمانيا، فإن المكانة الاقتصادية لكل من اليابان، والمملكة المتحدة، وفرنسا، أقوى من الاقتصاد الروسي، الذي يوازي القوة الاقتصادية لإيطاليا وكوريا الجنوبية، على رغم أن روسيا تتمتع بميزتين: المساحة الهائلة، والثروات الطبيعية الكبيرة. يمكن ملاحظة الفارق بشكل أوضح في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، والذي بلغ في روسيا 15 ألف دولار، في حين أنه في الولايات المتحدة 76 ألف دولار، وفي وألمانيا 49 ألفا، والمملكة المتحدة 46 ألفا، وفرنسا 41 ألفا، علما أنه في الصين 12.700 دولار.

لكن الفجوة البالغة الأهمية في دلالاتها، بين روسيا والدول الغربية، تتجلى في مجال الصادرات، أي ما تنتجه للعالم من سلع وخدمات، إذ بلغ حجم صادرات روسيا، من السلع والخدمات، 636 مليار دولار (2022)، فقط، مع ثرواتها من النفط والغاز، وهذا أقل من صادرات كل من الولايات المتحدة (3 تريليون دولار)، أي أكثر بـ 5 أضعاف تقريبا، وألمانيا (2 تريليون) أي أكثر بثلاثة أضعاف، وحتى هولندا (مساحتها 42 ألف كيلومتر مربع) تصدر بما قيمته 916 مليار دولار، أي أكثر بمرة ونصف من قيمة الصادرات الروسية. وهذا يشمل أيضا صادرات فرنسا 1 تريليون دولار، بريطانيا 1 تريليون دولار، اليابان 921 مليار دولار، سنغافورة 870 مليار دولار، الهند 767 مليار دولار، كوريا الجنوبية 721 مليار دولار، إيطاليا 745 مليار دولار، كندا 721 مليار دولار، الصين 3.7 تريليون دولار، وكل ذلك مع الفارق في نوعية الصادرات أيضا، بين صادرات تتركز في التكنولوجيا والآلات ووسائل النقل، وصادرات تتركز في الغاز والنفط والسلع الاستهلاكية.

عدا عن كل تلك الفوارق، فإن روسيا تخسر المباراة في مجال إدارة الموارد البشرية والطبيعية، أيضا، إذ لم يتطور اقتصادها في السنوات العشر الماضية، فهو في العام 2022 بنفس مقداره في العام 2014 (بحجم قدره 2.2 تريليون دولار)، وفي حين أن الصين، مثلا، كانت في العام 2012 ثلاثة أضعاف الاقتصاد الروسي باتت اليوم ثمانية أضعافه.

المهم أن التحول نحو العسكرة، أو اعتماد عامل القوة والغلبة، في العلاقات الدولية، هو ظاهرة سلبية، ونقيض فكرة السلام العالمي، أو “السلام الدائم” (التي بشر بها إيمانويل كانط أواخر القرن الثامن عشر)، والتي عاشت على نعمها، أو رفاهيتها، أوروبا لثلاثة عقود، بعد انتهاء عالم الحرب الباردة (مطلع التسعينات)، وعلى الضد من فكرة الاعتماد المتبادل، التي بشر بها ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، والتي رسختها مسارات العولمة، وصعدت بفضلها الصين كقطب دولي ـ صناعي كبير، لاستثمارها الناجح في تلك المسارات.

عليه، إزاء الفجوة بين روسيا، ودول العالم في كل المجالات، وضمنه في طريقة عمل النظام السياسي، وتحديد الخيارات الاستراتيجية للدولة، المرتبطة بما يريده الرئيس، حيث تغيب المؤسسات، والمشاركة السياسية، لا يبقى أمام روسيا في محاولتها فرض مكانتها بالإكراه، ورغم تدني مساهمتها في إنتاج ما يفيد تطور المجتمعات البشرية، سوى السلاح النووي، لكن مجرد التفكير بهكذا خيار- فما بالك بالتلويح به- ينم عن خيار انتحاري، ولن يوصل روسيا إلى شيء.

المعنى أن روسيا على عتبة لحظة انعطافيه في تاريخها، وربما الأنسب لها وللعالم، أن تنظر إلى نفسها، وإلى إمكانياتها، بطريقة واقعية ومصلحية، بعيدا عن التخيلات والتوهمات، للنزول عن السلم الذي صعدت إليه، بطريقة تضمن سلامتها، وتحفظ كرامة الشعب الروسي.

 

Залишити відповідь

Ваша e-mail адреса не оприлюднюватиметься. Обов’язкові поля позначені *