فلسطين بين عطالة التاريخ و النزعة القومية
قراءة في كتاب شلومو ساند: اختراع الشعب اليهودي
محمود الصباغ – كاتب و مترجم
كتبت هذه القراءه بتاريخ 29/ 2/ 2020
نقرأ بين الحين و الآخر في الصحف الإسرائيلية لاسيما “هآرتس”, مقالات تعرب عن أسفها من أن “المؤرخين الفلسطينيين” إنما يكتبون إسرائيل انطلاقا من التاريخ القديم لفلسطين، وقد ظهرت قبل سنوات قليلة دراسة هامة لكل من موتي غولاني وعادل مناع تناقش الطريقة التي يتم بموجبها إزالة ” الآخر” من التاريخ الحديث عندما يتعلق الأمر بحرب 1948. فما هو تاريخ لطرف، ليس تاريخاً للطرف الآخر ( Two Sides of the Coin: Independence and Nakba 1948. Two Narratives of the 1948 War and its Outcome [English-Hebrew edition].2011 ).
و في موقع ليس بعيد عن هذه الأجواء يقع كتاب شلومو ساند (اختراع الشعب اليهودي) الذي ظهر في العام 2008 ، ثم ظهرت الترجمة الفرنسية و الإنجليزية للكتاب ( حصل الكتاب على الجائزة الفرنسية لأحسن كتاب غير روائي للعام 2008) . و تأخرت الترجمة العربية حتى العام 2011 ، عندما قام المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلة ( مدار) بنشره وترجمة سعيد عياش مع مقدمة للمؤلف .
تتمثل أطروحته الأساسية في ” أنه لا وجود لقومية يهودية نقية أو شعب يهودي واحد يعود في أصوله الإثنية والبيولوجية إلى جذر منفرد كما يزعم الفكر الصهيوني. هناك الدين اليهودي وأتباعه ينتسبون إلى قوميات وإثنيات وجغرافيات متنوعة ومتباعدة، ولا يربطهم سوى الانتساب إلى هذا الدين، كما هو حال المسيحيين أو المسلمين أو غيرهم في التاريخ الماضي والحاضر. والمشروع الصهيوني الذي تطورت بذوره في القرن التاسع عشر متأثراً بالقومية الألمانية وبزوغ وتجذر عصر القوميات في أوروبا قام عبر استنساخه التجربة الأوروبية بخلق واختراع قومية يهودية ليست موجودة من ناحية تاريخية وعلمية”, بمعنى أن طراز القومية الذي تزعمه الحركة الصهيونية ليس سوى نمطاً شاذاً أميبياً يقوم بالدرجة الأاولى على توهم أسطوري مغرق في الرجعية و العنصرية وبعيد كل البعد عن أي معنى ” تاريخي” حقيقي وتختلط فيه المشاعر الدينية بالطموح القومية لتخلق مزيجاً هجيناً يتشبث بإدعاءت العودة لوطن قديم و أرض موعودة تأسيساً على نصوص دينية : ” فى ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات القينيين والقنزيين والقدمونيين والحيثيين والفرزيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين ” (تكوين 15 : 18- 20 ). فالمشروع الصهيوني كما يراه “المؤرخون الجدد” ,مشروع يحمل الكثير من المخاوف في أن يكون مدمرا ًلمن ينتسبون لليهودية و لعل هذا ما وضحه بيني موريس الذي بعد أحد أهم رموز أولئك المؤرخين بقوله : “إ ن المشروع الصهيوني كله مشروع أخروي، إنه يقوم في محيط معاد، وبمعنى ما فإن وجوده لم يكن منطقياً أن ينجح في العام 1948، وليس من المنطقي أن ينجح الآن، ومع ذلك وصل إلى ما وصل إليه، وبمعنى آخر فإن في الأمر معجزة.. قد يكون الخراب نهاية هذه العملية وهذا ما يخيفني”.
وبعد قيام الدولة عمد الفكر الاجتماعي الصهيوني إلى تبني ترتيبات ما بعد الخطوة الصهيونية القومية وفقاً لتغيرات النسق السياسي وعملياته الجارية لبناء دولة قومية بأغلبية يهودية قوامها الأساسي مجتمع المستعمرين اليهود في فلسطين الانتدابية. وتالياً مجتمع المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967 و التي يحلو لغلاة اليمين الإسرائيلي تسميتها ” قلب أرض إسرائيل” كإشارة إلى المرويات الدينية “الخلاصية”, فتخليص الأرض و “تحريرها” من الإغراب هو شرط مسبق لتحرير الشعب اليهودي، وبالتالي يكون تهويد الضفّة الغربية ثم الشرقية لنهر الأردن شرط أساسي لتحرير الشعب اليهودي، وهي مهمّة ” إلهية” مختلطة مع براغماتية سياسية عبر عنها جوزيف وايتنر ممثّل ” الوكالة اليهودية ” والمسؤول عن الاستيطان، حين أكد بأن الحركة الصهيونية توصلت مع بداية الحرب العالمية الثانية في أوائل أربيعينيات القرن الماضي إلى نتيجة ترى لامكان لكلا الشعبين (العربي واليهودي) معاً في هذا “البلد” وأنه لتحقيق الأهداف الصهيونية لا بد وأن تقام دولة غرب نهر الأردن ليس بها عرب، ولذا كان من الضروري -وفق قوله- “نقل العرب من هنا ومن الدول المجاورة.. نقلهم جميعاً، وبعد انتهاء عملية النقل هذه سيكون في مقدور (الدولة الصهيونية) استيعاب الملايين من إخواننا” .( دافار: 29 أيلول/ سبتمبر 1967)
ما انفك كتاب “اختراع الشعب اليهودي” منذ ظهوره يثير حالة جدل واسعة سواء من طرف المؤيدين أو المعارضين له فهو قد أتى في صميم الذاكرة الثقافية لسردية الوجود “اليهودي الديني- القومي ” في فلسطين , وهو إذا يحاول خلخلة هذه البنية المؤسسة على الأساطير فإنه في المقابل ووجه بعاصفة من الاعتراضات لم تتوقف حتى الساعة فمن الواضح أننا لانتخلى عن ذاكرتنا الثقافية بسهولة وهو ما يفسر ردة الفعل العنيفة هذه ضد الكتاب هناك في إسرائيل حيث يعتبر لدى العديد من القراء الاسرائيلين (وغير القراء) ربما أسوء كتاب تم نشره منذ قيام الدولة وهذا لابعني أن الكتاب على الدرجة من السوء بالمعنى الحرفي أو لأن ساند ليس مصيباُ فيما ذهب إليه, بل لأن شلومو ساند بطريقة ما قام بتحدي هيبة السلطة/ الذاكرة في إسرائيل حين وقف في وجه السردية الرسمية السلطوية للذاكرة الثقافية التي تأسست على مزيج من الفكر الديني المتعصب و المتمركز إثنيا و نصوص التوارة و اللاهوت الديني اليهودي الذي يحظى بدعم من المجتمع اليهودي و المسيحي المؤمن على حد سواء. وقد علق ساند نفسه على ذلك قائلا ” بعد سنوات وسنوات من استخدام تعابير مثل ( الشعب اليهودي) و( القومية اليهودية) لأكثر من أربعة آلاف سنة، فليس من السهل تقبل كتاب مثل كتابي”. وهنا يحق لنا أن نرمي بذرة سؤال: هل ينبغي للمثقف أن يكون ممثلاً لهذا المجتمع القديم، أي إسرائيل القديمة التي وجدت في زمن مضى في فلسطين؟ وحتى مثل هذا الزمن غير مؤكد إذ ثمة جدل كبير يدور في الأوساط المختصة حو،ل ما إذا كانت إسرائيل القديمة هي حقيقة ” تاريخية” أم مجرد اختراع غريب لاتمت بصلة لتاريخ الشرق القديم.
يقول ساند عن كتابه ” لقد حاولت أن أشرح في كتابي “اختراع الشعب اليهودي”، كيف فبركت الحركة الصهيونية تاريخًا مزيفًا لليهود مبنيًا على فكرة الشعب اليهودي. وبيّنتُ أن هذه فكرة خاطئة وخرافة، تمّ استعمالها من أجل تبرير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومن أجل شنّ الحروب على الدول العربية. ” والأطروحة الرئيسية في هذا الكتاب، أنه ليس ثمة شعبٌ يهودي بالمعنى المتفق عليه والرائج. ثمة أقوام يهودية مختلفة، وذات ثقافات مختلفة. والقاسم المشترك بينها، هو ممارستها للشعائر والطقوس الدينية نفسها. فالشعب بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي (الاجتماعي)، مصطلحٌ يُطلق على مجموعة بشرية تجمعها ثقافة مشتركة مثل؛ اللغة والأدب والموسيقى وما إلى ذلك من الشروط الثقافية الأخرى. وهذا ما لا ينطبق على الشعب اليهودي الذي اخترعته الحركة الصهيونية، إذ لا توجد ثقافة مشتركة بين يهود ألمانيا ويهود العراق أو المغرب، ما يعني أن الطوائف اليهودية كانت تعيش في كنف ثقافات وطنية مختلفة وفق البلد الذي تقيم فيه. من جهة أخرى، هناك شرط إضافي يحدّد مفهوم الشعب ويتمثّل في الانحدار من أصل واحد. وفي هذا الباب أيضاً دأب مؤرخو الحركة الصهيونية على ترويج خرافة أخرى، تقول إن فلسطين هي أرض اليهود، وأنهم اقتلعوا منها من قبل الإمبراطور الروماني تيتوس في سنة 67 م. وهذا اعتقاد غير صحيح ، إذ لا يوجد دليل تاريخي أو علمي مقنع، يسندها. وبهذا يعتبر الكتاب رحلة في التاريخ الموغل في القدم ينبش فيه المؤلف آلاف السنوات عبر طرح مسهب يثبت فيه أن اليهود الذين يعيشون اليوم في إسرائيل وفي أماكن أخرى من العالم ليسوا على الإطلاق أحفاد ” الشعب العتيق” الذي عاش في ” مملكة يهودا” إبان فترة ” الهيكل الثاني”. وبحسب ما يقوله فإن أصولهم تعود إلى شعوب متعددة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتى من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة، وإن هذا يشمل أيضاً يهود اليمن ( بقايا مملكة حِمْير في شبه الجزيرة العربية التي اعتنقت اليهودية في القرن الرابع الميلادي) ويهود أوروبا الشرقية الإشكنازيين (وهم من بقايا مملكة الخزر التي اعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي).وخلافاً للـ “المؤرخين الإسرائيليين الجدد” الآخرين، الذين سعوا إلى تقويض مسلمات تدوين التاريخ وفقاً للرؤية الصهيونية وحسب، فإن ساند لا يكتفي في هذا الكتاب بالعودة إلى سنة 1948 أو إلى بداية الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، بل يبحر آلاف السنين إلى الوراء، ساعياً إلى إثبات أن الشعب اليهودي لم يكن أبداً ” شعبا عرقيا” ذا أصل مشترك، وإنما هو خليط كبير ومتنوع لمجموعات بشرية تبنت خلال مراحل مختلفة من التاريخ الديانة اليهودية. وبحسب قوله فإن النظرة الميثولوجية إلى اليهود كشعب عريق أدّت بعدد من المفكرين الصهيونيين إلى تبني فكر عنصري تماماً. ويقول ساند ” كانت هناك فترات في أوروبا إذا ما قال فيها أحد بأن جميع اليهود ينتمون إلى شعب ذي أصل غير يهودي فإن مثل هذا الشخص كان يُنعت فوراً باللاسامية. أما اليوم فإذا ما تجرأ أحد ما على القول إن الذين يعتبرون يهوداً في العالم (…) لم يشكلوا أبداً شعباً أو قومية، وإنهم ليسوا كذلك حتى الآن، فإننا نجده يوصم في الحال بكراهية إسرائيل”. وهو يرى أن وصف اليهود كشعب مشرد ومعزول من المنفيين الذين ” عاشوا في تنقل وترحال على امتداد الأيام والقارات ووصلوا إلى أقاصي الدنيا وفي نهاية المطاف استداروا مع ظهور الحركة الصهيونية كي يعودوا جماعياً إلى وطنهم الذي شردوا منه” ما هو إلاّ ” خرافة قومية” فاقعة. ويضيف أنه ” في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر أخذ مثقفون من أصل يهودي في ألمانيا على عاتقهم مهمة اختراع شعب بأثر رجعي، وذلك من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية.
ولكن ماذا يعني هذا؟
تستند المقولة الرئيسية للكتاب بعدم وجود قومية يهودية ( شعب يهودي) على أن لايفهم ذلك كحالة إنكار لليهود أو لمعتقداتهم و رؤيتهم للعالم أو [تاريخهم]. وهو يرى في اليهودية دين مثله مثل المسيحية و الإسلام، ديناً عابراً للقوميات ليس محصوراً أو مقصوراً على قومية أو ” إثنية “محددة .” فلو أن اليهود كانوا حقا ( شعب ),فما هو الشيء المشترك في مكونات الثقافة الإثنوغرافية ليهودي في كييف ويهودي في المغرب غير الاعتقاد الديني وبعض الممارسات الدينة؟” ( ص 43). و لكن مع القرن التاسع عشر و بزوغ عصر القوميات و بتأثير القومية الألمانية قام المشروع الصهيوني بصهينة اليهودية لصالح مشروع قومي سيقوم لاحقا بإنشاء دولته في فلسطين دامجا الدين و الإثنية و القومية في تركيب معقد مستمداً مسوغاته القومية وبأثر رجعي من الدين و الماضي و التاريخ, وعلى هذا فإسرائيل الحديثة ” هي مشروع سياسي تم تخيله في أواخر القرن التاسع عشر، فأصبحت واقعا من خلال الهولوكوست، ثم أسست عام 1948 ” .. فإذا كان التاريخ في المقام الأول هو تاريخ زمن كتابته كما يستشهد ساند بعبارة الفيلسوف الإيطالي بينديتو كروتشة( ص 310), فإن التاريخ الفلسطيني, أو تاريخ فلسطين مازال يراوح- في نظر ساند- بين عطالة مقصودة و زهو قومي استشراقي وذلك حين يروج لمقولة أنه ينبغي على العرب الاعتراف بإسرائيل لا كدولة ” الشعب اليهودي” بل كدولة كل المواطنين الإسرائيليين المقيمين فيها بغض النظر عن أصلهم او ديانتهم ” ( ص 10 من المقدمة)”. لذلك يرى ساند أنه قام بتأليف كتابه لغرضين ” أولا كإسرائيلي، من أجل دمقرطة الدولة وجعلها جمهورية حقيقية، وثانيا للوقوف ضد الأصولية اليهودية».كما يقول ” إذا لم يكن في الماضي شعب يهودي, و لا توجد اليوم أمة يهوديه, فقد خلق وجود الاستيطان الصهيوني شعبين في الشرق الأوسط. يوجد اليوم شعب فلسطيني يحارب بضراوة من اجل حريته و بقية وطنه, و يوجد شعب إسرائيلي له لغة و ثقافة لا يشاركه فيها أحد من كل هؤلاء الذين يعرفون أنفسهم في العالم كيهود ” ( ص 10 , المقدمة)”, وهنا يحاول ساند أن يكتب “إسرائيل” من تاريخ فلسطين ,إذا ما أخذنا مجازا عبارة الباحث الدنماركي المتخصص في تاريخ فلسطين القديم نيلز بيتر لامكة ,فكل ما يمكن أن نطلق عليه تاريخ هو ليس سوى تاريخ تم اختراعه بطريقة ما و بشكل أو بآخر, أو هو في أحسن الأحوال ذاكرة ثقافية ذات سمة مجتمعية ,وعندما يتواجد أكثر من جماعة بخلاف الجماعة الموجودة في الحاضر ضمن مجتمع معطى, فيمكننا أن نخمن بوجود أكثر من ذاكرة ثقافية, ولو توسعنا في القول وافترضنا وجود صراع بين الجماعات فمن المنطقي الاستنتاج أن المنتصر هو من سيقرر أي ذاكرة من هذه الذواكر هي ” الصحيحة ” والتي يجب تدوينها و تلقينها لطلبة المدارس, ربما هذا الأمر يدفع بالمؤرخ للاعتراض نظراً لأنه أقدر من غيره على معرفة ” النسخة الصحيحة”, ولكن للأسف يبدو أن المؤرخين في الواقع لا يميلون للاهتمام أكثر ” للحقائق” التاريخية, ربما لعدم قدرتهم في السيطرة على الذكريات. أو لأنهم يمثلون من ناحية أخرى السلطة السياسية وخياراتها بغض النظر عما قد يتفق عليه الشعب على أنه ” تاريخ “.
” و رغم أن إسرائيل ولدت من خلال خلق كارثة فظيعة للسكان المحليين, فقد تشكل في المنطقة واقع لا يؤدي إنكاره الكلي إلا إنتاج مزيد من الكوارث الجديدة “.ص 10. ” الأمر الذي دفع بمفكر معروف مثل إيريك هوبسباوم للقول أن كتاب شلومو ساند ” تمرين ضروري في حالة إسرائيل من أجل تفكيك الخرافة القومية التاريخية والدعوة إلى إسرائيل التي يتشارك فيها على قدم المساواة سكانها كافة”.
يحاول ساند في مقدمة الكتاب أن يوضح لقراءه العرب أنه مع حق الشعب الفلسطيني و أن هذا الشعب قد ظلم, لكن هذا لا يعني أنه سيترك البيت الذي يسكنه الآن حتى لو كان على أنقاض قرية أو مدينة فلسطينية و يستمر في نفس الإدعاء على مدار الأربعمئة صفحة التي يتكون منها كتابه. وأكاد أزعم أنني- كفلسطيني – , لست مهما، كثيراً أو قليلاً، و لايعد انتصاراً لي أن يقر مؤرخ أو عالم آثار إسرائيلي بعدم جدوى البحث عن قصص آباء و أنبياء و ملوك العهد القديم في فلسطين , فمثل هذا السجال هو محض نقاش أكاديمي ينحصر في دائرة ضيقة من القراء لا يتعداها إلا نادرا، بيد أنه يأتي في سياقات منهجية تسعى للبحث عن مخرج للأزمة البنيوية للمشروع الصهيوني بما يوحي أن هذا السجال مازال مكبلا بأقمطته الصهيونية و إن كان يتبنى تسميات مختلفة على غرار ” المؤرخون الجدد” أو الفكر ما بعد الصهيوني “. وعليه فإن أفضل ما يمكن أن تفعله إسرائيل – يقول ساند – هو الاعتراف بأن أمتها هي أمة مخترعة، يجب عليها – يجادل ساند – أن تصلح نفسها لأن الدولة تنتمي إلى كل مواطنيها، سواء كانوا يهوداً أم عرباً.وهكذا يقوم ساند بتفكيك خطاب الهوية من خلال تعريفه للصهيونية بوصفها حركة قومية متشددة و متمركزة إثنيا استطاعت انجاز مشروعها التاريخي باحتلال الأرض و طرد الشعب وأسرلة يهود العالم بما يعزز تشكيل هوية متجانسة مستقبلا من خلال عملية ” أثننة متزايدة في سياسة الهويات إبان السبعينات- في أعقاب السيطرة على جمهور واسع أخذ يشكل تهديدا متأججاً في المتخيل القومي الإسرائيلي “(ص 303)
المناخ العام الذي قام فيه ساند بتأليف كتابه هو حزء من أجواء سيطرت على الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية في مرحلة ما بعد الانتفاضة الفسطينية الأولى التي اندلعت شرارتها الأولى في العام 1987 فبدأ الكتّاب الإسرائيليو بعملية نقد “حدائي” للحركة الصهيونية و لفكرها وجوهر مشروعها في المنطقة من خلال تفكيك الأزمات التي تعاني منها إسرائيل جاهدين في استيلاد صيغ تجديد هذا الفكر و إعادة تركيبه بما يضمن تأبيده، وجزء منهم يقر بأن الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية و قطاع غزة هو “احتلال”؟ و عندما ينظر هؤلاء لمفهوم ” كالعالم” فإنه يفهم من سياق كلامهم أنه بالإضافة إلى إسرائيل فالمقصود بالعالم هو اوروبا و أمريكا و يكون محيط إسرائيل كيانات و دول شرق أوسطية، بتعبير مبهم تغلب عليه الجغرافيا السياسية أكثر مما تغلب عليه المقولات التاريخية-الاجتماعية و بالتالي لا ترقى تلك الكيانات إلى مستوى انضمامها للنادي ” العالمي”، وتكتسب هذه الكيانات أهمية فقط عندما يدور الحديث عن قضايا الامن و الاقتصاد و السوق و” الديمقراطية” وهذا ما يظهر في الخطاب الصهيوني منذ التأسيس و الذي تبرز مفاعيله باستخدام أدوات استشراقية لتعريف الآخر و تحديده .وهكذا سيطر على هذه الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية فضلا عن العديد من المهتمين بشؤون الشرق الأوسط هوس بدى كأنه سعار يستحوذ على عقولهم لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني,
يبدو النموذج الصهيوني في فلسطين كجسم غريب يرتكز على مزاعم إقليمية ذات طابع قومي، تفرض واقعاً يعمد إلى تغيير الكثير من الجوانب و المظاهر الملازمة لليهودي كما عرفتها أوروبا حتى النصف الثاني من القرن العشرين. ولذلك توجهت الصهيونية نحو خلق علاقة تاريخية بين الجاليات اليهودية في العالم و فلسطين عن طريق الاستفادة من النص التوراتي و تكريسه كنص تاريخي شمولي خطي غير قابل للعكس يضمن ارتباط اليهودي بهذه الارض بوصفها أرض وعد مستمر إلهي للعبرانيين القدماء ومن بعدهم اليهود الحاليين –كورثة و أحفاد العبرانيين- مشرعنة بذلك استعمار البلاد بطريقة لا تقبل التاويل بأحقية اليهود في البلاد .
وتعتمد الصهيونية على ذلك من خلال “حقائق” [تاريخية و دينية ]، غير أن ما يلاحظ على المقاربة التاريخية هو أن الحقائق التي تتوسل إثباتها غير نهائية وهي محل شك على الدوام و عرضة للتغيير و التبديل و التأويل و التاويل المعاكس، وهي تصطدم مع “الحقيقة الدينية” التي لا تتبدل-وإن تبدلت سياقاتها و اختلفت تفسيراتها- و من المعروف أن الحقيقة الدينية غير معنية بتناقضاتها مع ” الحقائق التاريخية” سواء كانت أدلة أثرية أن تاريخية أو سواها، ولذلك ستقوم هذه الحقيقة الدينية – التي هي اساسا تقع خارج الزمان و المكان وتكون كل القصص الواردة فيه صحيحة و صادقة و ستبقى كذلك- بتدعيم الادعاء الذي يقول به اليهود بأن اليهودية هي حكر لهم و أن الرب هو حكر لقبيلة بني إسرائيل. وهنا تظهر لنا مسألة على غاية في الأهمية، فعلى الرغم من أن تعريف اليهودية بأنها ” دين توحيدي” يحمل رسالة دينية للبشر كافة، إلا أن بني إسرائيل أصروا على مر العصور على اعتبار أن الدين اليهودي جاء حصراً و اقتصاراً لبني إسرائيل دون غيرهم، و أنهم لم يحولوا اليهودية من دين توحيدي عالمي إلى دين قبلي و شبه عرقي كما يزعم البعض و إنما هو كذلك بالفعل، إذا ما اتخذنا الأسفار الخمسة مرجعا لنا. فلا توجد إشارة إلى أن الرب الذي ظهر لإبراهيم و اسحق و يعقوب و موسى هو رب جميع البشر ( خروج 22 : 20، تكوين 17 : 7-8 ، خروج 6 : 7 ، خروج 34،14، خروج 20 :3-5) بل هناك تأكيد على أن هذا الإله هو إله العبرانيين و إله بني إسرائيل و ذريتهم، كما أن التوراة لم تنشر من ناحيتها إلى وجود نشر الديانة ووحدانية الرب بين الشعوب الأخرى .
في الفصل الثاني يتحدث المؤلف عن اكتشافه أن الكتّاب اليهود، وعلى مدار أكثر من ثمانية عشر قرنا لم يكتبوا تاريخا شاملا لماضيهم رغم قدم ديانتهم، ولم يظهر أي تاريخ لدينهم إلا في مطلع القرن الثامن عشر، كما أن بدايات كتابة التاريخ اليهودي في العصر الحديث لا تتسم بخطاب قومي واضح. فمفهوم ” الأمة اليهودية” لم يبرز بصورة صريحة إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك عندما بدؤوا يصوغون تاريخاً قومياً باختراع فكرة أن اليهود قد وجدوا كشعب (أمة) وعلى نحو منفصل عن دينهم حيث صدرت في مدينة لايبزغ الألمانية في سنوات الخمسينيات من ذلك القرن المجلدات الأولى للمؤرخ هنريش غريتز تحت عنوان ” تاريخ اليهود منذ العصور القديمة وحتى أيامنا هذه “، والذي ترك أثراً هاماً على تشكّل الأيديولوجية الصهيونية ولعب دورا كبيرا في صقل الهوية القومية لليهود فيما بعد.
وقد بذل غريتز جهداً كبيراً لاختراع الشعب اليهودي، ولعب مؤلفه دوراً لاينكر في بلورة النمط القومي لكتابة تاريخ اليهود، ويستعرض ساند في هذا الفصل كل الدراسات والمؤلفات التي سعت إلى تقديم تاريخ لليهود ويرى أن الرواد الأوائل في هذا المجال لم يقدموا أنفسهم كقوميين يهود بل كانوا يعتبرون أن تقصي الماضي اليهودي وإبراز ايجابياته يعتبر بمثابة وسيلة إضافية لمد الجسور من أجل اندماج طائفتهم اليهودية في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها. أي أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم كيهود فقط لأنهم يشتركون في دين بعينه، لكن ومن أجل تقوية الشعور المجرد للوفاء للمجموعة، كانت الأمّة في حاجة، مثل الجماعة الدينية قبلها، إلى طقوس وأعياد واحتفالات وأساطير. وكان على هذه الجماعة، كي تحدد نفسها وتذوب في كيان صلب واحد، في حاجة إلى أنشطة ثقافية عمومية ومستمرة بالإضافة إلى اختراع ذاكرة جماعية موحِّدة وهذا ما أقدم عليه العديد من المؤرخين الإسرائيلين في بداية القرن العشرين.
في الفصل الثالث يحاول المؤلف تفكيك الأساطير الإسرائيلية. فهو يرى أن المنفى شكل إحدى الركائز الأساسية التي ساهمت بشكل فعال في خلق واختراع أسطورة الشعب اليهودي الواحد، والمنفى المشار إليه هنا يخص ما تعرض له اليهود في الفترة اللاحقة لخراب الهيكل عام 70 م. وما تبعه من نفي واقتلاع لجموع المؤمنين اليهود من أورشليم وتشتيتهم في أصقاع الأرض. ويشكل هذا التعريف للمنفى النموذج الأكثر قبولاً، والذي أسهم في صياغة الوعي القومي والذاكرة الجماعية الإسرائيلية الحالية. وفي بحث الكتاب عن حقيقة حصول النفي من الأساس، فإنه وبالاستناد إلى التوثيق الروماني الغني، يصعب على المرء أن يلحظ وجود ولو إشارة بسيطة لحدوث عملية نفي بتلك الضخامة من ” أرض يهودا “. كما أنه يشير لانتفاء الحاجة للنفي أصلاً، وذلك من وجهة نظر اقتصادية محضة مفادها حاجة المحتل الروماني أو الآشوري لجموع المزارعين ودافعي الضرائب من اليهود بحيث تغدو عملية نفي بمثل تلك الضخامة بمثابة كارثة اقتصادية محققة لذلك المحتل. وبالإشارة إلى ما أورده ميلكوفسكي حول مصطلح (جلوت) أو منفى وذلك في الفترة الواقعة بين القرنين الاول والثالث للميلاد، فإن المصطلح المذكور يشير إلى حالة من التهميش والاستبعاد السياسي، وليس كما تم الترويج له من اقتلاع وتشريد من البلاد، وهو بذلك يقطع الصلة بين مفهومي الاستبعاد السياسي الموسوم بالمنفى وعمليات الاقتلاع التي تعرض لها اليهود.
يقول ساند إنه ليس هناك منفى يهودي.. وأفضل ما يمكن أن تفعله إسرائيل هو الاعتراف بأنها أمة مُخترَعة. ويسخر من الطريقة التي استطاعت بها الصهيونية تطوير إيديولوجيتها حول مقولة ” أرض إسرائيل” التي تعتبر سلاحاً لها يمكنها ليس فقط من الاستيلاء على أرض فلسطين التاريخية، وإنما الاستيلاء على أرض تمتد فيها حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات..!! ولذلك يوضح ساند كيف قادت الحركة الصهيونية مشروع النزعة القومية اليهودية من خلال تحويل اليهودية إلى شيء شبيه بالقومية الألمانية نافياً وجود شعب يهودي ومعتبراً أن ذلك لا يعدو كونه ” أسطورة ” قامت عليها دولة إسرائيل، كما أثبت خطأ مقولة ” الشعب اليهودي” من خلال تأكيده على أن تدمير الرومان للهيكل الثاني لم يؤد ـ خلافًا لما يذهب إليه البعض- إلى نفي الرومان لهم، فالرومان لم يثبت عنهم نفيهم لشعوب بأكملها، إلى جانب أن اليهود كانوا موجودين في ذلك الوقت في مجتمعات أخرى في فارس ومصر وآسيا الصغرى وأماكن أخرى بأعداد كبيرة، وهو ما يعني بطلان تلك المقولة من أساسها.
وفي نقاشه لكيفية تبلور مصطلح ” أرض إسرائيل” يثير المؤلف عددًا من الأسئلة تدور حول كيفية تحول الأرض ( الفلسطينية ) إلى وطن قومي لليهود يبدي فيه الناس استعدادهم للتضحية بأنفسهم من أجله، ويبرز السؤال الأهم: هل[ أرض إسرائيل] هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي؟.. يجيب الكاتب عن هذا السؤال بالنفي معتبراً أن الصهيونية سرقت المصطلح الديني «أرض إسرائيل» وحولته إلى مصطلح جيوسياسي مؤكدًا على أن أرض إسرائيل ليست وطن اليهود، وأنها تحولت إلى وطنهم فقط في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع نشوء الحركة الصهيونية التي دعت إلى تلك المقولة, وفقاً لما نادى به موسى هس في كتابه ( روما والقدس) بأن المشكلة اليهودية تكمن في عدم وجود وطن قومي لليهود. فجوهر الفكر الصهيوني يتمثل، في ما تزعمه، ” وثيقة الاستقلال” (14 ايار-مايو 1948 ) :” نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل, وفيها اكتملت هويته الروحانية والدينية والسياسية, وفيها عاش لأول مرة في دولة ذات سيادة, وفيها أنتج قيمه الثقافية والقومية والانسانية وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. وعندما أجلي الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة, حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره بأسره ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها”.