ملحمة “طوفان الأقصى” والتحديات المصيرية
مئة يوم وغزة تعانق السماء، وتقاتل جيش الاحتلال “الإسرائيلي” بالنار والدم ولحم أبنائها
وديع أبو هاني
اعلامي فلسطيني
14/1/2024
حتى كتابة هذه السطور نكون أمام حوالي مئة يوم على بدء معركة ملحمة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، وبدء العدوان على قطاع غزة الذي طال جميع مناحي الحياة في سياق حرب إبادة استئصالية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، وبكتلة نارية تدميرية لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية .. تصمد غزة … القطاع المحاصر في مواجهة جيش الإبادة وقتل النساء والأطفال، ومن خلفه داعميه الغربين، وفي مقدمتهم “رأس الحية” الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم جحيم الإبادة والصمت الدولي والعربي الرسمي على جريمة الإبادة الجماعية، وعمليات القتل والتهجير التي تتم أمام مرأى ومسمع العالم، إلا ان غزة الجيب الضيق والمحاصر، صنع من السابع من أكتوبر ملحمة أنهت وهم الكيان الإسرائيلي المتفوق أمنيا وعسكريا، فخلال عملية طوفان الأقصى وما تلاه، صنعت فصائل المقاومة الفلسطينية، ومن خلفها شعبها ملاحم كفاحية بينت هشاشة جيش ومجتمع الاحتلال الاستعماري، وفتحت الطريق أمام حلم العودة، كنقيض لمشروع التهجير الذي يتوهم الاحتلال إمكانية فرضه بقوة السلاح والتدمير على الشعب الفلسطيني.
المقدمات الموضوعية لملحمة “طوفان الأقصى”
لقد تعرض قطاع غزة لحصار مستمر لأكثر من ١٧ عامًا، رافق ذلك هجمات وحروب عديدة واجتياحات وتوغلات وسياسة حصار وتجويع ممنهج وغياب فرص العمل وموجات هجرة الشباب الغزيين عبر البحار، وعلى الرغم من الرسائل العديدة التي وجهتها المقاومة خلال معارك “سيف القدس” و”ثأر الأحرار” في السنوات الأخيرة، وما بينهم من جولات قتال، لم يف بالمجتمع الدولي بتعهداته السابقة خلال حربي 2014 و2021 في إعادة الإعمار ورفع الحصار على الأقل عن قطاع غزة.
كما استمر تغول الاستيطان وتسليح المستوطنين بالضفة الغربية، واستباحة الأرض الفلسطينية وتكرار الاعتداءات على القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، وشن حرب على الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، ترافق ذلك مع أخطر المحاولات باستمرار تدنيس واستباحة المقدسات الفلسطينية الإسلامية والمسيحية وفرض وقائع جديدة بالقدس المحتلة، بالتزامن مع تحكم وإدارة اليمين المتطرف بسياسات كيان الاحتلال، بما أثبت عدم إمكانية الحديث عن حل سياسي “سلام”، أو الرهان على انتزاع مكتسبات دون تضحيات، من كيان الاحتلال في ظل إدارة الظهر لمعاناة الشعب الفلسطيني، على المستوى الرسمي العربي والدولي، واستفحال مسار التطبيع الرسمي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني ومقدساته.
وإذ كانت فصائل المقاومة الفلسطينية، في سياق عملية الطوفان قد أكدت ان جملة من العوامل فرضت وأدت إلى اختيار التوقيت والتسريع لإطلاق المعركة في يوم السابع من أكتوبر، لما له من دلالات. وكذلك تقدير المقاومة أنه بات مطلوباً على نحو سريع إبطال وقطع الطريق على تدحرج عملية التطبيع العربي الرسمي إلى مستوى غير مسبوق، خاصة من قبل المملكة العربية السعودية، ولما تشكله من وزن وتأثير في العالم العربي والإسلامي، وأثر ذلك على الدول المترددة في الانخراط بمسار التطبيع.
وكذلك تصريحات بعض مصادر حماس التي تشير إلى أنها أرادت تسريع الوقت للاستفادة من عامل الوقت قبل أن يحصل العدو على أسلحة ليزرية متطورة قد تؤثر قدراتها على قدرات المقاومة الصاروخية والمدفعية، وعلى القدرة الهجومية لصواريخ المقاومة في الوصول إلى أهدافها في الأراضي المحتلة خاصة أن القبة الحديدية فشلت في وقف تأثير صواريخ المقاومة.
ويمكن في إطار التحليل والمعلومات الإشارة إلى وجود مخططات إسرائيلية استباقية لتوجيه ضربات استباقية للمقاومة وشن هجوم واسع لفرض مشاريع التطهير والتهجير اتجاه سيناء ضمن مخططات ما بات يعرف باسم صفقة القرن.
بالتأكيد لم تأتِ ملحمة “طوفان الأقصى” في ظروف مواتية، ولكن توقيتها ودلالاتها، جاءت نتيجة لتراكمات مأساوية وإنسانية واجتماعية نتيجة الاحتقان والضغوط التي مارسها العدو على قطاع غزة خصوصا، وعلى الشعب الفلسطيني عموما، والتي لم تسلم منها السلطة الفلسطينية الشريكة معه -المتعاقدة معه- باتفاقات أوسلو سواء في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية.
ورغم ما يمكن الحديث عنه مطولاً في أسباب “طوفان الأقصى” سياسياً، لقد جاء ٧ أكتوبر بعنصر المفاجأة والمباغتة وتحقيق الإنجاز العسكري الكبير والسريع الذي حطم صورة “كيان الاحتلال”، وهذا المنجز المهم الذي تحقق جاء بجهود وتعمية وتضليل وعمل قامت به المقاومة فوق الأرض وفي الأنفاق، ما مكن حماس مع امتلاك إمكانية تسليحية وبشرية، ونخبة مؤهلة من المقاومين لترسم صورة النصر في معركة ملحمة “طوفان الأقصى”.
أهداف العدوان “الاسرائيلي” المتمثلة بالحرب على قطاع غزة
لقد ركز العدو الصهيوني على محاولات تحقيق عدد من الأهداف بعدما فشل عسكريا “واستخباريا” في إنجاز أهدافه المعلنة، والتي لخصها بالإفراج بالقوة عن أسراه المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وتفكيك حركة حماس، وسعى بشكل محموم ومستمر لفرض التهجير القسري وتشجيع التهجير الطوعي وبأساليب ولافتات مختلفة.
يمكن القول ان الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه العسكرية، لكن لا يزال يصر على دفع أهلنا في قطاع غزة إلى النزوح خارج غزة كجزء من سياسة “الترانسفير” وإفراغ الأرض؛ وهو يلجأ اليوم، ومن خلفه داعميه الأوربيين والولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية إلى تشجيع وتقديم مبادرات، بجوهرها قائمة على التهجير الطوعي والإنساني سواء عن طريق المشافي العائمة حسب المبادرة الفرنسية لإخراج الأطفال والجرحى ومرافقين لهم، أو عبر فتح ممرات مائية بحرية بذرائع إنسانية، أو حث الدول على قبول “المهاجرين” من قطاع غزة.
وفي سياق ذلك جاءت الزيارة المشؤومة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، ولقاؤه قادة الاحتلال للبحث في ملفّ ما يسمّى التهجير الطوعي للغزّيين إلى دول غربية وما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، عن مصدر كبير في مجلس وزراء إسرائيل المصغر، والذي قال: إن تل أبيب تجري مباحثات مع الكونغو ودول أخرى “لقبول مهاجرين” من قطاع غزة.
تلك الجهود المبذولة لإعادة فرض سياسة التهجير على شعبنا، وما تعنيه سياسات التهجير والتطهير العرقي كجزء أساسي من العقيدة والممارسات الصهيونية قبل وبعد النكبة، تجعل مخطط التهجير الهدف الأكبر والأخطر في حرب الاحتلال الإبادية على قطاع غزة.
رغم ان أمكانية نجاح مشاريع التهجير الطوعي أو القسري مستبعدة، خاصة بعدما فشل مخطط التهجير الجماعي من خلال جرائم الإبادة في دفع سكان شمال قطاع غزة إلى الجنوب تمهيدا لطردهم لسيناء حسب مخططات الاحتلال، بسبب صمود ووعي الشعب الفلسطيني، وما كرسته النكبة من تهجير وطرد في عام النكبة ١٩٤٨، كدرس تاريخي لشعبنا بضرورة نضاله وكفاحه لإفشال مخططات العدو، والصمود تحت النار والحديد مهما كلف الأمر.
بينما يتجلى الهدف الثاني الذي سعى العدو لتحقيقه على صعيد الجبهة الداخلية الفلسطينية هو محاولات ضرب صمود المقاومة والحاضنة الشعبية لها واستغلال معاناة أبناء القطاع على الصعد الإنسانية والمعيشية، فسياسات التدمير الشامل للبنى التحتية والسكنية في قطاع غزة تهدف إلى محاولات خلق شرخ بين المقاومة والحاضنة الشعبية عبر تحميل المقاومة تبعات القصف الهستيري لحرب الإبادة التي يشنها، والتي طالت المستشفيات والأطقم الطبية والمدارس ودور العبادة والاعتقالات والتنكيل بالمدنيين تعويضا عن فشله العسكري في تحقيق الأهداف، وعلى رأسها هدف استئصال وتفكيك المقاومة واستعادة أسراه بالقوة، الأمر الذي فاقم من أزماته الداخلية، وسعَّر من تناقضاته بعد مقتل عدد من أسرى العدو بفعل القصف الهمجي للطيران الصهيوني وعملياته البرية الفاشلة.
أمام فعل الميدان وصمود المقاومة واحتفاظها بزمام المبادرة، وما تملكه من عدد كبير من الأسرى والمحتجزين الصهاينة، ونتيجة لفشل العدو من تحقيق أهدافه المعلنة لا يزال مسار العمليات العسكرية لجيش الاحتلال يراهن على إضعاف الجبهة الداخلية الفلسطينية، باستمرار الضغط الناري الجنوني واستثمار المعاناة الإنسانية والاجتماعية والمعيشية الحياتية للمواطنين إلى أقصى الحدود.
بالمقابل تسعى المقاومة، ومن خلال تفاعلات الميدان ومنجزها العسكري اليومي إلى تكبيد العدو المزيد من الخسائر البشرية والمادية لزيادة كلفة العدوان، وإدارة المعركة بشكل ناجح، عبر استثمار ورقة الأسرى الصهاينة، والتلويح بمصيرهم وخطر استمرار العمليات العسكرية على حياتهم، فلا خروج لأسرى الاحتلال دون الخضوع لشروط المقاومة، كما حدث في الهدنة الإنسانية التي أفضت لعملية تبادل مقابل الإفراج عن أسرى وأسيرات فلسطينيين.
تعتبر قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة والخسائر البشرية التي يتكبدها العدو، إضافةً إلى التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فضلاً عن احتمالية حدوث أزمات جديدة في الكيان الغاصب العنصري، مسألة هامة لتفاقم وتعميق أزمة العدو من الداخل ولإرساء معادلات جديدة تبدأ بوقف العدوان، وفتح الطريق للوصول إلى مفاوضات جديدة حول باقي الأسرى والمحتجزين الصهاينة على قاعدة الكل مقابل الكل وتبييض سجون الاحتلال وفق شروط المقاومة.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن ملحمة المقاومة الفلسطينية، وملحمة الصمود الشعبي يجب تعزيزها بعوامل أخرى، وذلك بتوسيع التحالف العالمي والشعبي لمواجهة العدوان وحرب الإبادة، وتوسيع نطاق ومشاركة جبهات الدعم العسكري، بشكل أوسع وأكبر عبر قوى حزب الله في شمال لبنان، ومناطق البحر الأحمر، الذي تلعب فيه المقاومة اليمنية دورا مهمًا، بالإضافة إلى دور المقاومة العراقية والمجموعات الأخرى المشاركة في محور المقاومة.
إن التركيز على نقاط ضعف العدو وتسعير تناقضاته الداخلية وكشف قبح صورته أمام العالم، وما يترافق من حراك عالمي تضامني لم نشهد له مثيلا هي جزء من المعركة الوطنية الفلسطينية على طريق هزيمة روايته واحتلاله وكشف جرائمه أمام الرأي العام العالمي.
ورغم المآسي والألم والدم المراق الجاري والأرقام المروعة التي نتجت عن العدوان تبقى للمقاومة كلمة الفصل والمآلات لصراع الإرادات والصمود، ومشهد التحام المقاومة بحاضنتها الشعبية لن ينجح العدو بتفكيكه عبر سياسيات القتل والمزيد من القتل والتدمير.
التحدي الداخلي الفلسطيني
تظل الورقة الوطنية الفلسطينية الأكثر أهمية في التحقيق هي الوحدة الوطنية سياسياً، وتعزيز وتوسيع نطاق المواجهة في الضفة الغربية والقدس، وفي أراضي شعبنا في عام 1948، دون تجاهل دور الشتات والمهاجر، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال حسم السلطة الفلسطينية لخياراتها البائسة لصالح الالتحام مع ملحمة شعبها على الصعيد الكفاحي والشعبي، وقيام الأجهزة الأمنية بدورها الوطني المطلوب بحماية شعبها من الاحتلال والمستوطنين. وبالتالي التحلل من التزامات وقيود اتفاقات أوسلوا الأمنية وثقافة دايتون الأمنية، وترجمة التفاهمات الوطنية المبرمة، وصولا لتشكيل مرجعية وطنية مؤقتة تقود معركة الاستقلال والتحرير إلى حين إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس سياسية وتنظيمية متفق عليها، والتي تضم وتمثل الجميع عبر إجراء الانتخابات الوطنية بسقف زمني متفق عليه وطنيا.
هذه الطريقة الفعّالة لإنهاء الانقسام السياسي والجغرافي، ومنع التدخل الخارجي والتآمر وفق التصورات الصهيونية والأمريكية والرجعية للحلول، فالمسار الوطني الجامع والموحد سيمنع تحقيق مكاسب للعدو.
وتحدّينا الوطني هو توحيد الإرادة الوطنية للمقاومة الشاملة كبديل وطني لإفشال محاولات العدو تدمير النظام السياسي الفلسطيني أو تجاوزه عبر تأبيد الانقسام الجغرافي.
والمباشرة اليوم، ميدانيا وسياسيا باستعادة الوحدة السياسية لا يعلو عليها أي أولوية، هذا واجب وطني لكل القوى السياسية في هذه اللحظات التاريخية خاصة ان العدو لا يزال يسعى ويراهن على تأليب الشعب الفلسطيني وأهلنا في غزة ضد مقاومته.
لقد علمتنا التجربة التاريخية للثورات، بأنه لا يوجد شعب في العالم انتصر دون تضحيات وأثمان عالية للنصر والتحرير، ولن يتحقق ذلك دون تعزيز الشراكة الوطنية وتصليب الجبهة الداخلية الفلسطينية، والاهتمام بمعاناة أهلنا وتخفيفها قدر الإمكان، ولنا في تجربة فيتنام والجزائر خير مثال وقدوة.
كل هذه العناوين للتحديات الوطنية الملحة، ستسهم في تقوية المناعة الوطنية وتوسع مساحة الدعم والتضامن من قبل الشعوب، وتغيير موازين القوى والتأثير في قرارات الحكومات المساندة للعدوان.
التحدي الجديد والمفاجئ على صعيد طوفان الأقصى ما حصل بالضاحية الجنوبية ببيروت، بإغتيال القائد صالح العاروري ورفاقه لما لذلك من دلالات والذي يشكل إحراج و تحدي جديد لحزب الله والذي لن يمر دون عقاب.
هذا إضافة للاغتيالات والتفجيرات التي تمت في العراق و ايران والهجمات التي طالت جبهة اليمن قبل أيام. كل هذه التطورات العسكرية والأمنية لم تكن لتتم دون علم وتنسيق مع الولايات المتحدة الامريكية.
من شان هذه التطورات المتسارعة ما قد يرفع من منسوب طوفان الأقصى على مستوى الاقليم والذي سيؤدي لاتساع جبهات محور المقاومة ويترك تداعياته على العراق وسوريا واليمن وصولاً للبنان.
لقد كانت رسائل السيد حسن نصرالله واضحة وجليه في صداها وتفاعلاتها في خطابه الاول والثاني والتي ستجد ترجمتها على جبهة العدو في الشمال وعلى تحركات الإدارة الأمريكية في المنطقة في الأيام القادمة.
وأخيرا يبقى تحدي جبهات الميدان وقوة صمود المقاومة ودعم محورها الطريق الأقصر لوقف العدوان وفرض شروط المقاومة.